سيناريوهات نهاية مشاكل الرهن العقاري

الأزمة قد تنتهي مع استئناف شراء ديون البنوك

الموقع المناسب حيوي عند الشراء في الأسواق الأميركية (خدمة كي آر تي)
TT

منذ عام واحد لم يكن يعرف كثيرون عن أزمة الرهن العقاري الأميركية، وان كانت بشائرها كانت قد ظهرت في عدة مؤتمرات مصرفية أميركية. فقد كانت بداية المتاعب تراكم حالات عدم القدرة على دفع أقساط القروض العقارية، مع هروب البنوك من الأزمة بالمزيد من تسهيلات الإقراض وتوسيع رقعة النشاط لتعويض الخسائر. وكان أساس النشاط في هذه الحلقة المفرغة ما يسمى «توريق» الديون (Securitization)، وهو أسلوب تغليفها كوعاء استثماري للمستثمرين من بنوك أخرى ومؤسسات مالية، بحيث توزع البنوك مخاطرها على غيرها لقاء هامش فائدة إضافي كانت تفرض اكبر منه على المقترضين.

لكن عندما انفجرت الفقاعة بوصول القروض المكشوفة الى حدود غير محتملة للبنوك، واكتشاف ان الكم الهائل من صكوك التوريق الخاصة بالديون العقارية غير قابل للبيع ولا قيمة له، كان الأمر بمثابة العاصفة الهوجاء التي أطاحت بعشرات البنوك الأميركية وكادت تعصف بالاقتصاد العالمي كله. وكانت مشكلة البنوك أنها اكتشفت فجأة أنها تملك أصولا استثمارية لا قيمة لها. وهنا كان لا بد من تجاوز المشكلة باعتراف كل بنك بما يملك من صكوك رديئة ورصد مبلغ الخسائر، الذي كان يقدر بالمليارات في كل حالة.

وما زالت الأزمة فاعلة حتى الآن، حيث ما زالت البنوك تحتفظ بكم كبير من هذه الأصول المشكوك في قيمتها من دون أن تعترف بأنها ديون مشكوك في قيمتها. وكانت الصعوبة الأساسية هي عدم إمكانية وضع ثمن او قيمة على هذه الصكوك، وبالتالي استمرت حالة التردد وعدم اتخاذ القرار، واستمرت كذلك ازمة الديون العقارية المتعثرة.

لكن الأسبوع الماضي شهد تحولا جذريا من شأنه ان يكون بمثابة الضوء الخافت في نهاية النفق المظلم لازمة الرهن العقاري. فقد أعلن بنك الاتحاد السويسري «يو بي إس»، انه باع صفقة ديون مشكوك فيها قيمتها 15 مليار دولار الى بنك استثماري أميركي اسمه «بلاك روك». واشترى «بلاك روك» هذه الأصول بسعر يبلغ 75 في المائة من قيمة الأصول. وهذا يعني ان البنك الاستثماري يعتبر ان في استطاعته تحصيل 80 في المائة على الأقل من هذه القروض لكي يجعل الصفقة مربحة له. كما انه، وهو الجانب الأهم، يوفر للبنوك الأخرى، مرجعا مهما لقاع السوق ويضع قيمة كانت مجهولة حتى الآن على الصكوك المشكوك فيها. وهذه الصفقة يمكن ان تكون مفتاح الحل في مشكلة الرهن العقاري الحالية، كما كانت صفقات مشابهة بمثابة بداية النهاية في أزمات اقتصادية سابقة. وقد حدث هذا في أزمة القروض والادخار الأميركية في بداية التسعينات، وفي أزمة البنوك اليابانية في نهاية التسعينات.

والجانب المهم في مثل هذه الصفقات انها تستعيد حركة السوق مرة أخرى، بعد ان تجمدت نتيجة الخوف من المخاطر وعدم القدرة على تقدير القيمة المجهولة لاصول مشكوك فيها في سوق منهارة. وتحتاج البنوك حاليا الى المزيد من الصفقات المشابهة لتلك التي عقدها بنك «بلاك روك»، وهو الأمر غير المعروف بعد. كما يحتاج السوق الى تقويم الديون لان ذلك يحرك أيضا نشاط شراء الشركات وانضمامها لبعضها بعضا في صفقات تشمل تقويم ديون كل منها. ويؤثر الوضع الحالي في صناديق الاستثمار في الشركات لأنها كانت تمول نشاطها من القروض التي أضحت غير متاحة حاليا. وتقول مصادر هذه الصناديق ان البنوك العالمية لا تقرض بأي حال إذا كان حجم القرض اكبر من خمسة مليارات دولار. وتلجأ هذه الصناديق حاليا الى تحويل نشاطها من شراء من الشركات بالقروض الى شراء القروض المتراكمة من الصفقات السابقة، بأسعار مخفضة.

وتبدو البنوك متحفزة لبيع اكبر نسبة ممكنة من ديونها المورقة الى جهات أخرى بأكبر قيمة ممكنة. وكان آخر الصفقات من بنك سيتي والبنك الألماني دويتشه وكلاهما شارك في صفقة بيع ما قيمته 20 مليار دولار من هذه الديون لبيوت استثمار خاصة بأسعار مخفضة. وتبدو نسبة الأرباح الممكنة من هذه الصفقات افضل مما يمكن تحقيقه من نشاط بيع وشراء الشركات. لكنها صفقات تتضمن نسب مخاطرة عالية، حيث أجريت صفقة في بداية الأزمة بنسبة 96 في المائة من قيمة الديون وهي صفقة هبطت قيمتها كثيرا منذ ذلك الحين.

وفي المناخ الحالي لا ترغب شركات الاستثمار في الإسراع بشراء القروض المشكوك فيها لئلا تمسك «بسكين ساقطة»، وهي تنتظر قاع السوق حتى تكون المخاطر في اقل حدودها وهوامش الأرباح في حدها الأقصى. ولا يعرف احد الآن على وجه التحديد ما اذا كانت الأزمة قد وصلت الى قاعها ام لا، لكن من الأخبار المشجعة ان هناك حوالي 80 شركة استثمار تحاول عقد صفقات شراء قروض مشكوك فيها وتتفاوض على نسبة الثمن التي تريدها اقل من 80 في المائة. وهناك شركة واحدة لديها من الأصول حوالي 4.5 مليار دولار مخصصة لهذا النوع من الاستثمار.

والصعوبة التي تواجهها شركات الاستثمار ليست في إيجاد رأس المال فهناك العديد من المستثمرين الذين يعرفون بوجود فرص جيدة في هذا المجال، لكن إمكانات إدارة هذه الديون بكفاءة لتحقيق هوامش الأرباح يحتاج الى موارد بشرية وإدارية اكبر من حجم السوق المتاح نظرا لضخامة حجم الديون المتعثرة. كذلك توجد صعوبة أخرى في تحديد قيمة الأصول المتعثرة من الطرفين في مناخ ما زالت فيه أسعار العقار الأميركي تتراجع، ويصاحبها ارتفاع في حالات الإفلاس وعدم القدرة على الدفع.

وفي أسواق اليوم لم تعد أصول المحاسبة التقليدية ولا تقييم الملاءة ذات جدوى. وحتى قياس قيمة الديون بمقارنتها بقيمة العقارات لم يعد مجديا في مناخ ديناميكي يتحرك يوميا، الى الهبوط في الغالب. والمعتاد في هذا القطاع ان تكون النسبة حوالي مائة في المائة اي ان يماثل حجم الديون ثمن العقار. لكن أحيانا توجد قروض أخرى غير معلنة تجعل نسبة الديون أعلى من قيمة العقار بنسب تصل إلى 160 في المائة في المتوسط.

ولا ترغب البنوك الأوروبية أيضا في بيع الأصول المتعثرة بأسعار رخيصة لأنها تعتبر ان قيمتها تراجعت بأكثر من الحد الأدنى المطلوب فيها. وتبدو حركة التبادل المتاحة في السوق حاليا هي من بنوك تبيع أفضل اصولها بأسعار جيدة تصل الى 86 في المائة من القيمة الأصلية.

وتحاول بعض شركات الاستثمار إغراء رؤوس الأموال من مواقع مثل اليابان والشرق الأوسط، وهي المواقع الأكثر سيولة في العالم الآن، على الاستثمار في الأصول المتعثرة. لكن مثل هذه المخاطرة تحتاج الى حسابات دقيقة تأخذ في الاعتبار حالة الاقتصاد الأميركي بشكل عام. والتوقعات تشير إلى ان الانهيار في القيمة لم يصل بعد الى قاع الهبوط الممكن في سوق العقار الأميركي، لان الأسعار استمرت في التراجع بصورة قياسية في شهر فبراير (شباط) الماضي، وهو آخر شهر تشمله الإحصاءات. وتقول الإحصاءات إن متوسط سعر العقار الأميركي في عشر مدن تراجع بنسبة 13.6 في المائة خلال العام الأخير، وهو اكبر تراجع منذ بداية تجميع الإحصاءات. وكانت لاس فيغاس وميامي اللتان تراجعت فيهما أسعار العقار بنسب اكبر من 20 في المائة أسوأ المواقع.

وهناك مخزون هائل من العقارات غير المباعة يماثل حجم مبيعات 11 شهرا، وهو مخزون ما زال يرتفع بسبب تزايد عدد العقارات المصادرة لسداد الديون عليها بنسبة اكبر من تلك المباعة. وهناك نحو عشرة ملايين أميركي يملكون الآن عقارات عليها قروض بأكبر من قيمة هذه العقارات. وعلى الرغم من المحاولات الحكومية للمساعدة إلا أنها محاولات تواجه معارضة شديدة من عدة جهات. ويقول خبير اقتصادي «إن الاقتصاد الأميركي تم اختطافه من قِبل مجموعة اتخذت الكثير من القرارات الخاطئة، والحل هو في دفع اقل فدية ممكنة لأقل المخطئين ذنبا لكي نفرج عن الاقتصاد مرة أخرى».

رغم التدهور القياسي.. البعض يعتبر التوقيت مناسبا للشراء الآن

* قد تكون البنوك متفائلة بنشاط شراء الديون المشكوك فيها، لكن الأزمة العقارية الأميركية لم تنته بعد بقياس مؤشرات السوق. والى من يشك في عمق الأزمة عليه ان يعرف ان هناك ثمانية آلاف عقار أميركي تقع يوميا في براثن استيلاء البنوك عليها تسديدا للديون المتراكمة عليها. ويمثل هذا الحجم من الإفلاس العقاري رقما قياسيا يدل على أن الأزمة بعيدة تماما عن اي حل قريب. ومع ارتفاع تكاليف القروض العقارية بحوالي 65 في المائة عما كانت عليه في العام الماضي، سوف يصل عدد العقارات المصادرة لصالح البنوك حوالي مليون عقار.

وتقول مصادر عقارية في ولاية نيفادا إنها الأكثر تأثرا بالأزمة، حيث تستولي البنوك فيها على عقار من كل 146 عقارا، وزادت نسبة المصادرة في الشهر الماضي بحوالي أربعة في المائة عما كانت عليه في ابريل (نيسان). ويقارن هذا الوضع بنسبة عقار مصادر من بين كل 519 عقارا على المستوى الأميركي. ويدخل مالكو العقار مرحلة التخلي عن العقار عندما تتراكم عليهم الديون مع انعدام القدرة على الوفاء بأقساطها. ويقول البروفيسور روبرت تشيلر، استاذ الاقتصاد في جامعة ييل الأميركية: «إن نشاط الاستيلاء على العقارات المتعثرة سوف يتضاعف قبل ان يتحسن الوضع في السوق الأميركي». وهو يقدر أن تكون أسعار العقار الأميركي قد تراجعت بنسبة 15 في المائة من قيمتها حتى الآن، وأنها يمكن ان تتراجع بنسبة إجمالية قدرها 30 في المائة. وهو لا يخشى بالضرورة على أسواق العقار، إنما على الاقتصاد الأميركي، الذي يعاني من ارتفاع أسعار الطاقة والغذاء مع تراجع في ثقة المستهلك. وهناك مؤشرات تؤكد أن هذا الاقتصاد دخل بالفعل مرحلة كساد. ويعاني العديد من الصناعات الأخرى من انعدام الطلب وبالتالي تراجع أسعارها، مثل السيارات والعطلات والأدوات المنزلية.

والنتيجة الإجمالية لهذه المؤشرات هي ان السوق الأميركي ليس السوق الأفضل للاستثمار الأجنبي في الوقت الحاضر، على الرغم من تراجع الأسعار فيه بنسب كبيرة. والسبب هو ان تيار التراجع ما زال مستمرا، وبالتالي يمكن للمستثمر، لو انتظر قليلا ربما الى العام المقبل، ان يشتري العقارات نفسها بأسعار ارخص. وهناك بالطبع العديد من الاستثناءات لهذا المنطق. فالعقارات النادرة في قطاع القمة، لا يجب الانتظار في حالة عرضها في السوق لأنها لا تتأثر في العادة بالتحولات الآنية للأسواق. أيضا يمكن للمشترين بعملات غير الدولار الاستفادة من أوضاع السوق مرتين: مرة بقيمة العملة القوية إزاء الدولار، ومرة أخرى بسعر العقارات الأميركية المنخفضة. أيضا المشتري للمدى البعيد قد لا تهمه التحولات المرحلية للأسعار بقدر ما يهمه اختيار العقار الملائم في الموقع المناسب. اما الفئة الأخرى، فهي تلك التي تقبل على شراء العقارات الأميركية كمكان لقضاء العطلات، وهي فئة تعرف ان الأسعار قد تتراجع في المدى القصير قبل ان ترتفع مرة أخرى، لكنها تريد العقار للاستمتاع بالعطلات بغض النظر عن تحولات السوق.

والأمر الحيوي في الشراء داخل السوق الأميركي في الوقت الحاضر، هو الحرص على اختيار الموقع المناسب، ففي بعض المواقع الجيدة ما زالت الأسعار تحافظ على قيمتها وبعضها يرتفع. ويقول بعض الخبراء إنه من الأفضل أحيانا الشراء قبل بلوغ الأسعار حدها الأدنى وبداية الانتعاش التالي، حيث ستكون علامات هذا الانتعاش واضحة للجميع، وبالتالي سوف يكون التنافس مكثفا على الشراء السريع، وربما بيعت العقارات بسرعة لمشترين آخرين في زخم المنافسة. أما الآن، فإن المستثمر يبحث عن العقار المناسب بهدوء ويملي شروطه ويحصل على أفضل الصفقات من دون منافسة تذكر. وتتفق الأسواق على ان الاقتصاد الأميركي سوف يعاود نشاطه، لكنها لا تعرف متى بالتحديد.