المفقود في بكين الجديدة.. الأحياء القديمة

الإعداد للألعاب الأولمبية أطلق برنامجا ضخما لإزالة الحارات والشوارع الضيقة

تجديد المنازل بسبب ثراء الطبقة المتوسطة في الصين يؤثر على الطبقات الفقيرة («نيويورك تايمز»)
TT

من الممكن أن تضغط المراحل التاريخية التي مر بها الغرب على مدى قرن إلى أقل من عشرة أعوام في الصين الحالية، وكذلك أيضا تعمل حركة الحفاظ على التراث في بكين.

حوّل النشاط الزائد في أعمال البناء الذي جعل من بكين مدينة حضرية على مدى العقد الماضي العديد من الأحياء التاريخية، التي كانت تشتهر بحاراتها وشوارعها الضيقة، إلى أنقاض.

وبينما بدأ دعاة المحافظة على التراث في الشعور بالخطر، سريعا ما حل مكان المباني القديمة المصنوعة من الخشب وأسقف المنازل القديمة المصنوعة من الفخار، التي تعطي لهذه الأحياء طابعها المميز، أبراج عملاقة، لدرجة تجعل من الصعب تحديد أين كانت تقع هذه المباني القديمة. والآن، بينما يحاول الصينيون المدافعون عن التراث حماية ما تبقى، إلا أنهم يواجهون تهديدا خطيرا مماثلا: وهو تجديد المنازل الناتج عن زيادة ثراء الطبقة المتوسطة مما يؤثر على الطبقات الفقيرة. فقد أصبحت المنازل القليلة القديمة ذات الساحات، وهي التي ظلت موجودة بعد الدمار الذي حل، رمزا لحالة نمو الطبقة العليا والمستثمرين الأجانب الأثرياء. وبينما يضخ المزيد من الأموال في أعمال التجديد الموسعة، لا تستهلك هذه الظاهرة السمات المميزة لهذه الأحياء فقط، ولكنها أيضا تهدد بمحو نمط حياة كامل.

وفي الوقت نفسه، يخفي الاهتمام المنصب على مصير الحارات الضيقة قضية محافظة أخرى ُملحة ضد تدمير المساكن ذات الطراز الاشتراكي والتي تعود إلى فترة من الخمسينات إلى الستينات. التهديد الوشيك بإقصاء التاريخ في رؤية معدلة للماضي بحيث يكون هناك القليل فقط من الحقائق.

وتعود أحياء الحارات الضيقة إلى القرن الثالث عشر، عندما أنشأ المؤسسين المنغوليين من أسرة يوان الملكية مساحات بكين الشبيهة برقعة الشطرنج. وظل تصميم الأحياء، حيث تمتلئ الحارات الضيقة بالحياة العامة، وتستتر الحياة الخاصة خلف جدران المنازل ذات الساحات، لم يتغير على نحو كبير في العقد الأول بعد تولي الشيوعيون مقاليد السلطة عام 1949. وتقع الأحياء الثرية ذات الحارات الضيقة في الشمال، بينما تقع الأحياء الفقيرة ذات الكثافة العالية في جنوب المدينة المحرمة.

ولكن بدءا من فترة الستينات، ومع الزيادة الهائلة في عدد سكان بكين، نشبت أزمة نقص المساكن. وأصبح فجأة على ثلاث أو أربع أسر كبيرة أن تزدحم في منزل ذي فناء كانت تقطنه في الماضي أسرة واحدة. في بعض الأحيان يملأ السكان الجدد، سعيا إلى المزيد من المساحات، الفناء بمطابخ مؤقتة وأسقف، محولين المساحات الخالية المرحة إلى غرف مختنقة مكتظة بالسكان. وكان القليل من المنازل بها مرافق مياه، وسريعا ما تحولت حارات الأثرياء إلى أحياء فقيرة مزدحمة.

وفي الوقت نفسه، مع اتساع المدينة الخارجي في الخمسينات والستينات، تهدمت الجدران المبنية من الأحجار القديمة المحاطة بمدينة بكين القديمة كجزء من عملية التحديث الكاسحة. وبدأت المصانع والمجمعات السكنية في النمو في وسط المدينة القديمة. وبدأت حلقة جديدة من المجمعات السكنية المكونة من وحدات على طراز اشتراكي من أربعة أو خمسة طوابق في الإحاطة بالمدينة.

بدأت موجة التدمير الحالية في أوائل التسعينات، حيث ازدادت تغييرات السوق الحرة زخما، ورأى المضاربون في سوق العقارات احتمالات الربح في إعادة التنمية. وقد تسارعت بعد قبول دعوة بكين لاستضافة دورة الألعاب الأولمبية في عام 2001، وبدأت المدينة في برنامج ضخم لإزالة الأحياء الفقيرة إعدادا للمدينة لكي تستقبل الزوار الأجانب.

وفي حي كيانمين، على سبيل المثال، حل مكان المنطقة التي كانت فقيرة ولكن مزدهرة جنوب ميدان تيانامين الذي كان موقعا للعديد من مقاهي المدينة ومسارحها، مراكز تجارية ومبان مكتبية ذات واجهات حديثة قبيحة تبدو بالية بالفعل الآن، على الرغم من أن عمرها عدة أعوام قلائل فقط.

والآن كل ما تبقى من مدينة بكين القديمة، إحدى بواباتها. ويتسع الطريق التجاري المفعم بالحياة إلى شارع كبير تكتنفه الأشجار مكون من ثماني حارات مرورية ويمكن للمشاة عبوره عبر جسور مخصصة لهم فقط.

وتسبب تدمير أحياء الحواري الضيقة والذاكرة الثقافية التي كانت تمثلها هذه الأحياء في احتجاج عنيف من النخبة الفكرية في المجتمع. وبدأ المدافعون عن القضية مثل هوا شينمين والصحافي وانغ جون في تنظيم مظاهرات على نطاق ضيق، وفي كتابة مقالات جذبت اهتمام الغرب وحولت الأمر إلى قضية دولية.

ومع زيادة حساسية الحكومة من النقد أثناء استعدادها لدورة الألعاب الأولمبية، أعدت خطة للحفاظ على المدينة باختيار 25 موقعا تاريخيا خاضعا للحماية في وسط المدينة. وعلى الرغم من بعض الانتهاكات، إلا أن سرعة إزالة معالم المدينة القديمة بدأت في التباطؤ على نحو كبير على مدى الأعوام القليلة الماضية.

ولكن لا يعود السبب في المصير الذي آلت إليه الحارات التاريخية إلى عدم اكتراث الحكومة أو مقاولي العقارات فقط؛ بل تعكس أعمال التدمير الطموحات الجديدة التي يسعى إليها الكثير من الصينيين. وفي السبعينات، لم تكن أفضل الوحدات السكنية منازل ذات أفنية في أحياء الحواري التاريخية، ولكن كانت المجمعات ذات البوابة التي تبنيها الحكومة، وكانت رمزا للمكانة الاجتماعية.

وكان التحيز ضد السكن في الحواري التاريخية وسط أفراد الطبقة المتوسطة متأصلا للغاية، لدرجة أن المهندس المعماري التقدمي يان وينغ، الذي كان يعيش في حي كيانمين، أخبرني أنه قد انتقل مؤخرا إلى برج متعدد الطوابق. وقال: «بالنسبة لنا نحن الذين نشأنا في الصين في عهد ماو، كانت المجمعات الحكومية دوما هي النموذج المثالي. وهذا لم يتغير كثيرا». وقد أدى اتساع الفجوة الكبيرة بين الأغنياء والفقراء في الاقتصاد المجنون في الصين الجديدة إلى زيادة معدلات الجريمة وشعور متزايد بعدم الاستقرار. يقول يان: «كنت لأشعر بالأمان اليوم، إذا لم يكن في المجتمع به مثل هذه المجمعات». السبب الرئيسي في اعتراضات سكان الأحياء التي تتعرض للإزالة هو عدم حصولهم على تعويضات من الحكومة أو المقاولين. وأصبح عليهم أن يبتعدوا عن وسط المدينة بحثا عن مكان يمكنهم تحمل نفقاته ليعيشون به. ويرى القليل منهم مناطق الحواري كمعالم تاريخية ذات قيمة كبيرة. وفي الوقت نفسه، أطلق الوعي التاريخي المتزايد بين المثقفين والأثرياء العنان لنوع مختلف من القوى الرأسمالية المدمرة. إن التحول المعماري المفاجئ الذي حدث للمنازل ذات الساحات جعل منها رمزا للمكانة الاجتماعية التي يطمح إليها الأفراد ذوي الموارد غير المحدودة. فبعد أن يشتري الأثرياء من الأجانب والطبقة الجديدة الثرية من الصينيين المنازل، يباشرون فيها عمليات تجديد تبلغ تكاليفها عدة مليارات من الدولارت، مما يسلب الأحياء هويتها وروحها.

عندما تكدس جيلان أو ثلاثة في منزل واحد، خرجت حياة الأسرة إلى الساحات والحواري الضيقة. وامتلأت الشوارع بالمحلات الصغيرة وأكشاك بيع الطعام؛ وجلس كبار السن على المقاعد القابلة للطي يلعبون الورق بينما تسير من حولهم الدراجات.

الآن، قد يسكن زوجان ثريان مع طفل واحد طيب السلوك في منزل ذي فناء، كان يعيش فيه أكثر من عشرة أفراد. وبدلا من طهي الطعام خارج السكن، تقيم الأسرة الصغيرة مطبخا على أحدث مستوى وحماما به ساونا ومكانا للعناية الصحية والتدريبات الرياضية، وجراجا تحت الأرض مخصص للسيارة.

وأضاف أحد أقطاب الصناعة الصينيين حمام سباحة تحت الأرض. وأصبحت شوارع بكين التي كانت في الماضي مكتظة بالحياة صامتة كالقبور، وعادية مثل بعض المناطق الاميركية.

كانت النتائج مذهلة في مناطق مثل نانلوغو شيانغ، وهو حي من الحواري التاريخية في مقاطعة دونغتشينغ شمال شرقي المدينة المحرمة. وقد اشترى هذا الحي، الذي كان في الماضي ممتلئ بالمنازل ذات الأفنية وواجهات المحلات غير المناسقة، مقاول محلي جدد أكثر مساكنه الآيلة للسقوط، وأجّر واجهات المحلات لتكون محلات سياحية. واليوم يبدو هذا الحي كنسخة صينية من شارع برنس في حي سوهو، بنيويورك: سوق تجاري مفتوح ذو واجهات تاريخية. وتصتف في الشارع محلات القمصان والمقاهي والمطاعم التي تقدم خدماتها للسائحين. وتجد السائحين يسيرون بلا هدف في هذا الشارع حاملين دليل الإرشاد السياحي في أيديهم وسط هذا المناخ الثقافي المزيف.

وعلى بعد خطوات من الشارع، توجد لافتة مكتوبة بخط اليد على أحد الأبواب تعلن عن رحلة في منزل تقليدي ذي فناء. وعند طرق الباب، تفتح لك سيدة كبيرة في السن صغيرة في الحجم، وترشدك إلى أن تدخل إلى الفناء، حيث يجلس رجل في متوسط العمر، ربما يكون ابنها، يعمل على إصلاح دراجته في ورشة في زاوية الفناء. ثم تقودك إلى المطبخ، حيث تريك بفخر بعض الصور القديمة البالية التي يظهر فيها جدها، الذي كان ضابطا في الجيش. وبينما تهم بالمغادرة، لا يسعك إلا أن تفكر في أمر هذه السيدة الكبيرة في السن، والتي تحاول بشجاعة أن تقاوم الثراء الذي يحيط بها. فستجبر في غضون فترة بسيطة على أن تغادر منزلها عندما يلتفت المقاول إلى المنزل ويستهدفه في أعمال التجديد.

هذا نموذج مألوف في المدن الاميركية. والحقيقة المؤلمة، كما يعرفها أي مؤرخ لفن العمارة، هي أن الفقر أحيانا ما يكون جيدا من أجل المحافظة على التراث؛ فلا يملك الفقراء الموارد التي تمكنهم من إزالة منازلهم وإعادة بنائها مع كل جيل جديد. بمجرد أن ينتقل مالك منزل ثري إلى المسكن التاريخي القديم، أول شيء يقوم (أو تقوم) بعمله هو إحضار جيش من المرممين ـ أو الجرافات. يعقد المدافعون عن التراث، الذين لا يتمتعون بنفوذ اقتصادي قوي في الغالب، صفقة: الحفاظ على البناء المعماري الأساسي. ويبدو أنه من المستحيل عدم الالتزام بهذا النموذج بدون تدخل عنيف من الحكومة.

وفي الوقت نفسه، تخضع إزالة المجمعات السكنية التي تعود إلى العصر الشيوعي في الخمسينات والستينات للرقابة. فربما تمكن رؤية هذه المباني كنموذج للإسكان الحديث في أي مكان: مبان قصيرة ممتدة تصطف حول ساحة مشتركة مزينة بأشجار متناثرة. ولتجنب تكاليف وضع مصاعد، حددت الحكومة الصينية معظم هذه المباني بأربعة أو خمسة أدوار. وتجمع الواجهة الرمادية جماليات حديثة مع بعض التفاصيل التقليدية.

ولكن تعكس هذه الوحدات السكنية خليطا من النماذج الصينية الاجتماعية التقليدية والأفكار الشيوعية حول الحياة الاشتراكية. في تلك الأيام، كان جميع العمال في الحضر مكلفين بوحدات عمل ملحق بها مساكن. وأحيانا ما كانت هذه المباني تقدم خدمات اجتماعية مثل العيادات وأماكن بيع غذاء منظمة.

وكما هو الحال في المنازل ذات الساحات، هناك تسلسل من المناطق العامة والخاصة. وتؤدي الحديقة المركزية نفس وظيفة الساحات، ولكن على نطاق أرحب. وفي الداخل، لا تتعدى مساحة الغرف الخاصة مساحة غرف النوم الصغيرة، مما يشجع المستأجرين على الاختلاط مع الآخرين في المطابخ المشتركة.

وعلى مدى الأعوام، تمرد الكثير من المستأجرين على التقسيمات المشتركة. ووضع الكثير منهم مناضد وأطباق ساخنة خارج غرفهم الخاصة، مما أضفى شعورا بالفوضى مثل الحواري القديمة المزدحمة. وتتعلق أهمية هذه المباني بتركيبتها الاجتماعية أكثر من قيمتها الرسمية كبناء معماري. وتقع هذه المباني على أطراف المدينة التاريخية، وقد أضفت على الأحياء القديمة ثراء وتركيبة قوية تتناقض مع الأحياء المتسقة الجميلة الهادئة. يقول يونغ هو تشانغ الفنان الصيني المعماري الذي أصبح أخيرا عميدا لكلية العمارة في معهد ماستشوستس للتكنولوجيا: «أكبر هذه الأحياء مدن صغيرة بالفعل. فالأشخاص الذين يعيشون هناك لديهم مدارسهم ومطاعم ومحلات تجارية. ولكنك في بعض الأحيان لا تعرف أنها هناك. إنهم وراء هذه الأسوار العملاقة».

ويضيف تشانغ أن ما يحدث هو هدم المباني المكونة من أربعة إلى خمسة أدوار من أجل بناء أبراج مبهرة. «وتظل الصورة الأساسية كما هي. لأنها كانت مختفية، فلم نكن نعرف حتى أنها هدمت». وفي عالم معقول، كانت القوى الموجودة لتقدر قيمة هذا التاريخ شارعا شارعا، ومبنا مبنا في مرة واحدة، قبل أن تهدمها. وقد سعى بعض المعماريين المهتمين، الذين لم يفكروا بهذه الطريقة، إلى ابتكار وسائل جديدة للمحافظة على التاريخ القديم. وقد قال المعماري الهولندي ريم كولهاس، الذي يبدو أنه موجود في كل أنحاء الصين هذه الأيام، إنه ينشأ عن تخصيص مبان محددة كمعالم تاريخية، صورة مشوهة من التاريخ. ولكنه اقترح إقامة منطقة محمية ممتدة في المدينة، حيث يتم الحفاظ على المباني التاريخية، من الحواري التاريخية إلى المشروعات الشيوعية، على نحو دائم. وستكون النتيجة متحف حي نوعا ما، وهو مكان ثابت، حتى إذا حدثت تغيرات هائلة من حوله.

ويبدو اقتراحه تحريضا أكثر منه رأيا جادا. ولكن من الواضح أن الحكومة الصينية تحتاج إلى أن تفكر في أنها تضحي بتاريخ الأمة الحديث والقديم. قد تصل إلى استراتيجية كاسحة يمكنها أن تكون نموذجا ليس فقط لبكين، ولكن للعالم أجمع. ويبدو أن الزمن هو الشيء الذي لا تملكه بكين.

* خدمة «نيويورك تايمز»