سحب سوداء تتجمع على أسواق العقار الأوروبية

هل تنعكس هذه التطورات السلبية في نهاية المطاف على أسواق العقار الخليجية في المدى المنظور؟

سوق العقار البريطاني مهدد أكثر من الأميركي («الشرق الاوسط»)
TT

للمرة الاولى منذ ظهور ازمة الرهن العقاري الاميركية قبل شهور، يتبلور الوضع الاقتصادي الدولي الى كساد تجري مقارنته بالكساد العظيم الذي وقع في ثلاثينات القرن الماضي واسفر عن خسائر فادحة في الاقتصاد العالمي وانهيار 80 في المائة من قيمة البورصات. وتحاول البنوك المركزية إنقاذ ما يمكن انقاذه عبر ضخ مليارات الدولارات في الاسواق لتحسين السيولة وخفض اسعار الفائدة لتخفيف اعباء المقترضين والشركات. ولكن متاعب القطاع المصرفي مستمرة لأسباب متعددة تعود في اغلبها الى ازمة التمويل العقاري في القطاع غير المضمون المسمى «سب برايم».

لم تعد الازمة تقتصر على الولايات المتحدة وإنما بدأت في الانتشار بأوروبا ايضا، وعلى وجه الخصوص في بريطانيا. وتتكرر انباء شركات التطوير العقاري التي هجرت مشروعات كاملة بعد ان فشلت في الحصول على السيولة المالية الكافية، عبر الاقتراض المصرفي، لاستكمال عمليات البناء.

وعلى صعيد آخر، تتبلور ايضا مشكلة تراكم الديون العقارية على المقترضين في اوروبا بشكل متسارع ويسير على خطى ما سبق أن حدث في الولايات المتحدة وتسبب في الشرارة الاولى للأزمة. ويعاني المستهلك الاوروبي بوجه عام من ارتفاع اسعار الطاقة والسلع الغذائية وتكاليف المعيشة بشكل اجمالي، وفوق هذا كله تزايد قيمة الاقساط العقارية باهظة الكلفة. ويطرح هذا الوضع سؤالا حائرا ما زال حتى الآن افتراضياً، وهو: هل تنعكس هذه التطورات السلبية في نهاية المطاف على اسواق العقار العربية، والخليجية على وجه الخصوص، في المدى المنظور؟ فالمشروعات العقارية في المنطقة ما زالت محصنة نسبيا من الازمات الخارجية بفضل ارتفاع اسعار النفط ووجود السيولة المحلية، ولكن الامر الحيوي في المعادلة هو توقعات المستثمر. فلو حدث هذا التحول السيكولوجي، كما هو الحال في الغرب الآن، في ان الاسعار لا يمكن ان تستمر في ارتفاعها الى الابد، وانها في الطريق الى الهبوط، عاجلا او اجلا، لتغيرت هيكلية السوق بأسره من تسابق على الشراء الى امتناع عن الشراء حتى تهبط الاسعار عن معدلاتها المتضخمة حاليا. وهذا في حد ذاته يدفع الاسواق الى المزيد من الانهيار مهما كانت نسبة السيولة المتاحة. وعلى الرغم من ان بوادر هذا السيناريو لم تحدث بعد، إلا ان على شركات العقار الخليجية ان تلتزم ببعض الحذر في التوسع غير المدروس في المزيد من المشروعات التي اضحت الآن تنتمي الى عالم اقتصادي مستغرق في الانتعاش لم يعد له وجود. فالقطاع الموجه الى الاستثمار الاجنبي في مواقع مثل دبي والبحرين وقطر وعمان تكاد تتجمد الآن من انكماش الطلب، ويتحول التسويق تدريجياً الى المستثمر الاقليمي الذي لم يتأثر بعد من المناخ السلبي الدولي، وان كان متأثرا بشدة من ارتفاع نسبة التضخم العام في المنطقة وارتفاع تكاليف المعيشة.

ولعل عرض الصورة البريطانية، وايضا بعض الملامح الاوروبية، من شأنها ان تضع النقاط على الحروف لشركات العقار والمستثمرين المحليين من حقيقة الاوضاع الآن في اسواق العقار على هذا الجانب من البحر المتوسط. أما الوضع على الجانب الاخر من المحيط الاطلسي فهو غني عن التعريف.

من أحدث صناديق الاستثمار العقاري في اوروبا صندوق اسمه «اسيتز» مخصص لإنقاذ شركات العقار المشرفة على الافلاس بتسهيل الاقراض لها وتعويمها ومشاركتها في ما يمكن ان تحققه من ارباح من استمرار عملياتها. وهذا الصندوق هو آخر المؤشرات على تدهور الوضع العقاري في الاسواق، خصوصا في الاسابيع القليلة الماضية.

وعلى الرغم من ان الفجوة التمويلية تصل الى 10ـ 15 في المائة بين ما تحتاجه شركات العقار وبين ما تود او تستطيع البنوك ان توفره، الا ان ثمن سد هذه الفجوة سوف يكون باهظا لشركات العقار، حيث يطلب الصندوق مشاركتها في 50 في المائة من أرباحها، بالاضافة الى 15 في المائة من الفوائد على قيمة القرض. وفي حالات كثيرة يكون الاختيار امام شركات العقار هو بين قبول هذا العرض او اعلان الافلاس. ويقول مدير الصندوق ان العديد من شركات التطوير العقاري تقبل هذا العرض بلا تردد، مما يعني تفاقم وضعها المالي الى درجة الاشراف على الانهيار.

وقبل اسابيع عرضت «الشرق الاوسط» في ملحق العقار قصة مستثمرة غررت بها شركة عقار تقدم دورات تدريبية تعد بها المستثمرين بتحويلهم الى مليونيرات عقار في غضون شهور. هذا الاسبوع، أعلنت الشركة نفسها إلغاء هذه الدورات والامتناع عن تسويق الاستثمار العقاري على انه وسيلة للثراء، سواء كان هذا الثراء سريعاً او بطيئاً.

وفيما تباطأ القطاع الاسكاني الى درجة كبيرة، فإن الاستثمار في القطاع التجاري تجمد تماماً لأنه يحتاج في العادة الى درجة سيولة وإنفاق أعلى. ويقول مدير شركة عقارية صغيرة في لندن انه فشل في الحصول على تمويل بأيِّ سعر لكي يستكمل المرحلة الثانية من مشروع عقاري ضخم تقيمه الشركة في لندن. ويضيف مصرفي استثماري أن تمويل سوق العقار في مشاريع المضاربة انتهى، فالشركة لا بد أن تقدم ضمانات موثقة عن وجود مستأجرين ملتزمين وان يكون سجلها الائتماني طويلا وبلا شوائب، وان تشارك في المخاطر بنسبة كبيرة من رأسمالها. وفيما عدا ذلك فلا مجال الآن للتمويل.

وفي الأسبوعين الاخيرين، انسحبت البنوك من عدة مشاريع اسكانية فاخرة في بريطانيا واوروبا وتجمد التمويل تماما في هذا القطاع بعد ظهور متاعب مصرفية جديدة في الولايات المتحدة وانتشار اشاعات عن تصدع موقف مصرفين كبيرين على الاقل في السوق الاميركي. كما تسببت اشاعة عن تعثر بنك اسكوتلندي في بريطانيا الى انهيار قيمة اسهمه بحوالي 7 في المائة في يوم واحد. ولا تريد البنوك حاليا التعرض لمزيد من المخاطر في اسواق العقار السكنية.

وفي مثل هذه الاحوال تنشأ على الفور فرص استثمارية من نوع آخر، على غرار صندوق «اسيتز» الذي يستفيد من متاعب الشركات المتعثرة. فالجناح المالي في شركة لاسال الاستثمارية انشأ هو الآخر صندوقا لشراء الاراضي الشاغرة المخصصة لمشروعات البناء الفاخر التي لا تستطيع الشركات القيام بها. ويشتري الصندوق هذه الاراضي الآن بسعر السوق لكي يتيح من ثمنها بعض السيولة للشركات المتعثرة من ناحية ولكي يحتفظ بها للبيع او التطوير في المستقبل، على أمل تحقيق أرباح بين عمليتي الشراء واعادة البيع.

وحتى الصيف الماضي، كانت عمليات الاقتراض على المشاريع العقارية بكافة احجامها تجري بسهولة حتى نسبة 80 في المائة من قيمة المشاريع. أما الآن فالاسواق تجمدت ويتم تمويل نسبة محدودة من المشاريع المتوسطة والصغيرة بمعدلات لا تزيد عن 75 في المائة، بينما لا يتم تمويل المشروعات الكبيرة بالمرة. وتتفاقم مشاكل الشركات اذا كانت صغيرة الحجم وغير مدرجة على البورصة وغير قادرة على تدبير مصادر تمويل خاصة بها، مثل طرح السندات او طلب مساهمة حملة الاسهم فيها.

من ناحية أخرى، تقول مصادر حكومية للضمان الاجتماعي في بريطانيا ان طلبات الاعانة من مشاكل الديون زادت بحوالي 200 الف حالة في الشهرين الاولين من هذا العام، وان المعضلة الاساسية التي يواجهها المستهلك هو تزايد قيمة القسط العقاري بسبب ارتفاع اسعار الفائدة وتكلفة الاقتراض التي تفرضها البنوك. ولكن المشكلة تفاقمت لزيادة اعباء المعيشة بصفة عامة من زيادة في تكلفة الوقود والغذاء والمواصلات، بينما الاجور شبه ثابتة.

وفي الماضي، كان المتعثرون في بريطانيا يقترضون بضمان العقار لسداد الديون الاخرى فيما كان يعد في الماضي تمويلا رخيصا للديون مقارنة ببطاقات الائتمان، ولكن الآن انتهى هذا الخيار مع امتناع البنوك عن إقراض المزيد للقطاع المتعثر الذي يعتبر عاليَّ المخاطر في العرف المصرفي الآن.

وزاد من تفاقم الأزمة انتهاء فترات اسعار الفوائد الثابتة لملايين من القروض هذا العام واكتشاف المقترضين ان تكاليف الاقراض في السوق لتمويل ديونهم زادت بنسب كبيرة تصل احيانا الى 20 في المائة عما كانت عليه للاقساط الشهرية السابقة. ويقدر معهد المسح العقاري البريطاني ان هذا الوضع سيسفر عن انتزاع ملكية 43 الف عقار هذا العام لعدم قدرة اصحابها على سداد ديونهم.

وتزداد ازمة القطاعات المتعثرة في السوق لأن البنوك تضيف من الاعباء عليهم بأسعار فائدة مضاعفة تتوافق مع نسبة المخاطر التي يمثلونها. ولهذا تتوقع اسواق العقار نسبة قياسية من افلاس المقترضين هذا العام، وبالتالي تدهور اوضاع السوق من حيث الحفاظ على القيمة. وتتجمع هذه السحب السوداء على اوروبا ايضا التي تعانيها اسواق العقار من ازمة سيولة، وارتفاع شديد في قيمة اليورو، مع تراجع في اسعار العقار. ولا تنظر الاسواق الى الموقف كأزمة عابرة وانما كوضع قد يستمر عدة سنوات الى ان تنتهي ازمة الاسواق المالية وتستقر البورصات ويعود الأمان الى اسواق العقار بشقيها المعماري والمالي.