العقار الأميركي يتحرك من نيويورك.. وفرص في فلوريدا

مع بداية عصر أوباما

اسواق نيويورك في القطاع الفاخر لم تتأثر كثيرا بالانهيار العقاري (الشرق الاوسط)
TT

يتطلع قطاع العقار الأميركي لكثير من التغيير تحت الإدارة الجديدة لباراك أوباما، بعد طول معاناة في السنوات الماضية من أزمات متتالية، بدأت بأزمة الرهن العقاري، وانتهت بعاصفة الأسواق المالية وسقوط البنوك وشركات الاستثمار. وأثناء مراحل الأزمة المختلفة لم تعان نيويورك، مثل غيرها من المدن الأميركية، من انهيار القيم العقارية، وبقيت بعض الأحياء في مانهاتن مستقرة نسبيا، تماما مثل بعض الأحياء الفاخرة في المدن الأوروبية الرئيسية التي حافظت على قيمتها.

وتأمل نيويورك في أن تتغير الخريطة المالية بنفس الدرجة التي تغيرت بها الخريطة السياسية، بحيث يتم تخطي الأزمة المالية السائدة، بأقل الخسائر الممكنة، وفي أسرع وقت ممكن. وتراقب الأسواق خطوات الرئيس الجديد أوباما الذي سبق ووعد بإعادة ضرائب للأسر الفقيرة، التي تعاني من الأزمة، بما يعادل نسبة 10 في المائة من القروض العقارية المستحقة عليها. ولكن أبعاد الأزمة السائدة قد تقتضي المزيد من إجراءات الإنقاذ.

ولكن المراقب لسوق نيويورك العقاري يمكنه أن يستشف أن حركة بدأت تدب في أوصاله خلال الربع الأخير من 2008، حيث بيعت مثلا كل الوحدات العقارية في مشاريع جديدة غالية الثمن، تبدأ أسعار الشقق الاستديو فيها من 700 ألف دولار. وتضافرت عدة عوامل في تحقيق هذه المبيعات، منها الاستثمارات الأجنبية، ومنها نسبة كبيرة من الاستثمار العربي، وتخفيضات قدمها مطورو العقار لإتمام حسابات العام الماضي، وقيمة الدولار التي ظلت منخفضة حتى بداية العام الجاري.

وحتى في الحي المالي القريب من وول ستريت، كانت الصفقات تنجز في الوقت الذي كانت المؤسسات المالية تئن من وطأة الأزمة، والوظائف تختفي بالمئات يوميا. وكان أنجح المشروعات في المنطقة مشروع «سيبرياني ريسدنس»، وآخر اسمه «20 باين» صممه أرماني. وفي المشروع الأول الذي جرى بتحديث مبنى سيبرياني في قلب وول ستريت، وهو مبنى تاريخي بني عام 1850، بيعت 91 شقة من أصل 106 شقق فاخرة. أما مشروع أرماني، المقام في ناطحة سحاب يعود تاريخها إلى العشرينات، فقد بيعت فيه 384 شقة من أصل 409 شقق.

وحتى في قمة الأزمة المالية خلال شهر سبتمبر (أيلول) الماضي تم كسر الرقم القياسي في صفقات العقار بصفقة بيع شقة متعددة المستويات «بنتهاوس» في الحي المالي بمبلغ 7.8 مليون دولار في مشروع سيتاي الماليزي.

وتعتمد تحولات المستقبل على مدى استقرار الأوضاع في بورصات وول ستريت، فما زال العقار في المنطقة مرتبطا ارتباطا وثيقا بأسواق الاستثمار. ويلجأ كثيرون من العاملين في الحي المالي إلى استئجار شقق قريبة من مكاتبهم حيث فترات العمل تمتد بهم أحيانا إلى ساعات متأخرة. وتبلغ نسبة 90 في المائة من المبيعات التي جرى إتمامها في المشاريع الجديدة بغرض استثماري للتأجير.

وعلى الرغم من تحسن قيمة الدولار أمام العملات الأخرى في الشهور الأخيرة، إلا أن هناك كثيرا من الفرص المتاحة للمستثمرين الأجانب نظرا للعروض المغرية التي تقدمها شركات العقار بغرض التخلص من الوحدات غير المباعة. وتتاح هذه الفرص خلال النصف الأول من هذا العام الذي تتوقع الشركات أن تبيع خلاله كل مخزونها العقاري.

ويعزز هذا الرأي مدير الاستثمار الدولي في شركة نايت فرانك العقارية في لندن، مارك هارفي، الذي يقول إن الفرص المتاحة في بعض أحياء نيويورك الآن قد تقدم صفقات لا تعوض للمستثمرين. ويضيف أن الشركات حريصة على تحقيق المبيعات إلى درجة أنها تقدم أحيانا إلى المشتري الأجنبي أسعار صرف مفضلة، أعلى مما هو متاح في السوق. وهو يعترف بصعوبة وضع الشركات، الأمر الذي يدفعها إلى محاولة إنجاز الصفقات بأي ثمن في الفترة الحالية. فالصفقات كانت تجرى في الماضي بوتيرة عالية وتستغرق كل صفقة نحو أربعة أشهر لإتمامها، ولكن أوضاع السوق الصعبة جعلت الصفقات تستغرق في المتوسط نحو ثمانية أشهر؛ بسبب ندرة المشترين، وقد تزداد هذه الفترة في المستقبل.

ويعتقد هارفي أن المشتري، سواء كان أجنبيا أو أميركيا، لم يعد يبحث عن الفخامة، بل عن القيمة التي توفرها نوعية العقار وحالة الحي الذي يقع فيه والجوانب البيئية. وتتفوق مانهاتن في هذه الجوانب؛ حيث تحيط بها الأراضي الخضراء من كل اتجاه، كما تنتشر فيها المشروعات البيئية وطرق الدراجات. كما تطور نيويورك موقعا إلكترونيا لكل العقارات البيئية التي توفر أسلوب معيشة «أخضر» في أرجاء المدينة يمكن مطالعته على هذا العنوان (greenhomenyc.org). وهناك العديد من الأحياء التي توفر أسلوب الحياة البيئية الهادئة حتى في وسط نيويورك، منها حي «تريبيكا» وحي «باتري بارك»، وتجذب هذه الأحياء انتباه الأوروبيين نظرا لهدوئها الشديد بعد الخامسة عصرا. كما يفضلها نجوم هوليوود الذين يقطنون في المدينة. ولا توجد قوانين عقارية بيئية مقيدة في الولايات المتحدة، مثلما هو الحال في أوروبا، ولكن يوجد الكثير من المشروعات الطوعية التي ظهرت تلبية للطلب المتزايد على هذه النوعية العقارية، خصوصا من المستثمرين الأجانب. ولكن يعيب على بعض هذه المشروعات أثمانها الباهظة حتى أثناء الأزمة المالية. فهناك مثلا شقق صممتها المصممة الدنماركية فيبيكا لشتين تباع بأسعار تتراوح بين 1.5 مليون إلى سبعة ملايين دولار.

ومن أرخص المواقع في نيويورك حي «لووار ايست سايد» (الحي الجنوب شرقي)، وهو الحي الشعبي الذي يماثل حي شرق لندن، وهو ما زال رخيصا وملائما لسكن الطلبة والمشترين الجدد في السوق. وتوجد عدة مشاريع في المنطقة، منها مشروع كبير الحجم اسمه «مبنى افالون»، الذي يعد الأخير بهذا الحجم في المنطقة، حيث المشاريع العملاقة سواء في الحي الشرقي أو في مانهاتن، توقفت الآن بانتظار عودة الروح إلى الحي المالي ونهوض الاقتصاد الأميركي من عثرته.

في أنحاء أميركا الأخرى، تغيرت العوامل المشتركة التي كانت تجمع بين العقارات. فبدلا من الأسوار البيضاء والحديقة الخلفية الكبيرة والسيارة رباعية الدفع على المدخل، يجد المشاهد منازل غطت أبوابها ونوافذها لوائح الخشب التي تحجب الرؤية بعد هجرة أصحابها عنها ومصادرتها لعدم القدرة على سداد القروض العقارية. وعلى النقيض توجد عقارات جديدة تماما، لكنها ما زالت خاوية لأن الشركات التي بنتها انتهت منها بعد وصول الكساد ولم تجد لها مشترين.

وفي فلوريدا ينتشر هذان النوعان من العقارات الخاوية. والجديد منها يتم تسويقه بكثافة للأجانب. وتقع العقارات الجديدة في مجمعات سياحية يبدو بعضها خاويا كمدن الأشباح. وهي تتشابه في التجهيزات من مطابخ فاخرة إلى أرضيات من خشب الباركيه، تحيط بها ملاعب الغولف والتنس، وتقع قريبة من شاطئ البحر. وبعض هذه المجمعات تملكها البنوك وتريد التخلص منها في أسرع فرصة ممكنة، حتى توفر من تكاليف صيانتها وحراستها وهي خاوية.

وتلجأ بعض الشركات إلى وسائل تسويق مبتكرة، كما تتعاون مع شركات تسويق أجنبية أيضا. من هذه الأفكار ما تقوم به شركة بريطانية اسمها سترلنغ، بالتعاون مع شركة أميركية لعقد مزاد عقاري على الإنترنت لعقارات شاغرة في فلوريدا. وتدعو الشركة المهتمين بالمزاد لزيارة الموقع الإلكتروني أو إرسال مندوبين عنهم لزيارة العقارات، وتقول إن بعضهم يشاهد فقط صور هذه العقارات على شبكة الإنترنت قبل اتخاذ قرار دخول المزاد. وتبدو بعض هذه المواقع مغرية للغاية، حيث يقع أحدها داخل منتجع سياحي متكامل بالقرب من مدينة اورلاندو، وتضم كل وحدة عقارية فيلا بخمسة غرف وحمام سباحة وحديقة بسعر تقريبي لا يزيد عن 550 ألف دولار. ومن المواصفات الموجودة على شبكة الإنترنت، يضم العقار أيضا أربعة حمامات وجراجا وموقعا منفصلا للخدم، ويقع على مساحة 2700 قدم مربع. وتم استكمال العقار ضمن مشروع المنتجع في العام الماضي، وكان سعره عندما دخل السوق للمرة الأولى 1.5 مليون دولار. ولكن العقارات في فلوريدا فقدت ربع قيمتها في الشهور الأخيرة، وقد تهبط بنسبة أخرى قبل أن تستقر وتعاود صعودها مرة أخرى. ويعتقد عقاريون في أميركا أن موجة تراجع العقار الأميركي ما زالت في منتصفها وأنها سوف تتراجع بنسبة مماثلة خلال الشهور وربما الأعوام المقبلة، حتى تتناسب مع الأجور المحلية.

ويساهم في تراجع أسعار العقار الأميركي، خصوصا في فلوريدا، أزمة التمويل التي تتزامن مع أزمة أسعار العقار، كما أن موجة الكساد التي تعم أوروبا، وخاصة بريطانيا، أثرت أيضا على الاستثمار العقاري الأجنبي في أميركا.

من المخاطر الأخرى التي يجب إدخالها في الحسبان عند اتخاذ قرار الاستثمار العقاري في أميركا، الأعباء الضريبية الأميركية المترتبة على ملكية العقار الأميركي. فهناك ضريبة سنوية لولاية فلوريدا، كما أن تكاليف الصيانة واستخدام الملاعب والمسابح تفرض على كل مالكي العقار حتى الغائبين منهم.

من المواقع التي يمكن شراء العقارات الأميركية عليها أيضا، موقع «إي باي» للمزادات. وهناك العديد من القصص لمشترين أجانب اشتروا عقارات مصادرة في ولايات أميركية بأسعار رمزية تقل أحيانا عن خمسة دولارات. ولكن عليهم دفع الضرائب المتراكمة على هذه العقارات خلال فترة زمنية معينة وتنظيفها وإلا تعرضت للمصادرة مرة أخرى. وهناك كثير من العقارات المطروحة للبيع على «إي باي» من دون أن يكون لها حد سعري أدنى، ويفوز بها المزايد الذي يتفوق على غيره ولو بدولار واحد.

ومن المسائل التي يجب أن تؤخذ في الحسبان أيضا، عند النظر إلى العقار الأميركي، مسألة تحويل العملة. فعلى الرغم من الارتفاع النسبي للدولار في الشهور الأخيرة إلا أنه مرشح للاستقرار وربما التراجع قليلا. ولا يتأثر المشتري العربي كثيرا بمعدلات سعر الدولار لأن معظم العملات العربية مرتبطة بالدولار صعودا وهبوطا لأنه عملة تسعير النفط. والمشتري بتحويل من اليورو أو الإسترليني هو الذي يقبل على مخاطر عملة قد تكون غير محسوبة. ومن آثار تحولات سوق العملة أيضا أن العملات الخليجية ارتفعت إزاء اليورو والإسترليني بعد ارتفاع الدولار.

وتقول شركات التعامل المالي إن من الأفضل التحدث إلى خبراء قبل الإقبال على تحويل مبالغ كبيرة من عملة إلى أخرى. فالشركات تستطيع أن تتوقع تحولات الأسواق في المستقبل المنظور، وبالتالي تنصح المستثمر بالتوقيت المثالي لتحويل العملة.

ومن نصائح الخبراء التي يمكن الاستفادة منها ما يسمى «سعر التحويل المستهدف» (Target Rate) فالمشتري للدولار يضع السعر الذي يريد التحويل به، ويتركه مع الشركة التي تتابع السوق وتنفذ الأمر لدى بلوغ السوق الحد الذي يطلبه المشتري. كما يمكن أيضا شراء أسعار صرف ثابتة ومستمرة لمدة عامين بدفع رسوم رمزية. ويمكن عبر هذه الأسعار الثابتة دفع الأقساط العقارية المستحقة شهريا خلال الفترة المتفق عليها.

ويمكن أيضا لشركات تحويل العملة المتخصصة أن تجد للمشتري أسعار صرف أعلى مما تقدمه له البنوك، وبعض هذه الشركات، مثل «موني كورب»، تقدم خدماتها بلا عمولة، معتمدة على نسب أرباح من هوامش التحويل. وتدخل العملات المحلية في حسبان مستثمري العقار، لاختيار الجهات التي توفر الهوامش الأفضل. وتمثل دول مثل المغرب وتركيا وكرواتيا قيمة أفضل للمستثمر الدولي من الأسواق الأوروبية التي تتعامل باليورو. وفي النهاية؛ فإن كافة الصفقات العقارية مطروحة للتفاوض خصوصا في حالات تحرك أسعار الصرف ضد المشتري.

فهل حان الوقت للاستثمار في الأسواق الدولية وأولها السوق الأميركي؟ الإجابة تعتمد على أهداف الاستثمار ونوعية ومواقع العقارات وتحولات الأسواق المالية. ولكل حالة ظروفها، ولكن بوجه عام، لا يجب أن يتأثر الاستثمار بعيد المدى بالتحولات الآنية في الأسواق.