أزمة العقارات في لندن تطرق أبواب الأثرياء

كان يعتقد أنهم في مأمن من دورات الركود العقاري

تعتبر لندن من أكثر العواصم العالمية جذبا للاثرياء («الشرق الأوسط»)
TT

يبدو أن الأزمة العقارية في بريطانيا لم تقتصر على محدودي الدخل بل شملت، هذه المرة، الأثرياء أيضاً. وعادة ما ينجو الأثرياء من دورات الركود العقاري لأنهم يستطيعون استخدام مدخراتهم أو جزء من رأسمالهم لسداد التزاماتهم المالية تجاه القروض العقارية. لكن الأسبوع الماضي شهد استيلاء البنك على أول فيللا في أحد أرقى أحياء لندن بعد أن فشل صاحبها في سداد أقساطها الشهرية. وصاحب الفيللا هو المليونير الشاب (38 عاماً)، روبرت بونيير، الذي جمع ثروة هائلة في التسعينات إبان حمى شركات الإنترنت أو ما عُرف وقتذاك بـ «ثورة الدوت كوم» dot com. وعندما انفجرت فقاعة الـ «دوت كوم» واجه بونيير مشاكل كبيرة في البورصة فقرر نقل جزء كبير من ثروته إلى الاستثمار في العقارات. وكانت أول استثماراته أن اشترى فيللا في حي «هولاند بارك» الراقي في قلب العاصمة لندن بمبلغٍ غير معروف لكنه باعها، بعد أن أعاد بناءها، بـ 13 مليون جنيه استرليني (نحو 25 مليون دولار). غير أن صحيفة التايمز البريطانية قالت أخيراً إن بونيير اشترى العام الماضي فيللا أخرى في نفس الحي الراقي بـ 11.6 مليون جنيه استرليني عبر تمويلٍ من أحد البنوك العقارية. وكان بونيير يعتزم بيع الفيللا بـ 15 مليوناً، لكن البنك استولى عليها بعد أن فشل بونيير في سداد أقساطها الشهرية التي راحت ترتفع بشدة منذ بدء أزمة الائتمان المصرفي العام الماضي، خصوصاً بعد انهيار بنك «نورذرن روك» العقاري في بريطانيا في وقت سابق من العام الجاري. كما أن أسعار العقارات في بريطانيا انخفضت بنسبة لا تقل عن 15% خلال أشهر بسيطة. وبدلاً من أن يبيع بونيير عقاره بـ 15 مليوناً فقد عرضها البنك الآن للبيع بـ 10 ملايين فقط، أي بأقل من السعر الذي اشتراها به بونيير العام الماضي.

وبما أن هذا هو أول استيلاء قسري لعقار أحد الأثرياء في لندن فإن الحادثة ترعب الكثيرين الذين يعتقدون أن آخرين سيواجهون مصيراً مشابهاً. فكما انهارت بنوك في الولايات المتحدة وبريطانيا لم يكن يخطر على بال أحد أنها يمكن أن تهتز، فإن تجاراً في سوق العقارات يتوقعون أن يواجه أثرياء العقارات ظروفاً مشابهة. وفي هذا الصدد قال تيم بلينكين، من وكالة «ماي فير» العقارية، إنه تُجد الآن خمس فيللات بمئات الملايين من الدولارات مرشحة لاستيلاء البنوك عليها بسبب تعثر أصحابها في سداد أقساطهم. وحسب إحصائيات وزارة العدل البريطانية، فإن عدد الدعاوى القضائية المرفوعة لاستعادة منازل وعقارات في بريطانيا من قبل البنوك الممّولة بلغ 39078 دعوى خلال الفترة من يونيو (حزيران) إلى أغسطس (آب) من هذا العام، أي أعلى بنسبة 17% من نفس الفترة في العام الماضي.

ومن مفارقات القدر أن عقارات لندن الفاخرة، بل الفاخرة جداً، ظلت تختفي من السوق بسرعة حتى صيف العام الماضي، كما ظلت أسعارها ترتفع بسرعة بسبب المنافسة بين المليارديرات الأجانب الراغبين في الحضور إلى لندن. ويبدو أن هذه الظاهرة كانت لافتة للنظر إلى الدرجة التي علقت عليها صحيفتان كبيرتان، التلغراف والتايمز بعد أن أكدها لايم بايلي، رئيس قسم الأبحاث في وكالة «نايت فرانك» العقارية التي تصدر «مؤشر لندن للعقارات الفاخرة». وأوضح المؤشر أن متوسط هذه العقارات قد ارتفع في يوليو من عام 2007 بنسبة 3.9%، وهي أعلى نسبة شهرية منذ بدء صدور المؤشر في عام 1976. وتوقع بايلي حينها أنه اذا استمرت هذه النسبة في الارتفاع فإن المعدل السنوي لارتفاع أسعار العقارات الفاخرة (أو «عقارات الملايين» كما أصبح يُطلق عليها) سيبلغ 36.4%. وأوضح بايلي أن هذه الظاهرة سببها الرئيسي أن رجال الأعمال والأثرياء حول العالم أصبحوا يشترون هذه العقارات ويحتفظون بها مدى الحياة بعد أن كانوا في الماضي يبيعونها بعد فترة انتهاء عملهم في لندن. وبالطبع، فقد خلق هذا الوضع شُحاً في المعروض في السوق لأن هذا النوع من العقارات والأحياء التي تقع فيها لا يمكن استبدالهما أو التوسع فيهما. وكانت صحيفة التلغراف قد ذكرت أن 61% من مبيعات العقارات التي تبلغ اسعارها 8 ملايين وما فوق، تذهب إلى مشترين أجانب. ومن بين هؤلاء الأثرياء وزير خارجية قطر الشيخ حمد بن جاسم بن جبر آل ثاني الذي اشترى أغلى شقة في بريطانيا بمبلغ 170 مليون دولار في بنايات جديدة تطل على حديقة هايد بارك الشهيرة من جهة حي «ماي فير» الراقي، وأن هذه الشقة واحدة من بين 4 شقق مشابهة. ومثالٌ آخر هو امبراطور صناعة الفولاذ في أوروبا رجل الأعمال الهندي لاكشيمي ميتال الذي اشترى منزلاً بـ 140 مليون دولار في أغلى شارع في لندن «كينزينغتون بلاس غاردنز» حيث يقع قصر كينزنغتون الذي كانت تسكنه الأميرة ديانا.

أما صحيفة التايمز فقد نقلت العام الماضي عن باربرا جونسون من وكالة «هنري أند جيمس» العقارية قولها إن نسبة المستثمرين الأجانب في «عقارات الملايين» التي باعتها وكالتها بلغت 80%. وقالت الصحيفة إن أحد أكبر المنازل في حي «ماي فير» يشبه القصور الريفية لكنه يقع في قلب لندن وعلى مرمى حجر من حديقة هايد بارك. وأضافت أن أسرة من دولة الإمارت العربية المتحدة (لم تذكر أسمها) أشترت هذا المنزل في صيف العام الماضي بمبلغ 145 مليون دولار. وكان ثريٌ عربيٌ آخر قد اشترى المنزل في عام 2003 بمبلغ 50 مليون دولار ثم أجّره لأمير خليجي بمبلغ 3 ملايين دولار في العام.

أما الشقق التي أشترى الشيخ حمد بن جاسم واحدة منها فيبلغ عددها 4، تقع كل واحدة منها على رأس عمارة تطل على هايد بارك. ويبلغ سعر الواحدة من هذه الشقق 170 مليون دولار، مما يُعتبر سعراً قياسياً لشقق لندن. وقد اشتهرت هذه البناية باسم «الرقم واحد هايد بارك» وهي من تصميم رتشارد روجرز أحد اشهر المهندسين المعماريين في بريطانيا، ومن المتوقع أن ينتهي العمل بها في عام 2010. وبشكل عام فإن العاصمة البريطانية ظلت على مدى 3 الأعوام انتهت في صيف 2007، تشهد منافسة حادة بين الأثرياء الأجانب، خصوصا العرب والروس والأميركيين، على شراء العقارات والفيللات الفاخرة. فالاقبال على العقارات الفاخرة لا يأتي من داخل بريطانيا فحسب، بل من أثرياء العالم ككل. وقد أدى هذا بطبيعة الحال إلى خلق سوق للمزايدات الهائلة على نوع معين من العقارات لا يخضع لمعايير السوق بشكل عام. ويقول تشارلس بيرلس، من وكالة «ونكويرث» العقارية، إن لندن توفر كل ما يحتاجه الأثرياء. فهي توفر الأمن واللغة الانكليزية التي أصبحت لغة العالم الأولى، كما بها أكثر المطارات حركة في العالم، ومدارس ممتازة، فضلاً عن أهم بورصة في أوروبا ونظام ضريبي سخي للمستثمرين الأجانب. ومن جانبه اشار لايم بيلي، من وكالة «نايت فرانك» التي تسوّق حالياً نحو 300 من أغلى عقارات المدينة، إلى أن 2006 شهد ارتفاعاً كبيراً في أعداد المليارديرات الجدد، خصوصاً في دول مثل سينغافورة وجنوب أفريقيا والهند وأستراليا والولايات المتحدة – وأن كثيراً من هؤلاء الأثرياء اشتروا عقارات فاخرة في أحياء راقية من العاصمة البريطانية. وأضاف أن الأثرياء البريطانيين يشكلون نحو 40% من ملاّك العقارات الفاخرة في لندن، لكنه توقع أن تقل هذه النسبة في السنوات المقبلة بينما تزداد نسبة الأثرياء الأجانب. ويوضح مؤشر «فورتشن غلوبال 500»، الذي يقيّم الاداء المالي لـ 500 شركة مالية عالمية، أن 65% من هذه الشركات قد اختارت لندن لكي تكون إما مقرها الرئيسي أو مقرها الأساسي في أوروبا. كما أن لندن تحتضن أكبر عدد من البنوك الأجنبية في العالم. ومن الأسباب الرئيسية التي تجذب المليارديرات للعيش في لندن تساهل قانون الضرائب مع الأجانب الذين يحضرون أموالهم الى بريطانيا ويعتبرونها مقراً لهم عبر شراء منزل سكني أو مكتب استثماري. فالقانون البريطاني لا يفرض ضريبة على ثروة جُمعت خارج بريطانيا حتى لو وضعت هذه الثروة في البنوك البريطانية وتمت ادارتها من مقر في العاصمة البريطانية. لذا فإن مليارديرات العالم يحضرون ثرواتهم الى لندن ويديرونها منها طالما يستطيعون الادعاء أن الاستثمار تم خارج بريطانيا.