إسبانيا: شركات العقار تقدم حلولا مبتكرة

مع تعمق الأزمة في الصيف

المدن الجديدة الصديقة للبيئة توفر حياة نظيفة ولكن بثمن («الشرق الأوسط»)
TT

ظلت اسبانيا لسنوات طويلة تعتمد على نسبة عالية من المقيمين فيها من المحترفين المرتبطين بصورة او بأخرى بأسواق العقار فيها. فمنهم من يعمل في الصناعة نفسها بالبيع والشراء، ومنهم من يعمل في مجالات أخرى، ولكنه يسكن في اسبانيا بصفة دائمة هربا من دول أوروبية أخرى، لا تقدم له المستوى المعيشي الذي يحلم به من حيث أسلوب الحياة الاجتماعي السهل والطقس المعتدل.

ولكن هذه المعادلة بدأت تختل في الشهور الأخيرة مع تراجع أسواق العقار، حيث انخفض النشاط الاقتصادي بوجه عام وذهب الكثير من الوظائف ضحايا للوضع الاقتصادي الى درجة ان العديد من المقيمين في اسبانيا عادوا الى بلدانهم الأصلية او يفكرون الان جديا في العودة، الامر الذي انعكس سلبيا على أسواق العقار وساهم في تعميق الازمة التي تعيشها اسبانيا هذا الصيف. وتأتي هذه الازمة المباغتة بعد سنوات من النمو القياسي في الاقتصاد وأيضا في أسواق العقار. ويقول أحدث تقرير صادر عن منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية ان نسبة نمو الاقتصاد الإسباني هذا العام لن تزيد عن نصف ما كانت عليه في العام الماضي، وتهبط الى 1.6 في المائة، كما تتراجع أكثر الى 1.1 في المائة في عام 2009. ويضيف التقرير ان نسبة البطالة تصل الى حوالي 10 في المائة، اي أعلى من معدل منطقة اليورو، بما يترجم في صورة عملية حجمها 2.3 عاطل عن العمل في اسبانيا. وتزيد النسبة الى 12 في المائة بين المهاجرين والمقيمين في اسبانيا. وكان معظم العاطلين يعملون في مجال الإنشاء والبناء، وهو القطاع المعطل تقريبا في الوقت الحاضر بسبب أزمة الائتمان.

وتعترف الصحافة الإسبانية بأن فقاعة العقار التي استمرت نحو عشر سنوات قد انفجرت وتناثرت تأثيراتها على الاقتصاد كله. وينعكس الموقف سلبا على بعض الجنسيات المقيمة في اسبانيا خصوصا من المغرب ورومانيا وأميركا اللاتينية. ولا يرغب هؤلاء في العودة الى مستويات معيشة اقل في بلدانهم على الرغم من المتاعب الحقيقية التي يعانون منها بسبب البطالة في اسبانيا. ولم تستجب سوى نسبة صغيرة الى إعلانات تقدم وظائف جاهزة لأفراد الجالية الرومانية إذا عادوا من اسبانيا، وذلك لان معدلات الأجور في رومانيا لا تزيد عن الف يورو شهريا بحد أقصى، اي اقل مما يحققونه في اسبانيا. كما لجأت بعض العائلات المغربية الى حل وسط بعودة الزوجة والأطفال الى المغرب مع بقاء الزوج في اسبانيا لمحاولة تدبير النفقات حتى تتحسن أحوال سوق العقار والبناء مرة أخرى. وفيما تتوقف تقريبا أعمال البناء في مشروعات العقار التقليدية التي اجتذبت الكثير من الانتقاد بسبب كثافتها وسوء تصميمها وتهديدها للبيئة المحلية، فإن هناك بعض المشروعات الجديدة التي تراعي البيئة في المقام الأول. ويبدو ان الطلب على هذه العقارات البيئية يسير على ما يرام وفقا لما أعلنته بعض الشركات المطورة للمشاريع. من هذه المشاريع ما يبعد عن الساحل في منطقة أليكانتي بحوالي نصف ساعة بالسيارة من الساحل. المشروع يسمى «غران مونوفار ايكوسوداد»، ويعتبر الاهتمام الأول في المشروع هو للبيئة، ولكن ضمن مبدأ ألا تكون التكلفة أعلى من تكلفة البناء العادي. وتبدأ الاسعار في المشروع للشقق الصغيرة من حوالي 110 آلاف يورو، وهو سعر ينافس الشقق الصغيرة العادية.

وتشمل الملامح البيئية التي يحصل عليها المشتري مجانا، لأنها تأتي ضمن الثمن، مساحات مفتوحة من الجهتين لترشيد استخدام الطاقة من حيث التبريد صيفا عبر تيارات الرياح، والتدفئة شتاء عبر أشعة الشمس من الجهتين. ويتم تسخين المياه بألواح الخلايا الشمسية، كما تجري إعادة تكرير واستخدام المياه. وتوجد أوعية لاستقبال واستخدام مياه الأمطار مع صنابير خاصة لتوفير استهلاك المياه في الأغراض المنزلية. ويتم استخدام الطلاء الطبيعي في هذه العقارات الجديدة، كما ان الأخشاب المستخدمة في الإنشاءات كلها من مصادر متجددة. ويجري تحويل الفضلات الى سماد يستخدم في الحدائق والمساحات الخضراء حول المشروع.

وتشجع الحكومة الأسبانية هذا التوجه وتتيح الكثير من الحوافز النقدية والعينية للشركات للعناية بالبيئة. وقد يكون في هذه الحوافز، وأيضا في إقبال المشترين، خصوصا من أنحاء اوروبا، على هذا الأسلوب البيئي الجديد لتنمية العقار، المخرج الذي تنتظره اسبانيا لتخطى أزمة السوق الحالية وتقول إحصاءات الحكومة الإسبانية ان نسبة 12 في المائة من الطاقة الإجمالية مصدرها من الرياح، وهي نسبة عالية حتى بالمقاييس الأوروبية. بل ان اسبانيا تعتبر الدولة الثانية عالميا في إنتاج الطاقة من الرياح.

وتشترط الحكومة الإسبانية حاليا ان يتم تركيب الألواح الشمسية على سقوف كل المباني الجديدة قبل حصولها على التراخيص الرسمية. وتنفق الحكومة الإسبانية حوالي مليار يورو سنويا من الإعانات للمباني القديمة عديمة الكفاءة في استخدام الطاقة من اجل تحديثها وزيادة كفاءة استخدام الطاقة فيها.

ويقول رئيس الوزراء الإسباني خوزيه لويس ثباتيرو ان حكومته سوف تنفق ملياري يورو في العام الجديد لمساعدة مالكي العقار على تحسين كفاءة منازلهم بنسب تترواح بين 30 الى 60 في المائة، وتشرف الحكومات المحلية على التأكد من إنفاق هذه الميزانية في الأوجه المخصصة لها.

ويقول عمدة المنطقة التي يقع فيها مشروع «غران مونوفار ايكوسوداد» انه يدعم المشروع تماما ويتوقع انه سوف يفيد للمنطقة في المستقبل وانه سوف يجذب إليها الاهتمام العقاري والصناعات والخدمات والمزيد من السياح أيضا طبقا لما نقلته صحيفة الفايننشال تايمز. وتتوقع الشركة القائمة على المشروع ان تبيع نصف الوحدات البالغ عددها 828 وحدة بين شقق وبيوت منفصلة الى الإسبان أنفسهم الذين سوف يعيش معظمهم في المنطقة طوال شهور العام. ويهدف هذا التوجه الى منع تحول المشروع الى مستعمرة أجنبية يملكها من لا يقيم فيها إلا عدة أسابيع كل عام. وتباع النسبة الأخرى لأجانب من مختلف الجنسيات، ومعظمهم من الأوروبيين الشماليين.

ويعلق مستثمرون بريطانيون على أسباب إقبالهم على الشراء في هذا المشروع بالقول انه يقدم النموذج المثالي للمستقبل خصوصا في مجالات تكرير المياه، وهي مشكلة تعاني منها مناطق متعددة في اسبانيا. وهم يرون ان الإقبال الإسباني على المشروع أمر مشجع لأنه يجعل الشراء والإقامة في هذه المجتمعات نوعا من الاختلاط بأهل البلاد بدلا من الانعزال في مناطق سياحية تقتصر على البريطانيين وحدهم.

وتبدأ اسعار الفلل المكونة من أربع غرف وحمامين من حوالي 285 الف يورو، وهو معدل لا يزيد عن اسعار العقارات الأخرى غير البيئية.

وهناك مشاريع بيئية أخرى في أنحاء جنوب اسبانيا منها مشروع بالقرب من مدينة مورسيا القريبة من الساحل الجنوبي. ويسمى المشروع «لاس تورنتاس» ويتكون من 149 منزلا تبعد مسافة ساعة بالسيارة من الساحل والمطار الدولي. ويهدف المشروع الى خفض الانبعاث الكربوني واستخدام مواد بناء غير ملوثة للبيئة. وتشرف على المشروع شركة اسمها هاريال ويقول مديرها التنفيذي اندرو جونز ان الشركة تقوم بتركيب مضخات حرارية تقوم باستخدام الحرارة الجوفية في تدفئة المنازل شتاء وتبريدها صيفا. وتقوم المضخات بتحويل الحرارة في الصيف الى باطن الأرض في عملية تشبه ما تقوم به المبردات في استبدال الحرارة. ويعتبر هذا النوع من الاستخدام الحراري طاقة متجددة ولا تستخدم سوى الكهرباء لإدارة المضخات، وهي كهرباء مستمدة من الطاقة الشمسية. ويستخدم الوقود الحيوي لإدارة المركبات في المشروع كما يجري إعادة تدوير النفايات من البلاستيك والمعادن والزجاج وتحويل النفايات العضوية الى سماد. وبدأ العمل في المشروع في شهر مارس (آذار) الماضي وسوف تعرض الوحدات للبيع في نهاية العام على ست دفعات. وتترواح مساحات المنازل بين 200 و300 متر مربع مع إضافة حديقة وحمام سباحة لكل منزل. وتبدأ الاسعار من 292 الف يورو.

وهناك مشروع ثالث اسمه نوفا بولوب بالقرب من مدينة تحمل اسم بولوب على مقربة ثلاثة أميال من ساحل البحر المتوسط. ويضم المشروع مجتمعا مصغرا من حوالي ألفي مسكن، منها 67 فقط تعرض للبيع في المرحلة الأولى. وتبدأ الاسعار من حوالي 197 الف يورو. وتعترف الشركات انها تسعى من وراء هذه المشاريع للخروج من مرحلة الكساد. ويشعر المتابع لهذه المشاريع ان الشركات لا تهدف أساسا الى الحفاظ على البيئة، وان كان هذا هو الهدف المعلن، وانما تسعى لإرضاء المشترين بعد ان تأكدت ان المحافظة على البيئة صارت فجأة من أعلى الاولويات للمشتري الجديد في عصر أزمة الائتمان.

ولكن إذا كانت تكلفة بناء وبيع الوحدات العقارية التي تحافظ على البيئة توازي تكلفة البناء العادية، إلا ان المعيشة في عقارات المشاريع البيئية الجديدة من شأنه ان يضيف من أعباء أصحاب العقارات بمتوسط يبلغ الف يورو سنويا لإدارة منشآت الطاقة المتجددة وإعادة تدوير المواد، وفقا لأبحاث سوق جرت في بريطانيا.

وترى هذه الأبحاث التي أعلنتها وزيرة البيئة البريطانية كارولين فلينت هذا الأسبوع ان الالتزام بأهداف هذه المشاريع سواء في بريطانيا او في مواقع أخرى سوف يتطلب أيضا تغيير أسلوب حياة الأشخاص وليس فقط الاعتماد على تقدمه المشاريع في بداياتها. وسوف تضع الاقتراحات البريطانية بعض المعايير التي يتعين على المشاريع العقارية البيئية ان تلتزم بها حتى يمكنها ان تحمل هذا الاسم. وهناك العديد من الشركات البريطانية التي قدمت طلبات إنشاء مشاريع تحافظ على البيئة ولكنها فشلت في الحصول على التراخيص اللازمة لأنها لم تلتزم بالمعايير المطلوبة منها خصوصا في مجالات إعادة تدوير المياه والحد من استخدام السيارات. ومن بين 13 مشروعا بريطانيا جديدا لم تتم الموافقة حتى الان إلا على واحد فقط منها.