برامج عقار تلفزيونية ترسم صورة وردية لأسواق لا توجد إلا في خيال

نصائحها خاطئة للمستثمرين في عصر الكساد

برامج العقار التلفزيونية.. هل ساهمت في الأزمة؟
TT

تبلور في السنوات الأخيرة العديد من البرامج التلفزيونية الخاصة بالعقار في الولايات المتحدة وبريطانيا، والدول الأوروبية أيضا. وارتكزت بعض هذه البرامج على الانتعاش العقاري الذي قدمته للمشاهد على انه ظاهرة مستمرة وربح مضمون. فكان منها مَن ينصح بشراء المنازل القديمة وتجديدها ومن ثم بيعها، وفتحت برامج أخرى آفاق الشراء في أسواق جديدة في برامج كانت تصطحب المشاهدين في رحلات سياحية ـ عقارية إلى دول تمتد من اليابان شرقا إلى البرازيل غربا.

هذه البرامج أعطت المشاهدين انطباعا بأن الاستثمار العقاري عملية سهلة، حيث إجراء التعديلات الهيكلية والديكورات الداخلية يقوم بها فريق من المحترفين ويراها المشاهد تنتهي بلا مشاكل ولا تعقيدات أمام عينيه أثناء فترة البرامج التي لا تزيد في العادة عن الساعة الواحدة. كما تجري أيضا عمليات البيع والشراء وتغيير الموقع الجغرافي في سلاسة لا علاقة لها بالواقع.

لكن هذه البرامج اضطرت لتغيير توجهاتها ووتيرتها في الأشهر الأخيرة مع انهيار أسواق العقار من الناحية الاستثمارية وعزوف المستثمرين عن اتخاذ أية قرارات حتى تتضح ملامح أسواق المال والاستثمار. بعض البرامج توقف تماما واندثر والبعض الآخر غير أهدافه نحو تعريف المستثمر بأفضل الطرق لتسهيل بيع عقاره بداية من إزالة ازدحام الأغراض الشخصية من العقار وتنظيف المكان جيدا قبل عرضه للبيع وانتهاء بالتخلص من روائح القطط والكلاب المنزلية واستبدالها برائحة القهوة المنعشة.

وظهرت في الأسابيع الأخيرة أنماط غير معهودة من البرامج منها مثلا ما يمنح المشاهد المتعثر ماليا في دفع أقساط عقاره مبلغا من المال لكي يدخل به بعض التحسينات على العقار من اجل تحسين فرص البيع او رفع قيمته قليلا بحيث يحصل على تقييم أعلى للعقار، الأمر الذي يتيح له إعادة التمويل بقرض ارخص.

ومثل هذه البرامج لم يكن لها أن تظهر في عصر الانتعاش الذي كانت العقارات فيه تباع أحيانا في نفس اليوم الذي تعرض فيه للبيع. واضطرت هذه البرامج أن تعكس واقع السوق والصعوبات التي يواجهها المستثمر في أسواق خاملة.

ومع ذلك فما زالت بعض البرامج مصرة على عرض فوائد الاستثمار الفوري في العقار، أي المضاربة، بحيث يشتري المستثمر عقارات على الخريطة ويحاول بيعها بربح بعد فترة. لكن مثل هذه البرامج تضيف تحذيرا في الوقت الحاضر ان عمليات المضاربة العقارية لها مخاطر، كما تستعرض بعض الحالات التي خسر فيها مضاربون أموالهم أو فشلوا في العثور على عقارات لا يرغبون في الاحتفاظ بها.

وفي بحث ميداني قامت به شركة أبحاث سوق أميركية اسمها «تي إل سي» عبّر العديد من المشاهدين عن إحباط شديد من هذه البرامج لأنها «ترسم صورة وردية لأسواق لا توجد إلا في خيال منفذي هذه البرامج». ويشرح احد المشاهدين وجهة نظره بالقول إن هذه البرامج تظهر مندوبي الشركات العقارية يقابلون المستثمر في حديقة مشمسة وسط زهور وأشجار يانعة، للتحدث عن عملية بيع عقار لا يتخللها سوى توقيع ورقة واحدة، بدلا من عشرات الوثائق. كما أن البرامج تظهر البيوت المعروضة للبيع نظيفة تماما ولا تشير الى الجهد الكبير الذي يبذله البائع من اجل عرض العقار على هذه الصورة، ولا الإحباط الذي يصاب به عندما يرفض العديد من المستثمرين التقدم بعروض شراء. فالبرامج لا تشرح أن عمليات بيع وشراء العقارات هي عمليات طويلة ومعقدة.

من ناحية أخرى، تقول مندوبة تسويق عقاري إن البرامج مفيدة في توعية المشاهدين بالتخلص من أغراضهم الشخصية التي تتراكم في المنازل من اجل تسهيل البيع وهو أمر كان من الصعب على شركات العقار أن تقوله للبائعين. لكنها تشير إلى أن البرامج ما زالت مقصرة في عدم شرح تكاليف الديكورات التي تجرى على العقارات قبل بيعها. وفيما تشير بعض البرامج إلى تكلفة المواد المستخدمة، فإنها تغفل أحيانا تكاليف الأيدي العاملة التي تمثل الجانب الأكبر من تكاليف.

ويقول مشاهد آخر شمله البحث إن البرامج لا تشرح أيضا الوقت الذي تستغرقه عمليات تجديد العقار ولا الإحباط الذي ينتج عادة من تأخر التسليم او وقوع الأخطاء في التنفيذ. وتوحي بعض البرامج بأن التجديد عملية سهلة ولا تتطلب الكثير من الخبرة، وهذا غير صحيح.

من الملاحظات الأخرى ان البرامج تفشل أيضا في توضيح ان معظم عمليات التعديل الهيكلي في العقارات تحتاج الى تراخيص من السلطات المحلية كما لا تعرض عمليات التفتيش الهندسي على العقارات للتأكد من صلاحية عمليات التعديل التي جرت.

وتقصر البرامج أيضا في الشرح الواقعي لطول الفترة التي يحتاجها المستثمر لاستكمال عملية الشراء وحجم الإجراءات المطلوبة، كما لا تتعرض لعمليات التفاوض الصعبة بين البائع والمشتري بما يعطي انطباعا خاطئا ان كل العروض مقبولة من المشترين. وفي الواقع فإن مثل هذه المفاوضات صعبة وتتطلب أحيانا العديد من الجولات المكوكية بين البائع والمشتري للوصول الى حل وسط.

من ناحية أخرى، تعبر شركات العقار عن اهتمامها بهذه البرامج وتعتبرها من الأدوات المهمة في السوق، خصوصا من جهة التعامل مع البائعين، فالتعامل مع من له خبرة ببرامج العقار التلفزيونية أسهل لان البرامج تنجز بعض المهمة من حيث شرح ضرورة العناية بمظهر العقار وربما استخدام بعض الطلاء الجديد قبل العرض في السوق.

أما الخرافة التي يريد مسوقو العقار ان يكشفوها فهي أن هذه البرامج تعطي الانطباع ان البائع يمكنه ان يطلب السعر الذي يريده في العقار المعروض للبيع. فالبرامج تعرض أحيانا مالك العقار يقوم ببعض التجديدات، ثم يقول له مسؤول التسويق العقاري إن عقاره الآن يوازي مبلغا اكبر. لكن البرامج لا تكشف أن السعر الحقيقي قد يقل كثيرا عن تقدير شركات تسويق العقار، خصوصا في أسواق اليوم التي تهبط فيها الأسعار على شكل شهري.

وإذا كانت برامج العقار قد قامت بمهمتها على أكمل وجه في التسويق العقاري أثناء فترة الطفرة، فإنها تجد صعوبة في الوقت الحاضر في تبرير مهمتها وتتجه الى مجالات فرعية. وتقول بعض شركات العقار إنها لاحظت ظاهرة أخرى لم تكن موجودة في السوق بالمرة قبل انتشار برامج العقار التلفزيونية، وهي ظهور العديد من «المتفرجين» في السوق الذين يتوجهون لزيارة عقارات معروضة للبيع لمجرد المشاهدة والتعرف على الديكورات الداخلية مع عدم وجود الرغبة أصلا في الشراء. وتسبب هذه الفئة الكثير من الإحباط لشركات تسويق العقار وللبائعين على السواء.

وفي بريطانيا وحدها يصل عدد البرامج التلفزيونية الخاصة بالعقارات والموضوعات المتعلقة بها من حدائق وتمويل وتجديد واستثمار الى نحو 60 برنامجا أسبوعيا. وقد أثار عدد هذه البرامج سخط المشاهدين، خصوصا في قمة فقاعة العقار عندما كان بعض هذه البرامج يشجع المشاهدين على الاستثمار وشراء العقار في سوق متضخمة. ووجهت جمعيات خاصة بحماية المستهلكين انتقادات علنية لبعض البرامج مثل برنامج اسمه «السلم العقاري» التي تنصح المشاهدين بكيفية تحقيق الأرباح من شراء العقارات ثم بيعها مرة أخرى. وتوجد برامج أخرى تعرضت للانتقاد كانت تنصح المشاهدين بالحصول على قروض عقارية ميسرة بضمان العقار لتنفيذ مشاريع ديكورات داخلية مثل تحديث المطابخ والحمامات. وكانت النتيجة ان حجم بعض القروض الآن تخطى بنسبة كبيرة قيمة العقارات نفسها حتى بعد إجراء التجديدات عليها. أما اخطر البرامج فكانت تلك التي كانت تنصح بالاقتراض بضمان العقارات الأصلية التي تسكن فيها العائلات من اجل شراء عقارات في الخارج. ويقول موقع الكتروني اسمه «تخطى الانهيار المالي بسلام»، إن برامج العقار البريطانية كانت تعطي الانطباع بأن أي مغفل يمكنه ان يصنع ثروة سريعة بدخول مجال الاستثمار العقاري، بالمزيد من الاقتراض وهذا غير صحيح بالمرة، وساهم في تعميق الأزمة كما أدى بالآلاف الذين اشتروا عقارات في قمة السوق الى الخسائر وربما الإفلاس.

وتذهب بعض المواقع الى حد اتهام برامج العقار التلفزيونية بالخداع لأنها تذكر أرباحا وهمية من عمليات شراء العقارات وتأجيرها، في وقت كان فيه العديد من أصحاب العقارات يحققون خسائر بسبب تردي معدلات الإيجار.

وبخلاف مواقع الانترنت نشرت صحيفة «التايمز» اللندنية انتقادا لبرنامج اسمه «الموقع ثم الموقع ثم الموقع» ظل بعد أزمة انهيار الأسعار يحث مشاهديه على شراء العقار بأسعار متضخمة تحت دعوى أن الإيجار هو بمثابة «دفع القسط العقاري لشخص آخر هو صاحب العقار». لكن عند التنفيذ العملي للتجربة على زوجين يريدان الشراء بدلا من الإيجار قال مقدم البرنامج إن عليهما التخلي عن بعض النوعية والمساحة في العقار الذي يناسب ميزانيتهما، أي أن الإيجار كان يوفر لهما مستويات أفضل من المعيشة. وتضيف الصحيفة ان تقديم الشراء على انه البديل الأفضل في الوقت الراهن لهو ضرب من الخداع، لان المشتري سوف يجد ان قيمة استثماره في تراجع وليس زيادة، وهذا النوع من الاستثمار لا جدوى له. وفي لندن ما زال استئجار شقة من غرفتين في منطقة مثل بادنغتون يقل عن أقساط شرائها بحوالي خمسة آلاف جنيه استرليني سنويا. هذا على الرغم من هبوط الأسعار في المنطقة بنسبة 20 في المائة على الأقل عما كانت عليه منذ عام واحد.

وتذهب بعض وسائل الإعلام الشعبية الى توجيه اللوم الى برامج الاستثمار العقاري بأنها احد أسباب فقاعة الأسعار التي أدت في النهاية الى انهيار الأسواق. وتضيف ان هذه البرامج يجب ان تبث مع تحذير واضح من ان اللعب بنار العقار في أسواق اليوم نتيجته احتراق اليدين والكثير من الأموال.

* كيف تتعامل برامج الـ«بي بي سي» مع الأزمة؟

* يشرح ليام كيلان، رئيس البرامج في هيئة الإذاعة البريطانية «بي بي سي»، أن برامج العقار التي تقدمها الهيئة تغيرت مع تحول الأسواق. وهو يؤكد أن البرامج يجب أن تعكس الواقع، وأنها الآن لا تعطي نصائح استثمارية بل تطلب من المشاهدين توخي الحذر عند اتخاذ أي قرار متعلق بالاستثمار العقاري.

وأدخلت الهيئة أيضا بعض التعديلات مثل ضرورة ذكر تاريخ الأحداث التي تسجلها البرامج مثل المزادات، حتى يعرف المشاهد توقيت الأحداث التي قد تتغير فيها الأسعار على نحو أسبوعي. وتوجه البرامج أنظار المشاهدين الى برامج الانترنت التابعة لها التي تحوي احدث تطورات الأسعار وأحوال السوق.

وتخطط الهيئة أيضا لتقديم برامج جديدة تتعامل مع الواقع بداية من العام الجديد، لكي تضع هذه البرامج فيما بينها ملامح أسواق العقار لكافة الأطراف المتعاملة فيها، سواء كانوا بائعين او مشترين او مديونين. وتعتزم الهيئة الاستعانة بخبرة بعض المعلقين الماليين الى جانب نصائح خبراء العقار التقليديين.

ومن بين أهم ثلاثة برامج سوف يتوجه احدها لشرح فرص الاستثمار المتاحة لتطوير عقارات بعد شرائها في المزاد، ويعالج برنامج آخر كيفية بيع العقارات من غير وسطاء عقاريين. أما البرنامج الثالث فهو يعالج مشكلة صعوبة بيع العقارات باستعراض بعض العقارات التي فشل مالكوها في بيعها وتحويل الأمر للخبراء لإجراء التعديلات الكفيلة لتحريك هذه العقارات في السوق. وتنصح برامج أخرى بتجنب شراء العقار في الوقت الراهن والتركيز على تحسين العقارات التي يقيم فيها المستثمر بدلا من التنقل العقاري باهظ التكلفة.

وبوجه عام تعود برامج العقار التلفزيونية الى مهمتها الأصلية في تقييم العقار كمقر للسكن الملائم أولا بدلا من تسويقه وكأنه وسيلة للربح السريع. كما تلتزم البرامج ببعد أخلاقي وهو محاولة مساعدة المتعثرين على تجنب فقدان عقاراتهم أثناء الأزمة، والتخفيف عن هؤلاء الذين يرزحون تحت وطأة ديون عقارية باهظة على عقارات ليس لديهم أي أمل في بيعها في السوق في الوقت الحاضر.