مصائب قوم عند قوم فوائد.. في أسواق العقارات العالمية

«حطام» البنوك الأميركية يصنع « أثرياء حروب» جددا

أسواق العقارات الأميركية والأوروبية ستواجه مزيدا من الانخفاض والأوقات الصعبة («الشرق الأوسط»)
TT

بعد انهيار أحد أكبر البنوك الاستثمارية في العالم ـ بنك «ليمان براذرز» الاميركي ـ الأسبوع الماضي بسبب القروض العقارية المعدومة، بالطبع فإن أسواق العقارات في الولايات المتحدة وعددٍ من الدول الأوروبية ستواجه مزيداً من الانخفاض والأوقات الصعبة. لكن من هم أثرياء الحرب الذين سيستفيدون من هذا الوضع. أولاً يجب الإشارة إلى أنه في المرات السابقة التي حدث فيها ركود عقاري كانت الأسباب غالباً تتعلق بارتفاع سعر الفائدة الأساسي الذي تحدده البنوك المركزية، الذي يترتب عليه بالضرورة ارتفاع مماثل في أسعار القروض العقارية. وعلى سبيل المثال ففي آخر ركود عقاري حدث في بريطانيا في أوائل التسعينات كانت أسعار الفائدة تتعدى 10%، لكن اللافت للنظر هذه المرة أن سعر الفائدة الأساسي يبلغ 5% في بريطانيا و 2% فقط في الولايات المتحدة، بينما فاقت أسعار القروض العقارية هذه الأرقام بكثير.

وفي الظروف العادية لا تزيد أسعار الفائدة العقارية أكثر من 0.75% فوق سعر الفائدة الأساسي الذي تحدده السلطات المالية المركزية. أما في الأزمة الحالية فقد فاقت القروض العقارية سعر الفائدة المركزي بأكثر من 2% في كثير من البنوك.

والسبب في ذلك يعود مباشرة إلى ما أصبح يُعرف باسم «أزمة الائتمان المصرفي» التي بدأت في الولايات المتحدة قبل عامٍ تقريباً بسبب الديون العقارية التي فشل أصحابها في سدادها (الديون المعدومة)، ومن ثم اضطرت المصارف تحمل هذه الخسائر الكبيرة. وبالطبع كانت نتيجة ذلك أن أصبحت المصارف متشددة للغاية في شروطها لمنح أي قروضٍ عقارية جديدة، فضلاً عن رفعها لأسعار الفوائد على هذه القروض بدرجة كبيرة. والمعروف أن غالبية المواطنين أو المستثمرين في الغرب يشترون عقاراتهم عبر الاستدانة من البنوك، لذا فقد أدى الوضع الجديد إلى شُحٍ كبير في القروض الممنوحة، مما يعني شُحاً مماثلاً في عدد الذين لديهم المال الكافي للشراء. ولا شك في أن انخفاض عدد المشترين (اي انخفاض الطلب) انعكس مباشرة على أسعار العقارات التي أصبحت معروضة في السوق لفترات طويلة من دون أن يظهر لها مشترٍ. فيضطر أصحاب العقارات إلى إجراء مزيدٍ من التخفيض في أسعار عقاراتهم (المنخفضة أصلاً) على أمل إغراء المشترين... ولكن في كثيرٍ من الأحيان من دون فائدة.

وفي مثل هذا المناخ هناك فائزٌ واحد، وهو المستثمر الذي يملك رأس مال نقداً. فهذا النوع من المشترين (صاحب الكاش) لا يحتاج إلى تمويلٍ من البنوك. لذا فهو عملة نادرة في سوقٍ شح فيه التمويل. وهذا بالطبع يضعه في موقفٍ قوي يمّكنه من فرض السعر الذي يرغبه في سوقٍ متعطشٍ للمال. فحتى بعد الهبوط الذي حدث في أسعار العقارات بنسبة تراوحت بين 10 في المائة و15 في المائة خلال أقل من عام، يستطيع المشتري صاحب السيولة فرض خفضٍ إضافي بنسبة 10 في المائة. وعلى سبيل المثال، قال ديفيد روبرتز، من وكالة «فوكستونز» العقارية لـ «الشرق الأوسط»: إن شقة من غرفتي نوم كانت معروضة للبيع في منطقة «هولاند بارك» في وسط لندن في يناير (كانون الثاني) الماضي بـ 750 ألف جنيه استرليني (نحو 1.4 مليون دولار) خفضت سعرها في أبريل (نيسان) إلى 675 ألفاً، ثم بغياب المشترين خفضت السعر مرة أخرى في يوليو (تموز) إلى 625 ألفاً، وأخيراً باعها صاحبها في الشهر الماضي لمشترٍ دفع 595 ألف جنيه إسترليني نقداً، أي بنسبة 20.7% أقل من سعر العرض الأولي.

وأضاف روبرتز: ان هذا الوضع يتكرر كثيراً، حيث أصبح من الصعب التكهن بالتخفيض الذي سيقبله الحريصون على بيع عقاراتهم. من جهته قال أيضاً جيمس مورغان، من وكالة «رولف إيست» لـ «الشرق الأوسط»: إن مكتبه باع الأسبوع الماضي فيلا في منطقة «إيلينغ» في غرب لندن تحتوي على خمس غرف نوم بـ 1.45 مليون جنيه استرليني (نحو 2.8 مليون دولار) بعد أن ظلت معروضة في السوق لمدة 7 أشهر بسعر أولي بلغ 1.75 مليون جنيه استرليني. ويمثل هذا خفضاً بنسبة 17%. أما في الولايات المتحدة فإن الوضع أسوأ بكثير للبائعين، لكنه بالطبع أفضل كثيراً للمشترين. وفي هذا الصدد نقلت صحيفة الـ «أوبزيرفر» عن شيلا هاريسون قولها إنها اشترت اخيراً منزلاً في ولاية فلوريدا الجميلة في الولايات المتحدة يحتوي على 3 غرف نوم وحمامين بـ 200 ألف دولار، أي نصف قيمة المنزل في عام 2007. وقال أيضاً كين أوبراين، من وكالة «سوث وست كوست» في ولاية فلوريدا، إن أسعار العقارات في الولاية عادت إلى أسعار عام 2003، وان غالبية المشترين حالياً يأتون من خارج الولايات المتحدة (خصوصاً أوروبا وكندا) مستفيدين من انخفاض سعر صرف الدولار مقابل عملاتهم المحلية، بالاضافة طبعاً لانخفاض أسعار العقارات نفسها. وأشارت الصحيفة إلى أن الأسعار قد تنخفض أكثر خلال الأشهر المقبلة، لكنها انخفضت بما فيه الكفاية خلال الـ 12 شهراً الماضية مما يجعل الاستثمار في العقار لمن يملك السيولة استثماراً مغرياً. وحسب مؤشر «ستاندر أند بورز» Standard & Poor"s، الذي يُعتبر الأكثر دقة في الولايات المتحدة، فإن متوسط أسعار العقارات الأميركية انخفض بنسبة 16.3% في أبريل (نيسان) الماضي مقارنة بالشهر نفسه قبل عام. أما مقارنة بالشهر نفسه قبل عامين فقد بلغ الانخفاض 22%. ويقول جيستن فيغنز، مدير قسم المبيعات الخارجية في شركة «رايتموف» العقارية، إن بعض الولايات الأميركية شهدت انخفاضاً أكبر كثيراً من ولايات أخرى. فبعض الولايات تراجعت بنسبة فاقت 30 في المائة، مثل فلوريدا، بينما البعض الآخر تراجع في حدود 12 في المائة، مثل جزيرة مانهاتن في مدينة نيويورك. وأضاف أن كساد سوق العقارات الأميركية جعل الولايات المتحدة خلال أشهر بسيطة القبلة الثالثة للمستثمرين الأوروبيين، بعد اسبانيا وفرنسا. ومن جهته قال انتوني ميتشغان، من وكالة «لوس أنجليس هومز» لصحيفة الـ «دايلي تلغراف» البريطانية إن أصحاب العقارات المضطرين لبيعها أصبحوا يقبلون عروضاً اقل بـ 100 ألف دولار من السعر المطلوب، وفي الفيلات الكبيرة يقبلون نصف مليون دولار أقل من سعر العرض. كما قال جون بتريلا، صاحب وكالة عقارية في ولاية هاواي الجميلة، إن متوسط سعر المنازل المعروضة عبر وكالته انخفض بنسبة 34 في المائة خلال عامٍ واحد، وهو نفس العام الذي تصادف أن خسر فيه الدولار 23 في المائة من قيمته، ما يجعل الخسارة الحقيقية في قيمة العقارات في هاواي نحو 40 في المائة.

وبشكل عام فإن سوق العقارات الأميركية شهد تراجعاً كبيراً في الأسعار مما جعله أرخص كثيرا من العام الماضي. كما أن السعر المتدني للدولار، على مدى أكثر من عامين، يزيد رخصاً اضافياً لهذه العقارات. فهل يجعل هذان الانخفاضان ـ في آن واحد ـ العقارات الأميركية استثماراً جاذباً للمستقبل؟ هذا ما أصبح يتردد بين عدد من تجار العقارات الدوليين الذين يرون في انخفاض أسعار العقارات، بالاضافة إلى انخفاض سعر الدولار فرصة ذهبية للاستثمار، أي شراء عقارات أميركية رخيصة مصيرها أن تعاود الصعود في المستقبل. لكن كلمتي «مصيرها» و«المستقبل» هما ما يجعلان مجموعة أخرى من التجار تتريث تحسباً لأن «يجري السوق بما لا تشتهي السفن»، كأن تواصل العقارات انخفاضها لفترة أطول مما يحسبون، وأيضاً كأن يبقى الدولار عند مستواه الضعيف الحالي لسنوات عديدة مقبلة. أما الفريق الأول (المتفائل) فيرى أنه لا بد أن يكون هناك قدرٌ من المخاطرة في أي خطوة استثمارية، وأن مبدأ التجارة تاريخياً يقول «اشتر رخيصاً وبع غالياً»... وهذا ما يبدو حاصلاً الآن في سوق العقارات الأميركية. وبصرف النظر عن أي الفريقين سيصدق في تكهناته، فإن كساد السوق العقاري الحالي يغري الكثيرين من أصحاب السيولة الذين يجدون أنفسهم في وضع مميز وفي سوقٍ خالٍ من المنافسين، أي المشترين عبر التمويل المصرفي.