العقار الأميركي في عصر الاضطرابات المالية

الأسعار ما زالت تبحث عن قاع السوق.. وهل ستنهي خطة الإنقاذ الحكومية الأزمة؟

عمليات التصحيح المالي ضرورية لأسواق العقار («الشرق الأوسط»)
TT

خطة الإنقاذ غير المسبوقة التي قدمتها الحكومة الاميركية قد تضع اللمسات الأخيرة على بداية حل أزمة الائتمان التي عصفت بالاقتصاد العالمي على نحو خطير. ولكن الامر يحتاج الى بضعة اسابيع لاستيعاب التفاصيل ومراقبة ما يجري في سوق العقار الاميركي على وجه التحديد. فهناك الكثير من التراكمات والمشاكل التي تحتاج لبعض الوقت حتى تعود الأسواق الى ما يشبه طبيعتها السابقة مع فارق ضوابط الإقراض التي لن تعود الى التسيب التي كانت عليه من قبل.

وربما كانت الازمة المالية بالفعل اكبر من التوقعات، فما ان بدأت بوادر التحسن تظهر فور تأميم مؤسستي التمويل العقاري الاميركيتين «فريدي ماك» و«فاني ماي»، حتى عاد الوضع الى أسوأ مما كان عليه بعد انهيار بنك «ليمان بروذرز» الاستثماري العريق وبيع «ميريل لينش» لـ«بنك أوف أميركا». وتقول شركات عقار فاعلة في السوق ان حركة البيع والشراء العقاري في كل من أميركا وبريطانيا توقفت منذ أسابيع تماما حتى يستشف المشترون تحولات السوق ومدى تراجع الاسعار لعلهم يكتشفون قاع السوق الذي تبدأ بعده الاسعار في الاستقرار والارتفاع مرة أخرى.

في السوق الاميركي، الذي يبدو انه سوف يؤشر الى بداية انتهاء الازمة كما كان مؤشرا في بدايتها، هناك تحركات من مستثمرين أجانب، بعضهم من الخليج، وأيضا من مستثمرين محليين، جميعهم ينتظر الفرصة المناسبة للانقضاض على العقارات الرخيصة بالدولار الرخيص أيضا، قبل ان يواصل السوق ارتفاعه.

ولكن المرحلة الحالية هي مرحلة ترقب وانتظار لما سوف تسفر عنه خطوة الحل الحكومي الاميركي بعد انهيارات أسواق المال، حيث يتوقع بعض المستثمرين انه بالامكان الشراء بأسعار ارخص لو طال الانتظار قليلا.

ويقيس هؤلاء وصول السوق الى القاع بنسبة التراجع المتواصلة شهرا بعد شهر، وهي نسب أخذت في التناقص في الشهور الأخيرة وقد تكون وصلت بالفعل الى مرحلة ثبات. وليس المستثمرون وحدهم هم الذين ينتظرون وصول السوق الى غايته بل البنوك أيضا، لأنها تريد تسعير مليارات الأصول المالية المرتبطة بقروض عقارية والتي لا يستطيع احد ان يقومها في الوقت الحاضر، لذلك فهي أصول عديمة القيمة لأنها غير صالحة للبيع والشراء او حتى التبادل.

ووفقا لأحدث تقرير من شركة ستاندرد آند بور، تراجع معدل الانهيار السعري في العقارات الاميركية من 2.2 في المائة شهريا قبل ستة اشهر الى مجرد نصف في المائة شهريا الان. ويشير التقرير أيضا الى ان عدد صفقات العقار استقر أيضا على معدل منخفض، ولكنه على الأقل لم يعد يتراجع بنسب العام الماضي. وتشير توقعات التقرير وتقارير أخرى أيضا الى ان استمرار المعدلات السائدة حاليا معناه ان بدايات الانتعاش لن تصل قبل الربيع المقبل.

ولكن هناك العديد من العوامل الغامضة والمخاطر التي ما زالت تحاصر الأسواق، خصوصا من جانب الاستثمارات المالية. فمن ناحية قد تسقط بنوك أخرى مما قد يعمق الازمة الاقتصادية ومشكلة البطالة وبالتالي ينعكس هذا على مزيد من الافلاسات العقارية. كما ان تأميم شركتي العقار «فريدي ماك» و«فاني ماي» من شأنه ان يخفض تكلفة الاقتراض العقاري، ولكنه وفقا لمحلل في شركة «كابيتال ماركتس» الاميركية، لا يحل المشكلة الأصلية، اي ارتفاع نسب الإفلاس العقاري وتراجع اسعار العقار.

ولكن الإنقاذ الحكومي للشركتين يضمن، على الأقل في المدى القريب، استمرار وصول الائتمان الرخيص الى مستثمري العقار الراغبين في الشراء. ولكن عودة ما يمكن وصفه بالانتعاش ما زال بعيد المدى رغم محاولات شركات العقار رسم صورة وردية للموقف. فمن شركة «هوم ديبو» يقول الوسيط العقاري فرانك بليك انه يستطيع ان يرى «الضوء في نهاية النفق» ولكنه يعترف ان الازمة لم تصل الى مداها بعد ويشير الى احتمال استمرار التراجع السعري لبعض الوقت لوجود رصيد هائل من العقارات المرهونة غير المباعة.

ولكن الرأي الواقعي في الازمة يأتي من الاقتصاديين وليس من شركات العقار، فمن شركة الأبحاث الاقتصادية «ريالتي تراك» يقول رئيس البحث العقاري فيها جون تيرنس ان العودة الى الانتعاش لن تكون سهلة ولا قريبة. فسوق العقار مرتبط بعدة مؤشرات اقتصادية أخرى مثل حالة الاقتصاد والتوظيف والسيولة وثقة المستهلك، وكلها عوامل تبدو ناقصة او غير فاعلة في المرحلة الحالية.

ويضيف ان الوضع ما زال حرجا، وحتى لو وقع بعض التقدم المرحلي يمكنه ان يتراجع بسرعة. وهو يقدر ان صاحب عقار من كل 464 عقارا اميركيا تلقى إنذارا في شهر يوليو (تموز) الماضي بالطرد لتأخره في دفع أقساط العقار المستحقة عليه. ويقارن هذا الرقم بواحد من 557 عقارا في فبراير (شباط) الماضي. اي ان عدد الافلاسات العقارية ما زال في زيادة وليس مقدرا له ان يتراجع قبل الربع الأول من العام المقبل.

وتشهد السوق الاميركية تحولا آخر هو امتداد الازمة من قطاع السوق غير المضمون المسمى «سب برايم» الى القطاع العقاري العام. وتقول شركة «فيتش» لتقدير الملاءة ان هناك قروضا عقارية حجمها 96 مليار دولار بيعت بقروض مرنة سوف تتحول قريبا الى قروض ذات شروط قاسية وأسعار فائدة مرتفعة مما سوف يزيد من مشكلة عدم القدرة على السداد. وحتى في القطاع الفاخر تظهر مشكلة أخرى ناتجة عن فقدان آلاف المصرفيين لوظائفهم الامر الذي قد ينعكس على عجزهم سداد أقساط قروضهم العقارية.

وهذه الزيادة في حالات الإفلاس تزيد من حجم العقارات غير المباعة وتضغط سلبيا على الاسعار، خصوصا ان هناك العديد من الحالات اليائسة التي تعرض فيها البنوك عقارات للبيع بأي ثمن سدادا للديون. وتقول هيئة شركات العقار الاميركية ان تخليص السوق من فوائض العقارات غير المباعة سوف يستغرق 12 شهرا على الأقل. وتعتقد الهيئة ان الاسعار السائدة، على الأقل في بعض المناطق، ما زالت غالية الثمن بعدة مقاييس واقعية مثل النسبة بين قيمة العقار ونسبة الإيجار، او العلاقة بين ثمن العقار ومتوسط الأجور.

ولعل الارتباط بين سوق العقار وسوق العمل هو العامل المؤثر في المستقبل القريب، حيث ارتفعت نسبة البطالة اميركيا في الستة أشهر الأخيرة من 4.9 في المائة الى 6.1 في المائة. ولهؤلاء الذين فقدوا وظائفهم سوف يكون من الصعب عليهم شراء العقار مهما كان رخيصا. كما يبدو ان لارتفاع اسعار الوقود تأثيرا أيضا، حيث كانت أكثر العقارات المتأثرة سلبيا بالأزمة هي تلك التي تقع على أطراف المدن وتحتاج لرحلات طويلة بالسيارة.

أما أكبر تأثير على الإطلاق فهو الحالة المتردية التي تعاني منها البنوك ومناخ الرعب الذي تعيشه الأسواق من مسألة الإقراض. فالإقراض أصبح باهظ التكلفة بالرغم من اسعار الفائدة الأساسية المتدنية. وهذه التكلفة تضع بدورها ضغوطا سلبية إضافية على اسعار العقار.

فحتى هؤلاء الذين يتمتعون بسجل ائتماني نظيف ولديهم القدرة على دفع الأقساط العقارية يجدون صعوبة في إنجاز عمليات شراء، لان عمليات تقييم العقار ترفضها البنوك لأنها ما زالت فوق المعدل الممكن للإقراض كما ان شركات التأمين تواجه صعوبات أخرى في تقديم التأمين بتكلفة مقبولة في الوقت الحاضر.

ولا ينشط في السوق حاليا سوى مجال تقديم القروض من شركتي « فريدي ماك» و«فاني ماي» بينما تبخرت تماما قطاعات السوق غير المضمونة « سب برايم» وقطاع القروض «الجامبو» للعقارات التي تزيد قيمتها على خمسة ملايين دولار.

ويلخص كبير اقتصاديي بنك ميريل لينش الاستثماري دافيد روزنبرغ الموقف بالقول ان اسعار العقار قد تكون مرتبطة الان أكثر بالوضع الاقتصادي العام من حيث التوظيف والكساد أكثر من تأثرها بحالة الائتمان او تقييم العقارات بأكثر من قيمتها. وهو يتوقع ان نهاية الكساد حتى بعد وصول السوق الى قاع التدهور سوف يستغرق أكثر من عام، ولهذا فهو لا يرى نهاية قريبة للأوضاع السائدة حاليا، وان كان يشعر بالتفاؤل من ان الحكومة الاميركية قدرت خطورة الموقف بتدخلها الهائل لشراء الأصول الاستثمارية العقارية الرديئة. وتنظر بريطانيا، وبقية دول العالم، الى ما يحدث في السوق الاميركي بكثير من الوجل خشية اضطرار الحكومات على هذا الجانب من المحيط الأطلسي الى اتخاذ خطوات مماثلة على نطاق اصغر او الى «تأميم» بنوك كبيرة لإنقاذها على غرار ما فعلت الحكومة الاميركية مع «فريدي ماك» و«فاني ماي». وهناك بالطبع سابقة في بريطانيا وهي تأميم بنك «نورثرن روك» المتعثر الذي كلف الخزانة البريطانية مليارات الجنيهات. وقد ضغطت الحكومة البريطانية في الأسبوع الأخير من اجل إدماج مجموعة هاليفاكس وبنك اسكتلندا مع بنك لويدز في اكبر صفقة من نوعها في تاريخ المصارف البريطانية، من شأنها ان تفرز عملاقا مصرفيا يتخلص من آلاف الوظائف المصرفية ويزيد من نسبة البطالة. ولكن هذا الثمن اقل فداحة من انهيار المجموعة التي واجهت مضاربات شديدة على أسهمها أفقدتها نصف قيمتها، رغم تأكيدها ان وضعها المالي سليم.

ويقول تقرير صندوق النقد الدولي الصادر حديثا عن توقعات العالم الاقتصادية خلال العام الحالي، ان فقاعة العقار في دول عديدة منها بريطانيا واستراليا وفرنسا وأسبانيا، اكبر منها في الولايات المتحدة. وكانت الفقاعة مدفوعة بعوامل سهولة التمويل وانخفاض اسعار الفائدة والبحث عن الأرباح والعوائد من المستثمرين في ظل أسواق مال متذبذبة.

وكان التمويل السهل ممكنا بفضل توريق القروض وإعادة تدويرها في السوق. وقدر تقرير كروسبي البريطاني عن أحوال أسواق العقار قيمة هذه القروض المورقة استثماريا في الولايات المتحدة وحدها بحوالي 6616 مليار دولار، وبنسبة 49 في المائة من اجمالي الناتج القومي. وهي في بريطانيا تبلغ حوالي 550 مليار دولار، وبنسبة 15 في المائة من إجمالي الدخل القومي. ولكن هذه النسب تقل كثيرا في اسبانيا (10 في المائة) وفي ايطاليا (3.1 في المائة) وفي فرنسا (0.7 في المائة) واقل من ذلك في ألمانيا.

وبالإضافة الى ارتفاع نسبة توريق القروض العقارية، تشترك بريطانيا مع الولايات المتحدة في صفة أخرى هي ارتفاع معدل ديون الأفراد. وتحدد منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية نسبة الديون في بريطانيا برقم 177 في المائة من صافي الدخل السنوي، مقابل 141 في المائة في الولايات المتحدة. واشترك هذان العاملان في تحويل الاقتصادين، الاميركي والبريطاني الى الاعتماد على مستثمرين ومضاربين عقاريين في أصول ثابتة مع تحويل القروض العقارية الى أدوات استثمارية غير شفافة. وفي نهاية المطاف انفجر السوق من داخله في عملية تصحيح جذرية لفقاعة طال أمدها أكثر من اللازم.

وفيما تستمر معاناة أسواق العقار، يدور النقاش الاقتصادي حاليا حول التدخل الحكومي على النمط الاميركي في أسواق المال التي ظلت تفخر عقودا طويلة بأن حرية السوق وانعدام القيود والشروط هي من أساسيات العمل الرأسمالي الحر.

وفي أحدث كتاب له عن فقاعة العقار يقول البروفيسور روبرت شيللر أستاذ الاقتصاد في جامعة ييل الاميركية: إن «عمليات الإنقاذ الحكومي لا يجب ان تكون بهدف إنقاذ القيمة المتراجعة في أسواق العقار او البورصات او اي سوق آخر، وانما يجب ان توجه أساسا للحفاظ على الثقة الاقتصادية وتحقيق العدالة الاجتماعية والتركيز على منع «خراب بيوت ذوي الدخل المحدود».

وعلى ذلك يمكن قياس تدخل الحكومة الاميركية بأنه محسوب لإنقاذ ملايين المقترضين الصغار، ولكن بالإضافة الى دائنين كبار لشركات عملاقة مفلسة. ولكن ليس هناك بدائل أخرى مقبولة، خصوصا ان انهيار شركات قروض عقارية كبرى تسيطر على نصف السوق له انعكاسات مدمرة على الاقتصاد كله. ولكن الامر نفسه قد لا ينطبق على الوضع البريطاني حيث لا تستطيع الحكومة بمواردها المحدودة ضمان أصول متهاوية في سوق العقار الى ما لا نهاية لمجرد ان البنوك التزمت بقيم خيالية لهذه العقارات.

وعلى هذا الأساس، فإن اختفاء الصكوك العقارية او نشاط توريق القروض في السوق ليس معناه اختفاء السيولة بل يعتبر حركة تصحيح لوضع خاطئ. وينادي اقتصاديون من أمثال مارتن وولف بألا تتورط الحكومة البريطانية بإنقاذ وضع خاطئ تورطت فيه البنوك مهما كانت الآثار المؤلمة لهذا التصحيح الضروري.