المدن الجديدة العملاقة.. الأمل والتحدي

تمتد من الصين إلى الخليج.. والشارقة النجم الصاعد

الشارقة بدأت تثير اهتمام العديد من المعماريين في العالم («الشرق الاوسط»)
TT

قال لي ريم كولهاس منذ عدة أعوام ونحن نسير بالسيارة في مدينة نيويورك: «لا تخبر أحدا.. لكن مدينة القرن العشرين قد انتهت. فلم يعد لديها الجديد لنتعلمه منها. فوظيفتنا الآن هي الحفاظ عليها».

ويتفق الكثير من مراقبي تطور المدن مع وجهة نظر كولهاس. لكن حتى هو لم يكن مستعدا تماما لما قد يحدث بعد ذلك.

في كل من الصين والخليج، ظهرت مدن تماثل نيويورك في الحجم بين عشية وضحاها. فمنذ 30 عاما فقط، كانت «شينتشين» قرية صيد صغيرة يسكنها بضعة آلاف من السكان، وكان يسكن مدينة دبي حوالي ربع مليون نسمة فقط.

أما اليوم، فيبلغ عدد سكان «شينتشين» ثمانية ملايين نسمة، وأصبحت الأبراج اللامعة في دبي، الواقفة في الصحراء في صفوف غير منتظمة، موقعا للمغتربين الأثرياء من الرياض وحتى موسكو.

وقد تضاعف حجم مدن تم إنشاؤها منذ مدة طويلة، مثل بكين و«قوانغتشو»، أكثر من مرتين خلال عقود قليلة. إن هذه المدن العامة أو الجاهزة، كما يطلق عليها، التي أنشئت في سرعة استثنائية، ليس لديها مركز يمكن إدراكه، أو هوية فريدة. وفي بعض الأحيان يكون من الصعب اعتبارها مدنا.

وقد وصفت دبي، التي تعرف بأغلى الجزر الخاصة في العالم وأعلى مبنى وقريبا أكبر مدينة ملاه، بـ«القبر المدني»، حيث يعيش الأغنياء منعزلين عن العمال المهاجرين الفقراء الذين يخدمونهم. وينتقد البعض «شينتشين» بأنها نتاج التنمية غير المنظمة، التي تناسب المتأملين الذين بدأوا في تطويرها وليس العمال الذين يسكنون في مجمعات صناعية ضخمة.

لكن بالنسبة للمهندسين المعماريين، أصبحت هذه المدن أيضا ميدانا للتجارب العمرانية، على نطاق لم يحلم به حتى فنانو عصر الحداثة، الذين تصوروا المدينة كموقع لبناء الأبراج الساطعة.

«لم يعد النموذج القديم المتوقف على البيئة المحيطة مناسبا».. هكذا قال لي جيس ريزير، وهو معماري من نيويورك يعمل في دبي، ويتابع: «فما هي البيئة المحيطة التي نتحدث عنها في مدينة لا يتعدى عمرها عدة عقود؟، إن المشكلة هي أن نبدأ في التعرف على وجهتنا من هنا».

إن مجرد عدد المشروعات قيد التنفيذ والاستثمار المماثل في البنية التحتية المدنية، وهي عبارة عن شبكات كاملة من قطارات الأنفاق الجديدة وطرق حرة وقنوات، ومطارات جديدة عملاقة وحدائق عامة ـ يعطي انطباعا بأن كل شيء ممكن في هذا العالم الجديد.

ويعيد نطاق هذه المشروعات إلى الذاكرة أوائل القرن الماضي في الولايات المتحدة، عندما كانت تتجه بثقة نحو المستقبل. لكن لا يمكن تخيل هذا يحدث في مدينة أميركية اليوم، حيث يعتبر مد خط أنفاق واحد مثل العمل البطولي، بسبب ميزانيات الولايات والمدن المنخفضة.

وأخبرني ستيفين هول، وهو معماري من نيويورك يعمل في عدة مشاريع كبرى في الصين بقوله: «في أميركا، لا يمكنني أبدا أن أعمل مثلما أعمل هنا». مشيرا إلى أحدث مجمع أنشأه في بكين.. «أصبحنا نبدو متأخرين. في الصين، يريدون أن يبدو كل شيء جميلا.. إنهم يريدون أن يكون القرن الحادي والعشرون قرنهم».

من حق هول أن يكون مبتهجا، فمشروعه في بكين، «لينكد هايبريد»، هو أحد أكثر المجمعات السكانية ابتكارا في العالم. وهو مكون من ثمانية أبراج غير متساوية تتصل بشبكة من الكباري الداخلية. لكن كل ذلك له مقابل «حيث يستطيع أغنى سكان بكين فقط الحياة هنا».

وبالصعود إلى أعلى أحد أبراج هول، نظرت من خلال الضباب إلى مساحات الأبراج السكنية الفاخرة المحيطة بأبراجه، وهي كالأقسام المنعزلة التي أحيانا ما توصف بالعلامة على التنمية الحرة المجردة من الإنسانية. وأقيمت تلك البنايات السكنية العالية، التي يحميها حرس مسلحون، فيما كانت منذ فترة ليست ببعيدة حيا للطبقة العاملة، لكن سوء جودة البناء جعلها تبدو وكأنها بنيت من عشرات السنين. وبالقرب من هذا المكان، يتصل طريق حر بالحي، ليشوه المنطقة التي كانت في الماضي تمتلئ بالحياة.

ويبدو أن مدنا مثل هذه، ذات النطاق الضخم من البناء، تستوعب أي نموذج عمراني مهما كان فريدا، من دون ملاحظة. فمن الممكن أن يبدو مشروع له أثر مهم على هيئة مدينة مثل نيويورك، مثل مشرعات تطوير مركز التجارة العالمي، كصورة بسيطة في بكين، التي قامت بعشرات المشروعات المماثلة في العقد الماضي وحده.

وفي أحد مشروعات التنمية في دبي، وهي مدينة ساحلية، اقترح كولهاس إقامة جزيرة عمرانية مستوحاة من جزء من وسط مدينة مانهاتن. ويصل التصميم بين مجموعة كبيرة متساوية من الأبراج التقليدية بالبر الرئيسي عن طريق مجموعة من الكباري. وكان من المقرر أن تعطي مجموعة من المباني المذهلة، كرة مجوفة عملاقة على طراز بيرانيسي على حافة الجزيرة، وبرج حلزوني يدور حول قاعة رئيسية عامة في الجو، طابعا مميزا للمدينة.

وقال كولهاس إنه يأمل بهذه الطريقة في أن يضيف إلى هذه التنمية الحديثة شيئا يضفي شعورا بمدينة قديمة. لكن بينما تثير رسومات المشروع الاهتمام، إلا أنه ما زال يفكر في كيفية إنشاء وحدة عضوية.

وأجاب كولهاس عندما سألته عن المشروع بقوله: «إن مدينة مثل دبي بنيت في الصحراء»، مضيفا: «هناك تحول غريب بين الكثافة والفضاء. فنادرا ما تشعر بأنك تصمم من أجل شعب موجود بالفعل، بل من أجل مجموعات عليها أن تجتمع معا. فلا يمكنك أن تجد أساسا تقيم عليه أسلوبا للبناء». ويقول كولهاس إنه يأمل في أن يكتسب التصميم تعقيدا عندما ينتهي العمل من مرافق المباني، ويقول إن الحكومة قد طلبت بناء دار للقضاء ومسجد على الجزيرة.

وتتفق تحديات بناء مدينة صغيرة الحجم من لا شيء مع واقع العمل في السوق العالمية. إن معماريا في مكانة كولهاس قد يعمل في الوقت نفسه على تصميم مجمع لمقر التلفزيون في بكين وآخر لسوق البورصة في «شينتشين» وحي من 20 مبنى في دبي، بالإضافة إلى عشرات البنايات في أوروبا.

وتعني المنافسة من أجل إنجاز هذه المهام أن على المعماريين أن يضعوا تصميمات جذابة في أسابيع أو أشهر، مع تأقلم هذه التصميمات وفقا للظروف المحلية.

عندما جاء وكيل عقارات صيني إلى ريزير وشريكه، ناناكو أوميموتو، لعمل تصميم عمراني في فوشان، صمموا (مع شريك صيني) نظام «الحصير» العمراني، وهو عبارة عن شبكة متعددة الطبقات من الطرق والمساحات التجارية القصيرة، تعلوها حديقة محاطة بمبان سكنية وتجارية. وفي العام الماضي، فشل المشروع الصيني، وجدد ريزير وأوميموتو الفكرة في دبي. وأعيد رسم التصميم ليناسب الموقع المطل على المياه، فتمت إضافة أسواق عربية لتعبر عن العادات المحلية. وكانت النتيجة هي منظر فني رائع لكيفية الربط بين العناصر المختلفة للحياة العمرانية، لكن بدا أنه من الممكن أن يقام في أي مكان.

ويعمل كولهاس في مشروع آخر ضخم، وهو على أطراف «شينتشين»: مجمع مكاتب على شكل خط متعرج يستند على أعمدة كبيرة من الصلب مما يترك مساحة لحديقة عامة حالمة. وتجعل كثافة البناء في «شينتشين» بكين، تبدو وكأنها واسعة. فقد تم بناء معظم الأبراج في العقد الماضي، كجزء من الانتعاش الذي حدث نتيجة للاستثمار الأجنبي في المنطقة، عندما أعلنت كمنطقة اقتصادية خاصة في أوائل الثمانينات.

وقد سمحت الحكومة الصينية في البداية لكثير من سكان القرى الصغيرة المحيطة بالدلتا بالاحتفاظ بأراضيهم. وبينما ازدادت قيمة الأراضي من حولهم، ظل سكان القرى في مناطقهم المتزايدة السكان. وتشهد هذه القرى على الصعاب التي يواجهها شباب العمال في الصين الجديدة.

وإذا كانت «شينتشين» رمزا لما قد يحدث عندما تشتد رأسمالية الأسواق الحرة، فهي أيضا نموذج لما يحدث تلقائيا عندما يترك الناس ليدافعوا عن أنفسهم. ويتطلع فنانون معماريون آخرون إلى أساليب بناء تعكس عموم البلد، فيبحثون عن مناطق عمرانية أكثر اعتدالا وشعبية. وقد بنيت مناطق الشارقة ذات الطبقة المتوسطة، وهي ثالث أكبر مدينة في الإمارات العربية المتحدة، من دون بهرجة أحدث المناطق العمرانية.

ويتساءل شومون باسار، وهو ناقد يعيش في لندن، عما إذا كان من الممكن أن تكون هذه المناطق أساسا لاستراتيجية عمرانية جديدة لا تعتمد على نماذج واردة من الغرب أو نماذج مكررة عن الأسواق المحلية.

وكما قال لي كولهاس أخيرا في مكتبه في نيويورك، إن العمل على نطاق واسع لا يعني عدم أهمية خصائص المكان.. «فلا أظن أن أيا من المباني التي أقمتها نموذج لشيء ما، كما يفعل فنانو الحداثة»، متابعا: «إذا كان لها دور، فذلك وفقا للبيئة المحددة المحيطة بها. ولا يمكنك نقلها إلى أي مكان آخر».

لكن هل تحديد الموقع يكفي؟، يقول كولهاس: «إن كثرة المباني تصبح أمرا سيئا من دون وجود مخطط لها».

خاتما كلامه: «ففي كل مرة تسأل نفسك: هل لديك الحق في أن تعمل على هذا النطاق الكبير، إذا لم تكن تعرف كيف سيبدو العالم بهذا الشكل؟، نحن نشعر بهذا حقا. فهل سيحين الوقت الذي نعرف فيه؟، لا أدري».

* خدمة «نيويورك تايمز»