موسم الهجرة إلى خارج بريطانيا.. والسبب هو العقارات

أكثر من 500 ألف شخص تركوا البلاد خلال عامين

أستراليا من أكبر الدول التي تجذب المهاجرين البريطانيين
TT

أوضحت أرقام «مكتب الإحصاء القومي» في بريطانيا أن أكثر من نصف مليون بريطاني هاجروا إلى بلدان أخرى منذ بداية عام 2006، وهو أعلى معدل للهجرة البريطانية منذ أن بدأ المكتب إحصاءها في عام 1991. وأوضحت الإحصاءات أن موجة الهجرة الخارجة تزداد عادة في أوقات الأزمات الاقتصادية، خصوصاً في سوق العقارات عندما لا يستطيع المواطنون شراء منازلهم. ومن غير الواضح بعد كيف ستؤثر الأزمة المالية والعقارية الحالية على نمط الهجرة في المستقبل، لكن الدافع الطارد إلى الخارج خلال الأعوام الثلاثة الماضية كان إلى حد كبير الغلاء المخيف في أسعار العقارات البريطانية. ورصدت صحيفة الدايلي تلغراف 4 دول رئيسية قالت إنها تجذب 50 في المائة من هجرة البريطانيين الباحثين عن وضع اقتصادي أفضل وأسعار عقارات أرخص، وهذه الدول هي أستراليا ونيوزيلندا وفرنسا وأسبانيا، بالاضافة إلى الولايات المتحدة التي تستوعب 8 في المائة من البريطانيين المهاجرين. ونقلت الصحيفة عن جيمس هيكمان، مدير شركة «كاكستون» التي تتخصص في شراء العقارات في الدول الأجنبية، قوله إن العام الماضي وحده شهد ارتفاعاً قياسياً بلغ 23 في المائة لمشتريات العقارات البريطانية في الدول الأجنبية. وأضاف أن متوسط سعر العقارات التي تُشترى في الخارج يبلغ 350 ألف دولار لشراء منزل كبير في أستراليا أو نيوزيلندا بينما لا يكفي هذا المبلغ لشراء شقة من غرفة واحدة في لندن.

ورغم أن أسعار العقارات البريطانية قد انخفضت ما بين 10% إلى 15% حتى الآن بسبب الأزمة المالية الحالية الا أن الخبراء يؤكدون أن الأسعار لا بد أن تنخفض أكثر من ذلك بكثير قبل أن يتوقف «موسم الهجرة البريطاني».

وكان تقرير أصدره بنك «نيشان وايد» العقاري في أوائل عام 2006 قد أوضح أن متوسط أسعار المنازل في بريطانيا كان يرتفع في ذلك الوقت بنحو 40 جنيهاً استرلينياً (حوالي 76 دولاراً) في اليوم الواحد. كما أن الطفرة العقارية التي حدثت بين عامي 1999 و2004 جعلت طبقة الشباب المهنيين يعزفون عن الشراء لأن دخولهم ومدخراتهم لا تسمح لهم بذلك. ففي عام 1994 كانت نسبة الشباب البالغة أعمارهم ما بين 20 إلى 24 عاماً تمثل 34% من مشتري العقارات، لكن هذه النسبة انخفضت الآن إلى 19% فقط. ويعتبر السوق هذه الشريحة من المجتمع اساسية في تنشيط الأسعار بأعتبار أنهم زبائن جدد يضخون أموالاً جديدة في السوق، في حين أن الآخرين يستبدلون منزلاً بآخر، ومن ثم فإن الأموال التي يتلقونها من البيع يستخدمونها في الشراء. يذكر أن المشترين الجدد، صغاراً أم كبارا، يشكلون 50% من مبيعات العقارات سنوياً. ولا تنحصر مشكلة العقارات في جيل الشباب فقط، بل حتى الأثرياء شهدوا خلال الأعوام الثلاثة الماضية ً منافسة حادة على شراء العقارات والفيلات الفاخرة فيما شبّهته الصحافة البريطانية بالـ «الحرب العالمية الثالثة». وقالت إن سوق العقارات في لندن غالية إذ إن السعر المتوسط للمنزل في العاصمة يتراوح في حدود 750 ألف دولار. لكن المعركة الحقيقية بين كبار الأثرياء وصلت بالأسعار إلى أرقام قياسية. وحسب وكالة «رايت موف» العقارية، فإن متوسط اسعار العقارات في حي «كينزينغتون» مثلاً بلغ نحو 2.8 مليون دولار للشقة الفاخرة، بينما يبلغ متوسط سعر المنزل نحو 5 ملايين دولار.

غير أن الطفرة العقارية التي سادت كثيراً من أسواق العالم خلال السنوات الماضية قد انتهت الآن، وأن غالبية الأسواق الأوروبية تعاني حالياً إما من خسارة أو من انخفاضٍ كبير في أرباحها، وأن السبب في ذلك هو أزمة الائتمان المصرفي في البنوك العقارية التي بدأت في الولايات المتحدة. ورغم أن الأزمة طفحت إلى السطح بشكل واضح خلال هذا العام الا أن عدداً من الخبراء الماليين والعقاريين كانوا يحذرون من التساهل في القروض العقارية ومن خطورة هذه الديون في المستقبل والتي يمكن أن تتحول إلى «ديون هالكة» وهذا ما حدث الآن. وبالفعل فقد كان سوق العقارات في بريطانيا قد انغمس في استدانة مكثفة منذ عام 2000. وتوضح دراسة أعدتها جامعة «مونتفورت» البريطانية أنه بحلول يوليو (تموز) من عام 2006 كان إجمالي ديون قطاع العقارات قد بلغ رقماًً قياسياً، 176 مليار جنيه استرليني (نحو 315 مليار دولار)، مقارنة بـ 157 ملياراً الذي تحقق في نهاية عام 2005، أي بزيادة نسبتها 12% خلال عام واحد. كما لُوحظ أن «الرويال بنك أوف سكوتلاند» وبنك «اتش بي أو اس» كانا أكبر البنوك تمويلاً للقطاع العقاري التجاري. ومن جانبهم استغل مستثمرو العقارات خلال السنوات الماضية الفرق بين معدلات الفائدة المنخفضة (التي يدفعونها على قروضهم من البنوك) وبين عائدات الإيجار المرتفعة (التي يحصلون عليها من المستأجرين).

والمعروف أن أزمة الائتمان العقاري التي بدأت العام الماضي في الولايات المتحدة أدت إلى تأثيرات كبيرة وسلبية في الأسواق العقارية الأوروبية، خصوصاً بريطانيا. وكانت أزمة الائتمان العقاري في الولايات المتحدة قد تفاقمت أصلاً عندما سجلت البنوك العقارية نسبة عالية من الديون الهالكة أو المعدمة (غير المستردة بسبب عدم استطاعة أصحابها سدادها) مما سبب بدوره شُحاً في السيولة لدى البنوك. والآن تخشى بريطانيا من أن تمر بمرحلة مشابهة، ليس محاكاة للولايات المتحدة، لكن لأن كثيراً من المصارف الأوروبية لها مُلاّك أميركيون من صناديق الاستثمار والمصارف الأميركية. وبالفعل فقد تراجعت أسعار العقارات في بريطانيا الشهر الماضي بأعلى نسبة شهرية منذ الركود الاقتصادي في أوائل التسعينات. غير أن الشيء المدهش في أزمة الديون الهالكة أنها لا تشمل المواطنين العاديين الذين كثيراً ما يفشلون في سداد أقساطهم الشهرية بل تشمل المليونيرات والمليارديرات أيضاً. ويخشى البريطانيون من شبح ركود الثمانينات، لذا فقد حذر بعض الاقتصاديين من تكرار ما حدث إبان حكم مارجريت ثاتشر التي أنعشت الاقتصاد بسرعة فائقة عبر عمليات التخصيص وتغيير النظام المصرفي والمالي، ثم أعقب هذا الانتعاش ركودٌ اقتصادي في اوائل التسعينات وصف بأنه الأطول والأقسى في بريطانيا منذ الحرب العالمية الثانية. وكان من أحد ضحايا هذا الركود سوق العقارات الذي شهد ركودا مماثلا انخفضت خلاله الأسعار بنسب بلغت في بعض المناطق 40% من قيمة العقار. ومن جانبه أصدر البنك المركزي في منتصف عام 2006 تحذيراً من أن الارتفاع في اسعار العقارات لا يمكن أن يتواصل من دون التعرض الى مخاطر، واشار البنك وقتذاك الى أن اي ارتفاع أكبر من المتوقع في اسعار الفائدة على القروض العقارية سيكون بمثابة الكارثة على كثير من المستثمرين والملاك لأنهم قد لا يستطيعون الوفاء بسداد اقساطهم الشهرية على تلك القروض. واضاف البنك أنه كلما استمر الارتفاع لسنوات أطول، كانت حركة تصحيح الأسعار التي سيتعرض لها السوق أكثر عنفا. كما أيد محافظ البنك المركزي الأوروبي نظيره البريطاني في تخوفه من ارتفاع حجم القروض العقارية في دول الاتحاد الأوروبي التي قال إن أصحابها لن يستطيعوا سدادها اذا هبطت قيمة عقاراتهم في السوق. وطالب بمراقبة الوضع عن قرب ورفع أسعار الفائدة تدريجيا للحد من هذه القروض من دون إحداث صدمة. وعلى نفس المنوال اشار جون هارلي محافظ بنك ايرلندا المركزي الى أن الارتفاع غير المبرر في أسعار العقارات في بلاده سيؤدي الى حركة تصحيحية قوية.