بعد تأميم «فاني ماي وفريدي ماك».. السوق العقاري الأميركي إلى أين؟

بعض المدن لم تتأثر بالفقاعة العقارية وأخرى بدأت رحلة الانتعاش

يرى اقتصاديون أن المشكلة ربما كانت مالية في الأساس لكن عبرت عن نفسها في المجال العقاري («الشرق الأوسط»)
TT

ملامح الانتعاش العقاري بدأت تعود الى بعض المدن الأميركية حتى قبل تدخل الحكومة لإنقاذ مؤسسة الرهن العقاري «فاني ماي وفريدي ماك» من الانهيار الحتمي مما ساهم بعودة بعض الاستقرار والتفاؤل الى الاسواق العقارية الاميركية والعالمية. الا ان هذه المناطق عانت اقل من غيرها عندما ابتدأت أزمة الائتمان قبل ما يزيد على عام وتقدم الآن افضل فرص. ويعتقد المراقبون ان قرار «تأميم» مؤسسة الرهن العقاري كان من افضل القرارات التي جنبت الاسواق اخطر ازمة عقارية في القرن الجديد، ويبدو ان الوقت قد حان لتخطيها.

ويشير آخر تقرير من شركة «ستاندرد آند بور» صدر هذا الصيف حول حال العقار في 20 مدينة اميركية ان جميعها يعاني من استمرار انخفاض الاسعار شهرا بعد شهر، وبعضها يعاني من انهيارات قياسية. ولكن النظرة الدقيقة الى التقرير يمكنها ان تكشف ان بعض المدن حافظت في الواقع على قيمتها. ففي الوقت الذي انهارت فيه القيمة في لاس فيغاس بنسب 25 في المائة هبوطا في العام الاخير، كانت نسبة الهبوط في مدينة تشارلوت في ولاية كارولينا الشمالية خلال العام نفسه لا تزيد عن 0.2 في المائة (اي اثنين في الالف). وهي ليست المدينة الوحيدة في كارولينا الشمالية التي تحافظ على قيمتها، فهناك مناطق عديدة اخرى منها مدينة رالي ومدينة درهام.

ويقول ستيف كامبل مدير الابحاث العقارية في جامعة نورث كارولينا ان كل سوق عقاري في الولاية له خصائصه الديناميكية التي تقتصر عليه. فالعقار في مدينة تشارلوت يعتبر مستقرا الآن لأن الفقاعة التي هبت على اسواق العقار الاميركية الاخرى لم تؤثر كثيرا في تشارلوت. وكان السبب ان الصناعة الوحيدة التي توسعت في تشارلوت في الفترة السابقة كانت المصارف بينما انكمشت بقية الصناعات فيها، وساهم هذا الانكماش في ابقاء العقارات بلا زيادات كبيرة في الماضي.

وتوجد في المدينة بعض العقارات التي يزيد سعرها عن عشرة ملايين دولار، ولكن من الممكن شراء منازل صغيرة تضم ثلاث غرف بأسعار لا تزيد عن مائة الف دولار. ويوجد في المدينة منزل مساحته 2500 قدم مربع يقع على ارض مساحتها نصف فدان، بسعر لا يزيد عن 299 الف دولار. وفي منطقة اسمها «تريانغل» المتخصصة في تكنلوجيا الانترنت، كانت المعاناة الاقتصادية شديدة في بداية الالفية بسبب انفجار فقاعة «الدوت كوم» وانعكس ذلك على اسعار العقار فيها. وفيما نشطت صناعات الكومبيوتر بعد احداث سبتمبر (ايلول) خصوصا في واشنطن، فإن مناطق كارولينا الشمالية ظلت متراجعة، ولذلك لم تتأثر كثيرا بالازمة العقارية الاخيرة. وتقدم منطقة اخرى اسمها «اشفيل» فرصا جيدة للمتقاعدين وكبار السن في اسلوب حياة هادئة في مناخ جيد وبيئة خضراء، ولذلك فقد حافظ السوق العقاري فيها على قيمته.

وفي مدينة ديترويت بولاية ميتشغان التي تعاني من الكساد اكثر من غيرها بسبب تراجع صناعة السيارات فيها، اشارت شركات العقار فيها الى ان الاسعار زادت طفيفا في العام الاخير ولم تتراجع. وكانت افضل المناطق هي في شمالي المدينة، مثل منطقة «ترافيرس» التي تشتهر بالبحيرات ورياضات الصيد والابحار. المنطقة تطل على بحيرة ميتشغان، وكان الكاتب ارنست هيمنغواي يقضي فيها عطلاته الصيفية.

وتجذب «ترافيرس» العديد من مديري صناعة السيارات الذين يفضلون الاقامة فيها اكثر من مواقع بحرية بعيدة عن الولاية مثل فلوريدا او كاليفورنيا. ومعظمهم يعرف المنطقة بعد قضاء العطلات فيها في الماضي. وتجذب المنطقة ايضا العديد من صغار الحرفيين الذين يختارون مكان المعيشة ثم يبحثون بعد ذلك عن الوظائف.

وتنتشر ايضا المدن المنتعشة في ولاية تكساس التي تعد ثاني اكبر الولايات مساحة بعد ألاسكا. وهي تتميز بعدة مزايا، منها توفر فرص العمل في الشركات المحلية ومحافظة العقارات على قيمتها وسهولة الحصول على القروض باسعار فائدة منخفضة لذوي السجلات الائتمانية الجيدة. وفيما كانت اسعار العقار تتهاوى على المستوى الاميركي كانت عقارات مدن مثل اميريللو تزيد بنسبة اربعة في المائة سنويا. ولم تجذب الولاية اي نشاطات مضاربة وحافظت على استقرار الاسعار، كما انها لا تعاني من القروض الرديئة ومعظم الناس يشترون عقاراتهم للاقامة فيها وليس لتأجيرها، وكلها عوامل ساعدت على تماسك القيمة وعدم تراجعها خلال شهور الازمة.

ولكن هذه النقاط العقارية الساخنة تقع في محيط اسواق جليدية يخيم عليها كساد ازمة الرهن العقاري التي عبرت عن نفسها في جمود التعامل ومتاعب متراكمة للبنوك، خصوصا تلك المتورطة في الاقراض العقاري بأحجام هائلة مثل مؤسستي «فاني ماي وفريدي ماك»، اللتين كانتا تتبعان الاشراف الحكومي مع حرية حركة تجارية تهدف الى تحقيق الربح في السوق في منافسة البنوك التجارية. ولكن هذا الوضع انتهى بقرار من الخزانة الاميركية لضمهما تحت الاشراف الكامل لها، اي ما يوازي التأميم. ويعني هذا القرار ان الحكومة الاميركية سوف تضمن الاعباء المالية للمؤسستين وتمنعهما من السقوط بما قد يساهم في استقرار الاسواق ليس فقط داخل الولايات المتحدة وانما في انحاء العالم الاخرى خصوصا في اوروبا.

ولا تعتقد اوساط اقتصادية ان الخطوة كافية لتحويل السوق من الكساد الى الانتعاش، ولكنها بالتأكيد لها تأثير كبير في مسار الازمة من جهة تهدئة روع الاسواق. وتتحكم الحكومة الاميركية حاليا في ثلاثة ارباع السوق العقاري قياسا بحجم القروض الجديدة التي تقدمها المؤسستان. وتضمن الحكومة بذلك استمرار تقديم القروض بتكلفة مقبولة حتى ولو كان على حساب دافعي الضرائب.

ويمكن للحكومة الاميركية نظريا ان تستخدم المؤسستين وكأنهما احتياطي فيدرالي عقاري بحيث يمكنها من خلالهما تخفيض تكلفة القروض العقارية بغض النظر عن مستويات الفائدة السائدة في السوق. فتكلفة الاقتراض العقاري الاميركية اعلى اليوم عما كانت عليه منذ عام واحد على رغم تخفيض جذري لسعر الفائدة الاساسي، بسبب رسوم المخاطر التي تفرضها البنوك. ولكن هذا الوضع قد يتغير عندما تخفض الحكومة تكاليف الاقراض من المؤسستين اللتين تخضعان لإدارتها.

وتهدف الخطوة ايضا الى طمأنة المستثمرين الاجانب، فهناك خوف من هروب رؤوس الاموال الاجنبية من الديون والسندات الاميركية مما قد ينعكس سلبا على الدولار نفسه وايضا على عمق الازمة العقارية. وكانت البنوك المركزية الاجنبية قد خفضت خلال الربع الاخير حجم استثمارها في «فاني ماي وفريدي ماك» بحوالي 18 مليار دولار للدلالة على فقدان الثقة. وكانت خطوة وزير المالية الاميركي بولسون هي تأكيد الضمانات في هاتين المؤسستين للمستثمرين الاجانب.

ولكن على الحكومة الاميركية ان تلعب بحذر حتى لا ترفع تكاليف اقتراضها من الاسواق، خصوصا انها تعاني من العجز فعليا ويجب الا تتحمل المزيد من الاعباء الائتمانية. والسؤال الذي يجب ان تجيب عنه وزارة الخزانة الاميركية هو مدى تأثير تخفيض معدلات الفائدة على القروض العقارية في احوال السوق والاقتصاد بشكل عام. فحجم الفائدة وحده ليس مسؤولا عن الازمة العقارية وانما تضخم اسعار العقار وزيادة الامدادات العقارية عن الطلب الفعلي في السوق وايضا المخاوف من ارتفاع البطالة. ولكن الخطوة تمنع على الاقل انهيار قطاع الرهن العقاري والاصول المتعلقة به مثل اسهم البنوك، التي ارتفعت في قيمتها فور انتشار نبأ تأميم «فاني ماي وفريدي ماك».

والمتوقع ان تكون انعكاسات هذه الخطوة ايجابية على الاسواق لان خفض معدلات الفائدة العقارية سوف يعزز من ثقة المستهلك ويشجعه على الانفاق مرة اخرى، كما يشجع البنوك على معاودة الاقراض. ويؤكد كبير الاقتصاديين في مؤسسة مورغان ستانلي الاستثمارية ان هذه الخطوة تحقق الكثير من الاستقرار واستعادة الثقة بالسوق. وهي ايضا تجمد الانهيار المستمر في الاسواق منذ عام كامل.

ويختلف اقتصاديون اميركيون مع وزير الخزانة بولسون في تحديد المشكلة. وفيما يراها بولسون على انها مشكلة عقارية في الاساس، يرى الاقتصاديون انها ربما كانت مشكلة مالية عبرت عن نفسها في المجال العقاري.

ويقول دافيد روزنبرغ كبير اقتصاديي شركة ميريل لينش المالية ان «فاني ماي وفريدي ماك» ليسا الا اعراضا لمشكلة اكبر حجما، وهي مشكلة الاعتماد على الديون من اجل التمويل العقاري. كما ان تيار الكساد ربما يكون قد خرج عن نطاق الولايات المتحدة الى الاقتصاد الدولي الذي يواجه فيه العديد من الدول مشاكل انعدام النمو وزيادة الديون الرديئة.

ويقول الاقتصادي والمعلق البريطاني مارتن وولف ان خطوة تأميم «فاني ماي وفريدي ماك» كانت حتمية على الرغم من ان الخطوة تعني زيادة اعباء الحكومة الاميركية ماليا بحوالي 5400 مليار دولار، اي ما يوازي 40 في المائة من الناتج المحلي الاجمالي في اميركا. ويضيف ان سبب عدم وجود بدائل هو ان المؤسستين كانتا عاجزتين عن تدبير رأسمال كاف لتغطية خسائرهما في الاقراض في سوق منهارة. وكان هذا الوضع سينعكس بالضرورة على تقليص قدرتهما على الاقراض في السوق في الوقت الذي يتحكمان فيه في حوالي 80 في المائة من حجم الاقراض في السوق الاميركي. والنتيجة لمثل هذا الوضع هي المزيد من الانهيار في الاسواق وتراجع اسعار العقارات وانخفاض معدلات الانفاق الاستهلاكي الاميركي.

من ناحية اخرى، فان معظم الديون المتراكمة على المؤسستين تملكها جهات اجنبية خصوصا البنوك المركزية والحكومات. والفشل في تأمين مثل هذه الديون كان معناه فقدان الثقة في الحكومة الاميركية والعملة الاميركية بدرجة خطيرة.

ويضيف وولف ان هذه الخطوة من شأنها ابطاء الاصلاحات الهيكلية المطلوبة في السوق، وتحميل دافعي الضرائب ثمن اخطاء ارتكبتها مؤسسات مالية كانت تعتقد ان قيمة الاصول ترتفع ولا تنخفض، وهو اعتقاد خاطئ ويعرفه بداهة كل مبتدئ في اسواق الاستثمار. ويتوقع ان ينتهي الامر بعد سنوات طويلة بتجزئة مؤسستي «فاني ماي وفريدي ماك» وبيعهما للقطاع الخاص، بعد انتهاء ازمة الرهن العقاري. ولكن ذلك قد يستغرق سنوات طويلة.

* الحكومة البريطانية قد تتدخل أيضا في سوق التمويل العقاري

* تنتظر وزارة الخزانة البريطانية نتائج تقرير حول وضع السوق العقاري البريطاني يقوم على اعداده السير جيمس كروسبي، الرئيس السابق لمجموعة بنك اسكتلندا. ويقدم كروسبي تقريره في نهاية هذا الشهر. واذا اقترح التقرير توصيات مماثلة للتدخل في السوق من اجل استعادة بعض التوازن والثقة، فإن وزير الخزانة ألستير دارلنغ قد يعتمد هذه الاقتراحات ويدخلها في ميزانية العام الجديد التي يعلن نقاطها الرئيسية في شهر نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل.

ويفكر وزير الخزانة في عدة مقترحات من ضمنها تقديم ضمانات حكومية لصكوك الاستثمار في القروض العقارية ذات النوعية المتدنية المخاطر. ولكنه قد يواجه معارضة شديدة اذا حاول توسيع نطاق التسهيلات الائتمانية التي يقدمها بنك انجلترا للبنوك البريطانية حاليا والتي تستطيع من خلالها استبدال سندات القروض العقارية بسندات حكومية مضمونة بشرط ان تكون القروض ذات خطورة متدنية ومقدمة قبل عام 2008. ومن المتوقع ان تكون البنوك البريطانية استبدلت حتى الان حوالي 200 مليار من هذه السندات. ويشترط بنك انجلترا ان تكون مدة هذه التسهيلات ستة اشهر فقط ولا تشمل اي قروض جديدة تم تقديمها هذا العام.

ويقول وزير الخزانة البريطاني ان صفقة التأميم التي انجزتها الحكومة الاميركية من شأنها ان تساعد الاقتصاد البريطاني، وذلك بسبب الحجم المؤثر لاكبر اقتصاد في العالم، وهو الاقتصاد الاميركي، الذي ينعكس سلبا او ايجابا على اقتصادات الدول الاخرى بلا استثناء.

ولكن محافظ بنك انجلترا حذر بشدة من التدخل الحكومي في سوق الاقراض العقاري وطالب بأن تجد الاسواق توازنها بنفسها وان يتحمل المستثمرون المخاطر التي اقبلوا عليها.