فرنسا: قطاع العقارات يصمد في وجه الأزمة العالمية

ساعدته عوامل مثل ارتفاع الطلب واتباع توجه حذر إزاء الائتمان والرهن العقاري وتدني المضاربات

TT

في أحد أيام شهر مايو (ايار) الجافة، صارع العشرات من العمال تحت وطأة سحب كثيفة من الغبار لوضع أساس مشروع سكني وتجاري عملاق بواحد من أكبر مواقع التشييد والبناء في فرنسا. وشهد العامان الماضيان توافد بعض المشترين للفوز بشقق بمجرد الإعلان عنها داخل الموقع بالطرف الغربي من باريس بمنطقة «إل سيجوين ريف دي سين». ومع أن مظاهر الحشد تلك اختفت اليوم، فلا تزال حركة البيع نشطة، حيث تم بيع ما يزيد على 800 شقة من إجمالي 1.100 معروضة بالفعل في السوق. ويأتي ذلك على الرغم من وجود أزمة ائتمان عالمية نجم عنها ظهور ارتفاعات «وهمية» بمجال العقارات بمناطق أخرى من العالم. وفي هذا السياق، أشار جان فرنسوا جابيلا، رئيس «الاتحاد الفرنسي للمتعهدين والمقاولين» الذي يمثل شركات البناء بقوله:«أعتقد أننا سنتأثر بهذه الأزمة، لكن ليس بدرجة كبيرة وليس بنفس أسلوب تأثر دول أخرى بها. ولا أعتقد أنه سيطرأ تغيير كبير على الأسعار».

جدير بالذكر أن خطة المشروع العقاري الضخم سالف الذكر تتضمن بناء 5.300 شقة بحلول عام 2010، إضافة إلى مكاتب ومتنزهات و70 مطعماً أو منافذ للبيع بالتجزئة على الأقل، بجانب فندق وحرم جامعي. من ناحيتهم، يتوقع الكثير من المحللين حدوث انخفاض على مدى طويل في أسعار العقارات في الولايات المتحدة وبريطانيا واسبانيا وايرلندا وسط مؤشرات على تباطؤ النمو واستعادة أسواق الائتمان عافيتها وتخلصها من التداعيات السلبية المترتبة على إقراض جهات تنطوي على قدر كبير من المخاطرة.

بيد أنه في الوقت الذي يشعر فيه ملاك المنازل داخل فرنسا بالقلق أيضاً بشأن قيمة منازلهم واحتمالات أن تنخفض الأسعار، يبدو سوق العقارات الفرنسي أكثر استقراراً، وقد ساعد على ذلك عوامل مثل اتباع توجه حذر إزاء الائتمان والرهن العقاري وتنفيذ عمليات شراء تنطوي على قدر أقل من المضاربة، إلى جانب عدد من العوامل الاجتماعية والديموغرافية. وفي إطار آخر مسح أجراه في مارس (آذار)، توصل «الاتحاد الفرنسي لوكلاء العقارات» إلى أن الأسعار ارتفعت بنسبة 0.1% عما كانت عليه في فبراير و2.5% عن العام السابق، رغم وجود تباينات من إقليم لآخر. من ناحية أخرى، توقعت وكالة «ستاندرد آند بورز» المعنية بالتصنيف في وقت سابق وصول مستوى التضخم في أسعار المنازل إلى 3% على المدى المتوسط. في المقابل نجد أنه في بريطانيا، انخفض مؤشر «هاليفاكس» بمقدار 2.5% في مارس، وهو أكبر انخفاض له منذ مطلع التسعينات، و1.3% في أبريل. من ناحيته، يتوقع المصرف الاستثماري الأميركي «مورغان ستانلي» أن تتراجع أسعار المنازل داخل بريطانيا بمقدار 15% على امتداد العامين المقبلين. يذكر أنه في بعض أجزاء الولايات المتحدة انخفضت الأسعار بهذه النسبة بالفعل عن نقطة الذروة التي بلغتها من قبل.

وفيما يتعلق بفرنسا، تتمثل أحد الأسباب وراء الصمود الواضح لسوق العقارات بها في استمرار ارتفاع معدلات الطلب. وكشفت الإحصاءات الصادرة عن الوكالة الوطنية للإحصاء أن فرنسا شهدت أكبر معدل للمواليد على مستوى أوروبا عام 2006. ووصل متوسط عدد المواليد للنساء في سن الخصوبة إلى ما يزيد قليلاً على اثنين. في الوقت ذاته، لا تزال معدلات الهجرة قوية، بينما تتزايد معدلات الطلاق. في هذا الصدد، أوضح « جابيلا» ان: « لدينا المزيد والمزيد مما نطلق عليه، أسر يعولها أحد الوالدين، وهو أمر جيد للسوق ـ حتى وإن كان غير جيد من المنظور الاجتماعي».

وأعرب «جابيلا» عن اعتقاده بأنه من أجل تلبية الطلب القائم، يتعين على فرنسا بناء 500.000 منزل سنوياً. وفي العام الماضي، حققت صناعة البناء رقماً قياسياً، حيث تم بناء 435.000 منزل. ومن المتوقع انخفاض هذا الرقم خلال العام الجاري بالنظر إلى الصراع الذي تخوضه شركات البناء في مواجهة الارتفاع الحاد في تكلفة المدخلات وندرة الأراضي بسبب التنظيمات الحكومية الصارمة. ومن بين الأسباب الأخرى وراء تأثر فرنسا بصورة أقل حدة عن غيرها من الدول بالأزمة العقارية العالمية أن توفير الائتمانات بها جاء في حدود أضيق عما كان عليه الحال داخل بريطانيا وايرلندا، حيث تكشف الأرقام الصادرة عن وكالة « ستاندرد آند بورز» أن متوسط ديون الأسر الفرنسية بلغ 47% من إجمالي الناتج المحلي خلال الربع الثالث من عام 2007، مقارنة بـ59% بمنطقة الدول المتعاملة باليورو و97% في بريطانيا. ويميز بعض المحللين، مثل أودو ريفنر أستاذ القانون والاقتصاد بجامعة «هامبرغ»، بين نمطين من الثقافة الائتمانية داخل أوروبا، أولهما يتميز بقدر أكبر من الحرية ويتركز بشمال أوروبا، وثانيهما ثقافة أخرى ذات طابع محافظ أكبر في الجنوب، حيث تتميز الوحدة المؤلفة للأسرة بقدر أكبر من التماسك وتضطلع بدور الدائن وتوفر الدعم الإسكاني. علاوة على ذلك، تخضع إجراءات سداد الفائدة في فرنسا لتنظيمات بالغة الصرامة. على سبيل المثال، يحدد المصرف الفرنسي سقفاً لمعدلات الفائدة التي يحق للمقرضين فرضها. وبصورة عامة، لا تقرض المصارف داخل فرنسا أكثر من 33% من إجمالي الدخل.

ولا يوجد بالبلاد رهن عقاري بنسبة 100% وتتميز غالبية قروض المنازل، حوالي 85% منها، بقيمة ثابتة. أما القروض ذات القيم المتغيرة فتصاحبها أسقف معينة، ما يحد من الزيادات التي تشهدها عمليات السداد عندما ترتفع القيم. علاوة على ذلك، يعتقد الخبراء أن المنازل داخل المناطق الفرنسية التي تشهد إقبالاً من جانب المشترين، مثل باريس والريفيرا ونورماندي وغيرها، قد تحتفظ بقيمتها مع تسابق الأجانب لشراء عقارات إلى جانب الفرنسيين الأثرياء.

من جانبه، أشار «جلين كوبر»، الاستشاري الأميركي بمجال تأجير وبيع الشقق في فرنسا، إلى أنه: «في باريس، يتوافر قدر ضئيل من أنشطة البناء، أو لا يوجد نشاط على الإطلاق. وبالنظر إلى الضآلة البالغة في جانب العرض، سترتفع الأسعار على المدى البعيد حتى لو تم اتخاذ إجراءات تصحيحية».

* خدمة «نيويورك تايمز»