بريطانيا: شلل الأسواق يستمر 3 سنوات.. ولا حلول سحرية

صورة قاتمة رسمها تقرير عقاري

سوق العقار البريطاني يعيش في دوامة تراجع القيمة («الشرق الأوسط»)
TT

تسود أسواق التمويل العقاري البريطانية حالة من القلق وعدم الاستقرار بعد نشر تقرير ائتماني من لجنة تقصي حقائق كلفتها الحكومة البريطانية بدراسة وضع السوق واقتراح أفضل سبل الخروج من الازمة الحالية. وخلص تقرير اللجنة، التي رأسها السير جيمس كروسبي، الرئيس السابق لبنك اسكتلندا، الى ان الوضع متأزم فعلا، ولكنه أكد انه لا توجد حلول سحرية، او ما أطلق عليه اسم «رصاصة فضية»، لإخراج الأسواق من حالتها واستعادة النشاط مرة أخرى. ويرى التقرير ان حالة الشلل التمويلي السائدة في أسواق العقار حاليا سوف تستمر لمدة ثلاث سنوات على الأقل، او الى نهاية عام 2010.

وتعاني أسواق التمويل العقاري البريطانية حاليا من أزمة تمويل خانقة حيث تراجع حجم الإقراض العقاري الفعلي في شهر يونيو (حزيران) الماضي الى ثلث المعدل الذي كان سائدا منذ عام واحد. ويتوقع التقرير ان تستمر تكاليف الاقتراض في الارتفاع مع صعوبة الحصول على القروض، الامر الذي ينعكس سلبا على قيمة العقارات وعلى الصناعات المتعلقة بالعقار. وأشار التقرير أيضا الى ان الأسواق المالية التي كانت تساند التمويل العقاري بتوريق القروض في صيغة منتجات استثمارية، قد أنهت هذا النشاط تماما في الوقت الحاضر لاختفاء المستثمرين فيه. ولا يثق المستثمرون حاليا في اي استثمارات تقدم لهم يكون لها علاقة بأسواق تمويل العقار.

من حيث الحلول شدد التقرير على ان تدخل بنك انجلترا (البنك المركزي) في السوق لإنقاذ الموقف، على غرار خطوات اتخذها الاحتياطي الفيدرالي الاميركي، لن يسهم إلا في إبطاء التعديلات الهيكلية المطلوبة في السوق، وقد يعيق الخروج من الازمة ويزيد الوضع سوءا. كذلك لا ينصح السير كروسبي ان تتدخل الحكومة البريطانية بضمانات للقروض المصرفية بتحويل الوثائق التي تصدرها البنوك الى سندات تضمنها الحكومة.

ويرى كروسبي ان السوق سوف يحتاج الى ثلاث سنوات على الأقل لكي يحرز التغييرات الهيكلية المطلوبة لاستعادة التوازن على أسس سليمة، وبعيدا عن التدخل الحكومي. وتشمل هذه الأسس استقرار اسعار العقار على معدلات أدنى مما هي عليه الان، واستمرار معدلات الفائدة عالية نسبيا للحد من نشاط الاقتراض. وفي كل الأحوال يستبعد التقرير العودة في المدى المنظور الى عصر التمويل الرخيص.

ويصف السير كروسبي الوضع الحالي بأنه نتيجة للاعتماد المتزايد على أسواق التمويل المالي بالجملة عن طريق توريق القروض العقارية وبيعها للمستثمرين، ومع اختفاء هذا النشاط وجدت الأسواق انها مكشوفة بلا بدائل متاحة، فتوقف نشاط التمويل العقاري. ويصف التقرير حجم متفجر للتمويل العقاري بين عام 2000 و2007، يمكن وصفه بأنه فقاعة عقارية من الحجم الكبير. فقد ارتفع حجم التمويل العقاري من أسواق المال عن طريق التوريق من 13 مليار إسترليني الى 257 مليار إسترليني، في سوق حجمه الإجمالي لا يزيد عن 1220 مليار إسترليني. ولكن هذا النشاط توقف تماما هذا العام مع عدم إصدار اي توريق عقاري جديد، مع انعدام الثقة في المنتجات المالية العقارية التي تصدرها البنوك. وفقد المستثمرون ثقتهم في هذه المنتجات المالية لأنها لا تتمتع بالشفافية، مع تدني ملاءة الضمانات وعدم سيولة السوق، الذي يصعب البيع فيه لهذه الصكوك. ووصل المستثمرون الى هذه القناعة بعد الخسائر الهائلة التي منيت بها البنوك من خلال أزمة الرهن العقاري الاميركية.

ويرى التقرير انه لم يعد ممكنا للسوق ان تعود الى ما كانت عليه، ولذلك فلا توجد حوافز حاليا لإعادتها الى قواعدها القديمة غير القابلة للاستمرار، ولا بد من البحث عن قواعد جديدة. وهنا يمكن اعتبار ان نقطة الضعف الواضحة في التقرير هو انه لم يبحث عن هذه القواعد الجديدة ولم يقدم اي خيارات للمستقبل سوى ترك المهمة للسوق لكي يعدل نفسه بنفسه لكي يعود أكثر قوة وكفاءة. ويلمح السير كروسبي الى ضرورة العودة الى النشاط مرة أخرى بمنتجات استثمارية جديدة تقدم للمستثمر ضمانات أكثر وشفافية أعلى، تماثل السندات المضمونة. ولكن مثل هذه الحلول ليست سهلة او سريعة التطبيق وسوف تستغرق على الأقل الفترة التي أشار إليها التقرير وهي ثلاث سنوات على الأقل.

ولا يتحمس التقرير كثيرا لكي يضمن بنك انجلترا مثل هذه السندات لان الالتزام بها يتطلب تمويلا هائلا قد يعيق نشاط البنك الأساسي ويعرقل مهمته الأولى في مراقبة التضخم وتوازن الإنجاز الاقتصادي ونسبة النمو. كما ان مثل هذا التدخل قد يعيق التطور الطبيعي للأسواق من اجل استئناف نشاطها على أسس سليمة.

كما رفض التقرير ان تتحمل الخزانة البريطانية مهمة ضمان الصكوك المالية التي تصدرها البنوك لدعم القروض العقارية، حيث ان هذا الضمان يكون على حساب دافعي الضرائب الذين لا يجب عليهم تحمل مخاطر اقتراض شريحة محدودة من المستهلكين. ويشير كروسبي الى هذا بوضوح في نهاية تقريره بالقول ان مثل هذا الأسلوب يؤدي الى تشويه المبادئ التي تقوم عليها أسواق المال ويثير من المشاكل أكثر مما يحل. ولم يلق تقرير كروسبي حماسة كبيرة من أوساط صناعة العقار او المصارف في بريطانيا، على أساس انه اعترف بالمشكلة وشرح أبعادها ومخاطرها ولكنه لم يقدم لها الحلول الواقعية. ولكن الجديد هو ان السياسيين بمختلف انتماءاتهم رحبوا بالتقرير وأيدوا رفضه للتمويل الحكومي لأسواق العقار، على أساس انه إهدار للمال العام ومساهمة في الحفاظ على فقاعة اسعار عقارية لا يمكن استمرارها. ويرى السياسيون ان الحل الأفضل هو مساعدة العائلات الفقيرة المهددة بفقدان بيوتها بسبب الازمة. كما يرون ان على الصناعة ان تغير نهجها في المستقبل، وان تمتنع عن العودة الى ممارسات الماضي التي أدت الى الازمة.

ولكن شركات البناء وتسويق العقار وجهت انتقادات مريرة الى التقرير لأنه لم يقدم اي حلول نافعة. وتقول الشركات ان الوضع الحالي حرج للغاية ويهدد بانهيار اسعار العقار البريطاني بنسبة 20 في المائة إضافية على الأقل في غضون عام بعد ان انهار بالفعل حوالي ثمانية في المائة هذا العام، وهي أكثر نسبة مسجلة تاريخيا. وترى شركات العقار ان الوضع المتردي في الأسواق حاليا يهدد الاقتصاد البريطاني بأكمله ولذا فعلى الحكومة التدخل لمعالجة الموقف، وتشجيع البنوك على استئناف الإقراض.

البنوك نفسها تبدو كذلك غير راضية عن التقرير حيث تقارن بين الخطوات الاميركية لحل الازمة والتلكؤ البريطاني في دراستها بتشكيل اللجان التي لا تعرف الكثير عن أحوال او متغيرات السوق. وترى البنوك ان الخريف المقبل سوف يكمل عاما كاملا على بداية أزمة التمويل العقاري، وهي فترة لم تصحح فيها الأسواق وضعها تلقائيا مما يشير ان مثل هذا التصحيح قد لا يحدث في المستقبل.

وتقول هيئة مقرضي العقار البريطانية ان الأسواق تتجه نحو الأسوأ إذا استمر التجاهل الحكومي. وهي تعتقد ان عدم توجيه الدعم الحكومي للأسواق سوف يطيل من أمد الازمة لأطول من عمرها الطبيعي. وتطالب الهيئة بقيادة فعالة من وزارة الخزانة البريطانية لوضع معايير جديدة للسوق تكون ذات مصداقية عالية. ويصف بيتر بولتون كنغ، رئيس هيئة مسّوقي العقار البريطانية ان السوق تراجع أكثر مما حدث أثناء الازمة العقارية السابقة في بداية التسعينيات، وهو يضيف ان التمويل انقطع فجأة عن السوق وتبخرت الثقة فيه كما تجمدت الصفقات. وهو يعتقد ان هذا الوضع قد يستمر ويتدهور أكثر من دون تدخل حكومي فعال. ويلاحظ ان البنوك لم تخفض تكاليف الإقراض العقاري على الرغم من ان اسعار الفائدة العامة انخفضت بنسبة 0.75 في المائة في العام الأخير.

وهو يطرح العديد من الأفكار التي يمكن للحكومة من خلالها ان تساعد الأسواق، مثل إصدار سندات لضمان التمويل العقاري، او إنشاء بنك تسليف عقاري ضامن مثل مؤسسة «فاني ماي» الاميركية، التي نشأت لمعالجة آثار الكساد العظيم في ثلاثينيات القرن الماضي.

وسجلت إحصاءات بنك انجلترا اقل معدل للقروض لم يتخط 36 الف قرض في شهر يونيو (حزيران) الماضي، ولكن أوساط السوق تختلف حول أسباب هذا التراجع القياسي في التمويل. فالبعض يرجح ان الطلب تراجع بسبب عدم وجود رغبة في الاقتراض من المستثمرين، ويعتقد البعض الآخر ان السبب هو تشدد البنوك في الإقراض وفرضها معايير عالية. أما السبب الثالث المطروح فهو عدم وجود سيولة متاحة في سوق التمويل بالجملة للبنوك. ومهما تكن الأسباب فان الكساد العقاري مستمر حتى تجد الأسواق حلولا عملية بديلة للموديل السابق للإقراض الذي اثبت فشله.

وسوف يتعين على البنوك ان تقدم صكوكا مالية جديدة لتوريق التمويل العقاري تحمل درجة عالية من الشفافية لنوعية الاستثمارات التي تعتمد عليها. ويقول معلقون اقتصاديون ان الحل هو ان تتوصل الأسواق الى حلول جديدة لكي تحقق درجة التوازن الطبيعي لها من دون تدخل خارجي بالضمانات او المساعدات التي من شأنها ان تخل بالتوازن وتطيل أمد الازمة.

* مؤسسة ستاندرد آند بور: العقار البريطاني يفقد 100 ألف دولار من قيمته!

* قالت مؤسسة ستاندرد آند بور لتقييم الملاءة ان انهيار أسواق العقار البريطانية سوف يخفض من قيمة كل عقار نحو 50 الف إسترليني (حوالي 100 الف دولار) في المتوسط، الامر الذي يتحول معه مستثمر عقاري من كل سبعة الى ما يسمى بالقيمة السلبية للعقار، اي تراكم ديون عقارية عليه أعلى من قيمة عقاره.

ويصل عدد الذين يزيد حجم قروضهم عن قيمة عقاراتهم حاليا الى نحو 70 الف مقترض. وترى المؤسسة ان عدد هؤلاء سوف يرتفع الى حوالي 1.7 مليون مقترض في شهر ابريل (نيسان) 2009. وسوف يتراجع سعر العقار المتوسط في بريطانيا الى حوالي 150 الف إسترليني هبوطا من 199 الفا منذ عام واحد. ومع كل هبوط في اسعار العقار بنقطة مئوية واحدة سوف يقع 180 الف مقترض بريطاني إضافي في فخ القروض الأعلى من قيمة العقارات.

وفي الوقت نفسه عكست مؤشرات قياس ثقة المستهلك صورة متردية عندما أكدت ان معدل الثقة هو الأدنى منذ 34 عاما. ولا يعود تراجع الثقة فقط الى أزمة التمويل العقاري وانما أيضا الى ارتفاع اسعار فواتير الطاقة المنزلية ووقود السيارات، بل وفاتورة الطعام. وهي بنود تستهلك نسبة اكبر من الدخول حاليا وتهدد أصحاب العقارات بعدم القدرة على سداد أقساط القروض العقارية. هذا وتترواح تقديرات نسب انخفاض قيمة العقار في بريطانيا بين 25 في المائة (تقدير ستاندرد آند بور) و35 في المائة (تقدير كابيتال ايكونومكس).