أزمة العقار البريطاني تدخل مرحلة «حرب الاستنزاف»

ثلث شركات التسويق العقاري مهددة بالإفلاس هذا العام

العقارات البريطانية تفقد قيمتها بسرعة (خدمة كي أر تي)
TT

لا تبدو في الافق بعد اي مؤشرات على تحسن الاوضاع في اسواق العقار البريطانية، مع فشل الحكومة في اقناع البنوك بتقديم المزيد من التسهيلات للمقترضين، واعتراف وزير المالية البريطاني ان الازمة المالية هي الاكبر عالميا منذ الكساد العظيم في الثلاثينات. ومن المتوقع ان يغلق ثلث شركات التسويق العقاري في بريطانيا ابوابها هذا العام مع توجه الازمة الى المزيد من الانكماش الائتماني الذي يكاد يخنق سوق العقار تماما. وتقول مصادر السوق ان المرحلة الحالية تشبه حرب الاستنزاف التي سوف تسقط خلالها الشركات الضعيفة تباعا. وعلى الرغم من ان شركات التسويق العقاري مكروهة تقليديا في بريطانيا للاعتقاد السائد بأنها تكسب الكثير مقابل القليل من الجهد، خصوصا في اوقات الانتعاش، الا ان اشراف معظم هذه الشركات على الافلاس يعد علامة خطيرة على سوء أحوال الاقتصاد، حيث انعدام البيع والشراء العقاري، معناه تجمد الأسواق العقارية والاستهلاكية وزيادة المخاطر على أسواق التوظيف. وفي محاولة يائسة جاءت اقل من المتوقع ومتأخرة بعض الشيء، خفض بنك انجلترا المركزي سعر الفائدة الأساسي الى خمسة في المائة فقط وحث البنوك التجارية على خفض معدلات الاقراض لمساعدة ملايين المتعثرين. كما وعد رئيس الوزراء، الذي زار الولايات المتحدة أخيرا لبحث الأزمة، بتوفير المزيد من خطوط الائتمان للبنوك خلال الفترة الصعبة. ولكن بنك هاليفاكس، بدلا من خفض معدلات الفائدة على القروض العقارية رفعها بنسبة نصف نقطة. ومن المتوقع ان تتبعه بقية البنوك الأخرى.

ويدرس بنك انجلترا والعديد من البنوك المركزية على جانبي الأطلنطي وسائل تسهيل الإقراض للبنوك المكبلة بأوراق مالية شبه مضمونة بقروض عقارية رديئة، منها اقتراح قبول هذه الاوراق المالية كضمانات من اجل خطوط اقراض جديدة. ويطبق بنك انجلترا ايضا خطة مستعارة من الاحتياطي الفيدرالي الاميركي بإقراض البنوك لفترات طويلة بدلا من الاقراض لعدة ايام كما كان المعتاد سابقا في عمليات الاقراض بين البنوك. وتأتي هذه الخطوة غير المسبوقة في وقت صعب لسوق العقار، حيث حذرت حوالي اربعة آلاف شركة تسويق عقاري انها قد تغلق ابوابها وتفلس هذا العام اذا استمر الوضع الجاري، وهي نسبة الثلث من حوالي 12 الف شركة تسويق عقاري في بريطانيا.

وتحاول البنوك المركزية تشجيع البنوك التجارية على عمليات الاقراض لبعضها بعضا، حيث كان امتناعها في الفترة الاخيرة من بين اسباب الازمة الائتمانية لعدم توافر السيولة لاقراض مستثمري العقار. كما تحاول الحكومة اقناع البنوك بمساعدة المتعثرين وتجنب الاستيلاء على العقارات بقدر الامكان، لان الأزمة العقارية تصاحبها الآن ازمة اقتصادية مركبة قوامها التضخم من ارتفاع أسعار النفط والعديد من السلع الأولية والغذائية، وتراجع البورصات الى درجة فقدان آلاف الوظائف في القطاع المالي، وفقدان ثقة المستهلك الذي احجم عن الانفاق. وتهدد ازمة الثقة بقاء الحكومة البريطانية التي تعاني هي الأخرى من فقدان ثقة الناخبين فيها بغض النظر عن الاسباب الحقيقية للأزمة الاقتصادية، وهو موقف يتكرر مع حكومات كثيرة حول العالم يتهمها الناخبون بأنها لم تقم بواجبها في حماية المستهلك.

ولجأ رئيس الوزراء البريطاني غوردون براون الى خطوات غير عادية لطمأنة المواطنين وسط تزايد اللغط الاعلامي عن تراجع شعبيته. فكتب في صحيفة شعبية هي «نيوز اوف ذا ورلد» انه سوف يحث البنوك على خفض معدلات الفائدة التي تفرضها على المقترضين بنفس النسبة التي يخفض بها بنك انجلترا نسبة الفائدة الأساسية. ومن غير المعروف كيف يمكن للحكومة البريطانية الضغط على البنوك لخفض الفوائد، خصوصا ان البنوك لم تلتزم بخفض مماثل للفائدة مثل التخفيض المتكرر من بنك انجلترا في الشهور الاخيرة بل رفع بعضها الفوائد على المقترضين في مخالفة للتيار المعهود، وبسبب الضغوط المالية على البنوك من اسواق المال.

وخلال زيارته الأخيرة الى الولايات المتحدة طالب براون البنوك الرئيسية في العالم بأن تراجع حساباتها وان تعلن بصراحة عن حجم الخسائر التي في دفاترها حتى يتم رصدها وإزالتها والبداية من جديد، بعيدا عن حالة عدم الثقة الموجودة حاليا في الاسواق. كما طالب بدور مؤثر للمؤسسات العالمية، مثل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، والا فقدت مصداقيتها في العالم.

ولكنه قد يكتشف ان الازمة في بريطانيا نابعة جزئيا من النظام المصرفي البريطاني، حيث لا يقبل بنك انجلترا من البنوك سوى الاوراق المالية الممتازة ومنها الديون العقارية، بشرط ان تكون من مستوى الثلاثة نجوم، ولكن البنك المركزي الأوروبي والاتحاد الفيدرالي يقبل ان مستويات متعددة من الصكوك المالية دون هذا المستوى، مما يتيح المزيد من السيولة للبنوك بضمان ما تملكه من ادوات مالية حتى ولو كانت غير ممتازة. وقد يضطر بنك انجلترا الى ان يتبع الاسلوب نفسه حتى يتيح المزيد من السيولة للبنوك البريطانية.

وقد حذر رئيس مجلس شركات الاقراض العقاري البريطانية ستيفن كروشو ان حجم الاقراض العقاري البريطاني سوف ينخفض الى النصف هذا العام من 108 مليارات استرليني، اذا لم يقدم بنك انجلترا المزيد من التسهيلات. ويصل معدل الاقراض بين البنوك حاليا الى حوالي ستة في المائة رغم خفض سعر الفائدة الاساسي الى خمسة في المائة.

ومن المؤكد ان هذه الازمة سوف تسفر عن بعض التغييرات المصرفية من حيث الرقابة والاشراف المالي لاجبار البنوك على الكشف عن ديونها الرديئة والتعامل مع الموقف بشفافية، حتى يستأنف السوق نشاطه على قواعد واضحة. ولكن مهما كانت الخطوات التي سوف تتخذ في المستقبل القريب، فإنها لن تكون كافية لكي تنقذ الوضع الخطير الذي تعاني منه اسواق العقار حاليا.

وتتكرر قصص شقاء شركات التسويق العقاري التي اضطر بعضها الى اغلاق 90 في المائة من فروعها لعدم وجود نشاط عقاري سواء بيعا او شراء. وبدأ بالفعل تسريح الموظفين في العديد من شركات التسويق العقارية. وتشير مؤشرات السوق الى انخفاض عدد المشترين وكذلك عدد العقارات المعروضة في السوق، كما تقول شركات ائتمان ان عدد حالات المتعثرين زادت في الربع الاول من العام بنسبة 30 في المائة.

ويجري تقييم الوضع من قبل العديد من أطراف السوق، حيث يؤكد بعضهم ان الوضع الحالي هو الاكثر صعوبة طوال حياتهم العملية، كما ظهرت تعليقات في مؤتمرات مالية عقدت في لندن وليدز غرب انجلترا تشير الى حجم المشكلة كما يراها أهل الصناعة المالية أنفسهم.

ومن ضمن هؤلاء الذين عبروا عن الواقع الحالي في السوق البريطاني كانت هذه النخبة التي تنظر الى السوق من زوايا مختلفة وترسم بوجهات نظرها فيما بينها صورة قاتمة لما يجري في الاسواق في الوقت الحاضر.

• مدير البنك: ويعبر عنه مدير البنك التعاوني ستيف برو الذي يقول انه عايش ازمة العقار السابقة التي وقعت في بداية التسعينات وان مصدر احباطه الآن هو ان العامة لا يفهمون اسباب ما يحدث ويصدقون عناوين الصحف مما يسبب لهم الكثير من القلق. وقد بلغ الامر ببعض المدخرين تجزئة حساباتهم الادخارية بين العديد من البنوك حتى يتجنبوا ازمة سقوط احدها على الرغم من تأكيد مدير البنك لهم ان مثل هذه الاحتياطات غير ضرورية. ويذكر هؤلاء ما حدث لبنك «نوزرثرن روك» وخشيتهم من تكرر الازمة في بنوك يتم احتفاظهم فيها بكل مدخراتهم، على الرغم من ان مدخري البنك المنكوب تم تعويضهم بالكامل.

•المستشار المالي: ويشكو احدهم في لندن من ان الازمة الحالية زادت من ساعات عمله ومن اعباء الفريق الذي يعمل معه من دون ان يكون لهذا الجهد الاضافي اي عائد مالي. وبسبب القلق السائد، يتلقى المستشار المالي عشرات المكالمات الهاتفية يوميا للاستفسار عن الوضع ويتم شرح الوضع لكل عميل على حدة. ويجد المستشار المالي صعوبة في الاجابة عن بعض الاسئلة التي يستفسر اصحابها عما اذا كان السوق سوف ينهار اكثر، واذا كان من الجدوى الاستمرار في الاستثمارات المالية او الانسحاب من السوق والاحتفاظ بالاستثمارات نقدا. وليست هناك اجابات واضحة على هذه الاسئلة سوى بشرح المخاطر التي يقبل عليها كل مستثمر في كل حالة، وهذا يستغرق وقتا طويلا.

•سمسار القرض العقاري: ويعبر عن هؤلاء مدير شركة برايفت فاينانس نيكولاس مري الذي يقول ان الازمة المالية حولته من متفائل الى متشائم. وهو لا يرى المشكلة وكأنها أزمة عابرة وإنما وضع مستمر ومتفاعل في المدى المنظور ويجب التأقلم عليه. وهو يعتقد ان اسوأ مظاهر الازمة هو عدم وضوح الرؤية وحالة الاضطراب التي لا يعرف معها خبراء المال كيف يخططون للمستقبل. فحتى قطاع العقار الاستثماري للإيجار أصبح من الصعب حساب المكسب والخسارة فيه لعدم وضوح معدلات الايجار او الفائدة في المدى المنظور. وبالنسبة الى نشاطه يعترف الخبير المالي بأنه يجد بعض الصعوبة في العثور على زبائن وانه مهدد في دخله الان لان الازمة المالية وصلت الى عتبة داره! وهو يضيف ان اصعب اوجه نشاطه حاليا اضطراره الى ابلاغ العميل ان القرض الذي كان تم التفاهم بشأنه مع البنك قد تم سحبه من السوق. وهو يعيب على البنوك عدم وضوح الرؤية لديها ويقول انه في بعض الحالات يراجع بعض العروض على الانترنت ثم يذهب للاتفاق مع عميل ويتم توقيع كافة المستندات وعندما يعود الى المكتب يجد ان عروض القروض قد تم سحبها. كما تلجأ بعض البنوك الى عدم الرد على المكالمات الهاتفية او رفض الطلبات من دون ابداء الاسباب.

• مدير ادارة القروض المصرفية: ويقول غاري نولاند ان اعباء العمل تزايدت عليه وعلى فريق مكون من 120 موظفا يجرون نحو 60 الف مكالمة هاتفية يوميا بزيادة 30 في المائة عن المعدل العادي. وهو يحاول من ناحية ان يساعد المتعثرين ومن ناحية اخرى ان يحافظ على مصالح البنك بالسعي لاستعادة اقساط القروض. ولكن الاوضاع السائدة في السوق لا تساعد مهمته، حيث العملاء مكبلون بالديون على رغم رغبتهم في البحث عن حلول لمشاكلهم الائتمانية. وهو يعتقد ان المشكلة تتفاقم بالنظر الى حجم المكالمات المتصاعد وايضا الى حقائق السوق، حيث الشركات والبنوك تعلن انها سوف تستغنى عن آلاف الوظائف في الاسابيع القليلة المقبلة.

• المحامي: ويقدم المحامي براين اندروز من لندن صورة مغايرة تماما عن الصورة التي يرسمها رجال العقار، حيث يقول ان نشاط البيع والشراء لم يتأثر في قطاع النخبة، بل ان الصفقات مازالت تجري وان كانت بلا تسرع كما كان الحال سابقا. وما زال الطلب عاليا على قمة السوق، وافرز التشدد في تقديم القروض ان القليل من الصفقات يفشل حاليا مما يسهل مهمة المحامين. كما خرج من السوق الهواة وغير الجادين وغير الأثرياء مما جعل العمل يجري بوتيرة أفضل.

• سمسار التسويق العقاري: وهو اضعف حلقات السوق، حيث ينعكس على هذه الشركات مباشرة التراجع الحاد في عدد الصفقات وفي قيمتها ايضا. ويقول موظف في شركة «رايت موف» ان السوق يعاني من انعدام الثقة وانعدام الرؤية ايضا. واصعب جانب في هذه الوظيفة اقناع اصحاب العقارات بتخفيض توقعاتهم بالنسبة لسعر البيع، ولكن هذا الجانب هو الشاغل الأساسي لكل شركات التسويق العقاري في بريطانيا حاليا. وهو يؤكد ان معدل النشاط الجاري انخفض بحوالي 30 الى 50 في المائة، كما ارتفعت نسبة الصفقات التي لا تتم لسبب او لآخر.

• مستشار الديون: وتصل الى شركات الاستشارة بشأن الديون حوالي الف مكالمة يوميا في المتوسط، ومعظم المتعثرين هم الذين اقترضوا باكثر من طاقتهم ثم سددوا ديونهم بقرض واحد يعجزون الآن عن تسديد اقساطه الامر الذي يهدد بمصادرة عقاراتهم الضامنة لهذه القروض. ويقول بيتر وايت الذي يعمل في هذا المجال ان الوظيفة متعبة من الناحية النفسية لانه يتعامل مع اشخاص مهددين بالطرد من منازلهم وتتراكم عليهم اقساط القروض العقارية المتأخرة. وهو يضيف ان هذا الوضع نشأ من الاعتقاد الخاطيء ان القيمة الذاتية تأتي من حجم الممتلكات العينية وان الجميع يمكنهم الحصول على ما يريدون ولو بالديون. وهو يود تغيير العقليات السائدة الى مجتمع يشعر افراده بالمسؤولية المالية، ويعتقد ان الازمة الحالية قد تحدث مثل هذا التغيير المطلوب.