القطاع العقاري في لبنان مر بثلاث مراحل عام 2008

الهدوء الحالي.. هل ينذر بعاصفة أسعار جديدة؟

TT

مرَّ القطاع العقاري في لبنان خلال العام المنصرم بثلاث مراحل اقتصادية، من دون أن يشهد غياب الطلب حتى في المرحلة الصعبة. فمن يناير (كانون الثاني) وحتى مايو (أيار) تطور السوق العقاري تبعاً للظروف الأمنية والسياسية، واتسم بانحسار كبير للتفاؤل، نتيجة استمرار اعتصام المعارضة في وسط بيروت التجاري وعدم انتخاب رئيس للجمهورية في الموعد المحدد دستوريًّا، واستمرار إقفال مجلس النواب. وجاءت أحداث السابع من مايو (أيار) في العاصمة اللبنانية، لتزيد الصورة سواداً، ولكن كل ذلك لم يمنع من استمرار الحركة العقارية التي بقيت الأقل تأثراً بكل هذه التطورات، وبقي اللبنانيون العاملون في الخارج يسعون وراء شراء الشقق السكنية، مما جعل الأسعار تتطور تدريجيًّا، استمرارًا لتطورها خلال عام 2007.

المرحلة الثانية امتدت من مايو (أيار) وحتى أغسطس (آب)، وتحديداً حتى «اتفاق الدوحة» بين الأطراف اللبنانية المتنازعة. وقد رفع هذا الاتفاق طلب العاملين في الخارج والمقيمين على الشقق السكنية والاستثمار في القطاع، وتجلى ذلك في نجاح العديد من المشروعات في تحقيق مبيعات كبيرة، حتى إن أحد المشروعات على واجهة بيروت البحرية سجَّل أكثر من 20 صفقة بيع في أسابيع قليلة. وفي الوقت نفسه استمرت الأسعار في الارتفاع بنسبة تتراوح بين 30 و40 في المائة خلال الأشهر الثمانية الأولى من العام. وتعزى هذه النسبة من الارتفاع بصورة رئيسية إلى ارتفاع أسعار مواد البناء الأولية، وارتفاع سعر الأراضي، وتسارع الطلب، حتى إنه بات من المستحيل العثور على الطبقة الأولى في أحياء بيروت الراقية بأقل من 3 آلاف و3500 دولار للمتر المربع الواحد.

أما المرحلة الثالثة فبدأت في شهر سبتمبر (أيلول) وقد تميزت بالهدوء في السوق، سواء على مستوى الطلب، أو على مستوى الأسعار، ولا يزال هذا الهدوء هو سيد الساحة حتى الآن، فيما لبنان لا يزال في منأى عن تأثيرات الأزمة المالية، وأزمة البورصات التي ضربت الأسواق الأميركية والأوروبية وبعض دول الخليج. وكان من الطبيعي أن تترجم هذه التهدئة بانخفاض الطلب وترقب التطورات اللاحقة في ضوء تراجع أسعار المواد الأولية، وتراجع أسعار النفط العالمية، وسعر صرف اليورو، بالإضافة إلى خسارة بعض اللبنانيين العاملين في الخارج قسماً من مدخراتهم في البورصات العالمية والخليجية. وعلى الرغم من هذا الانخفاض في الطلب، فقد حافظت الأسعار على قدر من «المقاومة» بحيث يرفض تجار البناء، أو معظمهم، خفض الأسعار، وقد يلجأون إلى توسيع هامش التفاوض في أحسن الأحوال. وهكذا يبدو أن طرفي الصفقات العقارية يتمترسان في مواقعهما. فالمالكون يرفضون التهاون في الأسعار، والمشترون يترقبون انخفاضاً أثار الكثير من اللغط بين خبراء العقار.

وفي هذا المجال يقول المدير العام لمؤسسة «كونتوار الأمانة» العقارية وديع كنعان لـ «الشرق الأوسط»: «يردد البعض أن أسعار العقار المبني وغير المبني ستتراجع مع تراجع أسعار المواد الأولية، وتراجع سعر صرف اليورو، وإمكان تقلص التدفقات المالية نحو القطاع السكني اللبناني. ويذهب البعض إلى القول إن الارتفاع الكبير في أسعار العقارات خلال عام 2008 كان بدوافع نفسية، ولا سيما بعد الصدمة الإيجابية التي أحدثها اتفاق الدوحة. لكن كل هذا الكلام ليس في محله الصحيح؛ لأن ما حصل من ارتفاعات في أسعار العقار اللبناني هو تصحيح لسعر العقار في لبنان، ومع ذلك ما زال العقار في بيروت هو من بين الأدنى سعراً في المنطقة العربية، في حين أننا لا نزال نذكر كيف أن سعر العقار في لبنان كان الأعلى في المنطقة قبل أن تعرف الطفرات العقارية الأخيرة.

والحقيقة أن التوقعات بالتراجع ليست سوى تعبير عن «الأشهر الميتة» في القطاع، وقد يكون من المفيد للراغب في الشراء أو الاستثمار أن يُقدم على الشراء في هذه الأشهر (أشهر الخريف والشتاء)؛ لأن الأسعار مرشحة لفورة جديدة ابتداء من الربيع المقبل، أيًّا كان الانخفاض في أسعار المواد الأولية (من حديد وترابة ورمل وحصى)، وقد يصل سعر المتر المربع من البناء الذي يباع اليوم بين 1200 و1500 دولار إلى 2500 وحتى 3 آلاف دولار. وقد يستغرب البعض ما نقول، لكن ما سبق أن توقعناه في مقالات ودراسات سابقة يؤكد رؤيتنا للحركة العقارية ومستقبلهما».

وحول دور البنك المركزي في إدارة السوق وحمايتها، قال: «لا شك أن الحماية التي وفرها، ولا يزال يوفرها بنك لبنان للبنوك هي التي حمت هذه البنوك، وحمت القطاع العقاري من المضاربات والعشوائية، وكان آخر تعميم صادر عن البنك في هذا المجال، يتناول فرض توافر 40 في المائة من قيمة أي مشروع سكني لدى المستثمر، وقد جاء على أثر انفجار أزمة الرهن العقاري في الولايات المتحدة، والتحسب لأي أزمة مماثلة في لبنان، لكنها مستبعدة تماماً في ظل الضوابط التي يفرضها بنك لبنان، وتعتمدها إدارات البنوك نفسها».

وعما إذا كانت عوامل الانتعاش العقاري ما زالت متوافرة في لبنان، قال كنعان: «يمكن القول إن العقار في لبنان كان الملجأ الأكثر أماناً للأموال على الدوام، كما هو حال الذهب في مختلف أنحاء العالم، لا بل إن العقار اللبناني كان فوهة ذهب، في الكثير من الحالات، للمطورين العقاريين والمستثمرين؛ لأن لبنان يتميز عن سواه من بلدان المنطقة بمناخه المعتدل، وطبيعته الخلابة، وجغرافيته الضيقة، وإنسانه القادر على التكيف مع كل الظروف وكل الفئات. وكان من الطبيعي أن تشهد فترة ما بعد الحرب، أي منذ بداية التسعينات، طفرات عقارية تقصر وتطول تبعاً للظروف التي يمر بها البلد، ولكن توقف هذه الطفرات قسراً، لم يؤدِّ يوماً إلى تراجع في أسعار العقار، بل إلى استقرار في انتظار طفرة أخرى، ويكاد السوق العقاري في لبنان يكون القطاع الوحيد الذي لم يتكبد أضراراً، ولم يعانِ من الصدمات».

وإذا قارنا بين السوق العقارية في لبنان والسوق في غيره من البلدان العربية، يضيف كنعان: «إن ما يميز لبنان هو مناخه المعتدل وطبيعته المختلفة عن طبيعة البلدان العربية، وضيق مساحته، وهذا ما جعله غاية سكنية واستثمارية لرعايا الخليج بصورة خاصة، لا سيما بعد إقرار لبنان قانوناً متسامحاً لجهة تملك الأجانب، بالإضافة إلى وجود فوائض مالية ضخمة في المنطقة نتيجة ارتفاع أسعار النفط. ولهذا بتنا نرى قصوراً وفللاً ومساكن للخليجيين في كل مصيف من مصايف لبنان، كما أن المستثمرين الخليجيين كان لهم نصيب وافر في عقارات وسط بيروت التجاري. ويتميز العقار في لبنان أيضاً بأنه يستهدف البناء السكني بالدرجة الأولى، أولاً لأن لبنان خرج من حرب مدمرة، وانفجر الطلب على المساكن محليًّا واغترابيًّا وخليجيًّا. أما الأسواق العربية، ولا سيما الخليجية، عرفت طفرات عقارية، بعضها فوق طاقة البلد على الامتصاص، ومن دون أن يؤدي إلى خفض الأسعار الخيالية، إيجاراً وشراء، مع الإشارة إلى أن هذه الأسواق محظورة على غير الرعايا الخليجيين، ولذلك فهي تتجه ناحية العقار التأجيري، الفخم والعادي، الأول لرجال الأعمال والكادرات الأجنبية العليا، والعادي للموظفين المتدفقين من كل بلدان آسيا».

ويتابع: «من الواضح أن التملك هو الطاغي على السوق العقاري في لبنان، سواء من اللبنانيين أو المغتربين أو الرعايا الخليجيين، في حين أن المستثمرين الكبار، لبنانيين وغير لبنانيين، يميلون إلى البناء الفخم والفلل المعدة للبيع السكني، والسياحي (فنادق ومطاعم)، والتجاري (مولات ومخازن كبرى)».