إسبانيا: اشترِ عقارا واحصل على آخر مجانا!

في عصر تتجه فيه كل المؤشرات إلى كساد طويل الأجل

العقارات الإسبانية الساحلية تعاني من الكساد الاقتصادي والمخالفات القانونية أيضا («الشرق الأوسط»)
TT

بلغ من قسوة موجة الكساد العقاري في اسبانيا، ان بعض شركات العقار تعرض تخفيضات على الاسعار تصل الى 40 في المائة على العقارات الجديدة ويعرض بعضها الآخر عقارين بثمن عقار واحد. ومع ذلك لا تظهر بوادر تحسن في الاسواق وتتجه كل المؤشرات الى كساد طويل الاجل.

والجانب الذي يقلق الحكومة الاسبانية ورئيس وزرائها ثاباتيرو هو ارتفاع معدل البطالة بعد تسريح شركات البناء لآلاف من عمالها. وزاد معدل البطالة في اسبانيا هذا العام بنسبة 40 في المائة عن معدل العام الماضي، ليصل الى ثلاثة ملايين عاطل. وتعد نسبة البطالة الاسبانية هي الاعلى في اوروبا.

وتحاول الحكومة الاسبانية تجنب الكساد الاقتصادي، الذي بدا عقاريا، بخطة تحفيز مالي قيمتها 11 مليار يورو، ولكن تأثيرها سوف يكون ثانويا حيث لن تخلق هذه الخطة اكثر من 300 الف وظيفة بحد اقصى، كما انها لن تحسن من اسعار العقار المنهارة.

وتركز شركات العقار حاليا على انهاء المشاريع التي بدأتها لكي تسرع بها الى السوق لبيعها من اجل مزيد من السيولة، ولكنها لا تبدأ بأي مشاريع عقارية جديدة. ويتقلص حجم الشركات ودورها في الاقتصاد، بعد ان كان من اكبر قطاعات العقار الاوروبية مساهمة في الاقتصاد المحلي وبنسبة الضعف مقارنة مع دول اوروبية اخرى.

وأعلنت عشرات الشركات الاسبانية العاملة في مجال العقار افلاسها في العام الاخير، من بينها شركات عملاقة مثل هابيتات ومارتينسا ـ فاديسا. ومن بقي منها في السوق يقلص نشاطه العقاري ويبيع اصولا استثمارية في مجالات اخرى لمجرد الاستمرار في السوق. وينعكس هذا الوضع على البنوك التي تتراكم عليها الديون المتعثرة التي تذهب معظم قروضها الى الشركات وليس الى المشترين الافراد.

ويقدر بنك اسباميا المركزي ان نسبة الديون الرديئة في القطاع تخطت الاثنين في المائة، اي اكثر من ضعف ما كانت عليه منذ عام واحد.

وتقول هيئة شركات مطوري العقار الاسبانية ان معظم الشركات قد تضطر لاعلان افلاسها ان تراجعت الاسعار بنسبة 30 في المائة اخرى خلال العام المقبل كما هو متوقع من بعض الاوساط. وتأمل البنوك ألا تتراجع الاسعار الى الحدود الخطرة لانها حتى الان حافظت على سجل جيد على الاقل مع المقترضين الافراد. وحققت البنوك ذلك باتباع سياسة محافظة في الاقراض الشخصي لا تزيد عن نسبة 80 في المائة من قيمة العقارات المباعة. كما ان القروض ليست بضمان العقار وحده، وانما بضمان كافة اصول المقترض، ولذلك فلا يمكن في اسبانيا تسليم مفاتيح العقار الى البنك اذا ما انخفضت قيمة العقار عن حجم القرض، كما حدث في الولايات المتحدة وبريطانيا. ولكن على ما يبدو لم تتبع البنوك نفس السياسة الرشيدة مع الشركات العقارية التي اقرضتها في الماضي بلا حساب.

وما يشير الى سوء اوضاع السوق ان معظم العقارات الجديدة التي ظلت الشركات تطرحها في السوق بأرقام قياسية، تبقى غير مباعة. ويختلف رقم العقارات غير المباعة من مصدر لآخر ولكنها وصلت في شهر يوليو (تموز) الماضي الى رقم قياسي بلغ حوالي 71 الف عقار، تضاف الى رصيد غير مباع يتراوح ما بين نصف مليون و900 الف عقار. وكانت معظم هذه العقارات الجديدة قد دخلت السوق خلال الشهور العشرة الاخيرة.

ويقول موقع عقاري اسباني على الانترنت (idealista.com) ان معظم البائعين من الاشخاص لا يصدقون مدى الانهيار السعري الذي لحق بعقاراتهم. ويساهم رفض بعضهم بيع عقاره بمبلغ يقل عما كان عليه من عام واحد في تجميد صفقات البيع والشراء بينما يتكفل رفض البنوك للاقراض في اصابة السوق العقاري بما بشبه الشلل الكامل. ولكن مطوري العقار يعرفون حقيقة الاوضاع حيث تباع بعض العقارات الجديدة بنسبة كبيرة اقل من الاسعار المعلنة. وكما هو الحال في بعض اسواق العقار الاخرى ترفض الشركات الإفصاح علنا عن حقيقة الاسعار التي تتم بها الصفقات حتى لا يؤدي ذلك الى المزيد من الانخفاض السعري. وأكثر ما تخشاه الشركات هو ان يلغي العديد من المشترين الصفقات التي دفعوا ثمنها مقدما للبحث عن صفقات اخرى قد تكون ارخص لهم حتى بعد خسارة ما دفعوه.

وليس من المعروف بعد مدى التراجع الذي سوف يعاني منه السوق الاسباني خصوصا وان هناك العديد من العوامل الخفية، حيث لا يعلن الاسبان في العادة عن القيمة الكاملة للعقار لاسباب ضريبية، وهو وضع يفيد البائع والمشتري على حد سواء لانه يخفض من قيمة الضرائب المستحقة. وتقول الاحصاءات الرسمية من الحكومة الاسبانية ان معدل الاسعار هبط في الربع الاخير بنسبة 1.3 في المائة، ولكن مصادر تجارية اخرى ترفع التقدير الحقيقي الى نحو ثمانية في المائة.

هذه الازمة العميقة تأتي بعد سنوات من النمو القياسي في اسواق العقار، وفي الاقتصاد بوجه عام. ويقول احدث تقرير من منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية ان نسبة نمو الاقتصاد الاسباني هذا العام لن تزيد عن نصف ما كانت عليه في العام الماضي، وتهبط الى 1.6 في المائة، كما تتراجع الى اقل من واحد في المائة في عام 2009. ويضيف التقرير ان نسبة البطالة تصل الان الى حوالي 10 في المائة، اي الاعلى في منطقة اليورو. وتزيد النسبة الى 12 في المائة بين المهاجرين والمقيمين في اسبانيا. وكان معظم العاطلين يعملون في مجال الانشاء والبناء، وهو القطاع المعطل تقريبا في الوقت الحاضر بسبب الازمة.

وفيما تتوقف تقريبا اعمال البناء في مشروعات العقار التقليدية التي اجتذبت الكثير من الانتقاد بسبب كثافتها وسوء تصميمها وتهديدها للبيئة المحلية، فإن هناك بعض المشروعات الجديدة التي تراعي البيئة والتي تجد فيها الشركات مخرجا مؤقتا من الازمة. ويبدو ان الطلب على هذه العقارات البيئية يسير على ما يرام وفقا لما اعلنته بعض الشركات الناشطة في المجال. وتشمل الملامح البيئية التي يحصل عليها المشتري: مساحات مفتوحة من الجهتين لترشيد استخدام الطاقة من حيث التبريد صيفا عبر تيارات الرياح، والتدفئة شتاء عبر اشعة الشمس من الجهتين. ويتم تسخين المياه بألواح الخلايا الشمسية، كما تجري اعادة تكرير واستخدام المياه. وتوجد اوعية لاستقبال واستخدام مياه الامطار مع صنابير خاصة لتوفير استهلاك المياه في الاغراض المنزلية. ويتم استخدام الطلاء الطبيعي في هذه العقارات الجديدة، كما ان الاخشاب المستخدمة في الانشاءات كلها من مصادر متجددة. ويجري تحويل الفضلات الى سماد يستخدم في الحدائق والمساحات الخضراء حول المشروع.

وتشجع الحكومة الاسبانية هذا التوجه وتتيح الكثير من الحوافز للشركات للعناية بالبيئة. وقد يكون في هذه الحوافز، وايضا في اقبال المشترين، خصوصا من انحاء اوروبا، على هذا الاسلوب البيئي الجديد لتنمية العقار، المخرج الذي تنتظره اسبانيا لتخطي ازمة السوق الحالية. وتقول احصاءات الحكومة الاسبانية ان نسبة 12 في المائة من الطاقة الاجمالية مصدرها من الرياح، وهي نسبة عالية حتى بالمقاييس الاوروبية. وتشترط الحكومة الاسبانية حاليا ان يتم تركيب الالواح الشمسية على سقوف كل المباني الجديدة قبل حصولها على التراخيص الرسمية. وتنفق الحكومة الاسبانية حوالي مليار يورو سنويا من الاعانات للمباني القديمة عديمة الكفاءة في استخدام الطاقة من اجل تحديثها وزيادة كفاءة استخدام الطاقة فيها.

من ناحية اخرى تدرس الحكومة الاسبانية خطط ازالة مئات العقارات المخالفة لشروط البيئة وتراخيص البناء، خصوصا تلك التي بنيت على الساحل بين مدينتي برشلونة شرقا وحتى مدينة مالاغا (ملقة) غربا. وتؤكد هذا التوجه مصادر قانونية في اسبانيا تعتقد ان بعض مستثمري العقار يجب ان يشعروا بالقلق لان تراخيص البناء التي تم الحصول عليها من بلديات المدن لا تكفي وان بعضها غير قانوني لان المسؤولين في هذه المدن تلقوا رشاوى من اجل اصدار هذه التراخيص لعقارات في مناطق ممنوع فيها البناء.

ويشترط قانون مدني اسباني يعود تاريخه الى عام 1988، منع البناء على السواحل لمسافة مائة متر من اعلى نقطة يصلها المد البحري، ولذلك فإن اي عقارات ساحلية بنيت في العشرين عاما ضمن هذه المسافة تعتبر غير قانونية. وما يزيد الامر تعقيدا ان العديد من العقارات المخالفة التي بنيت بعد صدور القانون كانت بموافقة رسمية من مجالس المدن وعدم ممانعة من الحكومات الاقليمية.

وتخضع القضية في الوقت الحاضر للكثير من المناقشات العلنية على المستوى الحكومي والشعبي في اسبانيا. وتطالب جهات قانونية في اسبانيا بالعدالة والتعويض للملاك المتضررين، خصوصا في حالات الهدم العشوائي بناء على قرارات تطبيق قوانين بأثر رجعي، خصوصا في الحالات التي كان فيها شراء العقارات بنوايا سليمة من الاطراف المعنية. وهناك على الاقل مكتب قانوني واحد يقدم الاستشارات القانونية للمتضررين، ويساعد المستثمرين المتضررين على استعادة بعض حقوقهم. ويقول رئيس مكتب استشاري ان المذنبين في هذا الوضع هم مجالس المدن والمحامون، وهم الجهات التي خدعت المستثمرين ولم تقدم لهم المشورة القانونية السليمة.

المؤسف في الوضع العقاري الاسباني ان الآلاف من العقارات في الوقت الحاضر تعتبر في حكم المجمدة، ليس فقط من الناحية السعرية التجارية، وانما ايضا من حيث وضعها القانوني، حيث يصعب بيعها او التصرف فيها حتى يتم البت في تراخيصها. وحتى الان ترفض الحكومات الاقليمية اصدار تراخيص بأثر رجعي لعقارات بنيت في سنوات ماضية، وتقصر نشاط التراخيص على مشاريع العقار الجديدة التي لم تبن بعد. وتوجد حاليا جماعات ضغط بين المقيمين في اسبانيا للدفاع عن حقوق المستثمرين في العقار، ومعارضة تطبيق قوانين غامضة عليهم تدعي الجهات الرسمية انهم خالفوها بينما يؤكد المحامون ان المستثمرين لم يكونوا يعلمون بها اصلا.

ولكن قبل التفكير في الهروب من القطاع العقاري الاسباني، لا بد من معرفة ان المشاكل القانونية هامشية للغاية، بالمقارنة مع مشكلة الكساد العقاري. كما ان العقارات المخالفة قليلة في نسبتها العددية. ويتوقع خبراء العقار الاسباني هبوط الأسعار تدريجيا بنسبة 20 في المائة في السنوات الثلاث المقبلة، ما لم تحدث تحولات جذرية على الصعيدين الاقتصادي والقانوني في اسبانيا.

وفيما يخص قرار الاستثمار في اسبانيا يختلف الخبراء في الرأي بين الابتعاد عن السوق الاسباني في المدى القصير لان التوجهات فيه سلبية حاليا، والدخول الى السوق لصيد الفرص الثمينة بأسعار رخيصة قد لا تتكرر. وفي كل الاحوال يجب على الموجودين في السوق فعلا عدم التسرع باتخاذ اي قرار حاليا حتى تستقر احوال السوق. وينظر الاتحاد الاوروبي الى موجة الهبوط العقاري على انها تصحيح يحتاجه السوق حتى تتراجع موجة البناء العشوائي السريع. وتأمل المفوضية الاوروبية ان يساهم التصحيح في ابعاد المضاربين وعصابات غسيل الاموال وبائعي العقارات من على الخرائط من السوق، ولو لفترة. وتختلف الحالة الاسبانية عن بقية الاسواق في ان التوجهات السلبية فيها تبلورت عبر فترة زادت عن العام وساهمت فيها عدة عوامل. من ناحية ظهرت حالات فساد في منطقة ماربيا السياحية التي ما زال بعض موظفي بلديتها في السجن بتهم مختلفة في قضايا فساد. كما زادت المنافسة للعقارات الاسبانية من جهات ارخص مثل المغرب وشرق اوروبا، الامر الذي استنفد الكثير من الطلب الدولي على العقارات الاسبانية. وأكد اكثر من خبير عقاري اسباني عن اعتقاده بأن مستوى اسعار العقار في اسبانيا سوف يتراجع ربما لعدة سنوات اخرى، بعد فترات قياسية من الزيادة التي تخطت العشرة في المائة سنويا، وكان اخرها بنسبة تسعة في المائة عام 2007.