الاستثمارات العربية مهددة بفقدان مليارات الدولارات.. وبعضها ينتهز الفرص

قطاع العقار التجاري الدولي في تدهور

قطاع العقارات التجارية يعاني من متاعب جمة هذا العام
TT

فيما تتركز الأنظار على قطاع العقار السكني الذي يهم قطاعات المستثمرين من الأفراد، فإن التدهور الذي أصاب قطاعات العقار التجاري الدولية، وهي العقارات المخصصة للمكاتب والشركات والمنافذ التجارية، يفوق بكثير ما أصاب القطاعات السكنية. وفي العام الأخير تحول النمو في هذا القطاع إلى خسائر. في النصف الثاني من العام كانت في بعض المناطق الأسوأ في تاريخها. ويهدد العام الجاري بأن يضيف المزيد إلى أرقام الخسائر القياسية. ويمثل التدهور الحالي خطورة ملحة على الاستثمارات العربية المجمدة في العقارات التجارية الدولية، وهي في الغالب تخص الصناديق السيادية وكبار المستثمرين. ولعل السؤال الذي يتبادر إلى ذهن مديري هذه الاستثمارات هو: هل من الأفضل البيع بالخسارة الآن والخروج من السوق مرحليا قبل تحمل المزيد من الخسائر، أم ركوب موجة الخسائر إلى مداها والاحتفاظ بالعقارات للمدى البعيد؟ والأرجح أن معظم الاستثمارات العربية سوف تبقى مع عقاراتها التجارية إلى نهاية الأزمة حتى ولو كان الثمن فقدان المليارات من الدولارات. وفي بعض الأحيان قد لا يكون هذا هو الخيار الأفضل! ولشرح أبعاد الأزمة يتعين معرفة أنها تنقسم إلى قسمين: الأول فقدان العقارات التجارية لنسبة كبيرة من قيمتها المجردة بفعل الأزمة العالمية التي دمرت قيم الشركات والعقارات عبر الحدود. أما الشق الثاني فيتعلق بتراجع القيم الإيجارية وتقلص الطلب على هذه العقارات، بحيث إن نسبة كبيرة منها تظل شاغرة بلا إيجارات لفترات طويلة، باهظة الكلفة. وهناك أيضا مشكلة عدم دفع المستأجرين المتعثرين، ومعظمهم يمثلون شركات صغيرة، لإيجاراتهم، وفقدان الأمل في تحصيل بعض هذه الإيجارات المتأخرة لأن الشركات الصغيرة تقع حاليا ضحية للإفلاس بالجملة، وتتساقط كأوراق الشجر في الخريف.

وهذا الوضع ينعكس بدوره على نسبة كبيرة من مالكي العقارات التجارية الذين يعانون من تراجع الدخل وعدم القدرة على سداد التزاماتهم المالية للبنوك. وبعضهم يجد نفسه متعثرا في السداد وغير قادر على تمديد شروط القروض أو زيادتها. كما ان البعض يجد صعوبة في بيع الأصول في أسواق تعاني من ندرة رأس المال.

وتقع بريطانيا على قمة الصعوبات في هذا القطاع، بفقدان هذا القطاع فيها لنسبة الثلث من قيمته حتى الآن وترشيحه لفقدان نصف القيمة بالمقارنة بأسعار العقار في ذروتها قبل 18 شهرا. ولكن من ناحية أخرى تبدو بريطانيا مرشحة لأن تكون أول الدول الخارجة من الكساد. وفي الأسواق الأخرى لا تبدو الأمور بسوء الأحوال البريطانية الآن، ولكن لا احد فيها يغامر بتحديد قاع السوق التي يتعين فيها القيام بعمليات الشراء، لأن المستثمرين ببساطة لا يملكون رؤوس الأموال التي تتيح لهم عمليات شراء على نطاق واسع.

وتقول مصادر هذا القطاع من السوق إن هناك فرصا جيدة للشراء لمن لغير الموجود في السوق أصلا، ولمن يمتلك رأس المال اللازم الذي يتيح له استغلال الفرص خصوصا في الشركات المضطرة إلى البيع قسرا لتسديد ديونها. وتتوقع مصادر السوق أيضا أن يبدأ النشاط في النصف الثاني من العام الجاري وفي الأصول الجيدة التي تتيح لها الشركات البائعة بعض التسهيلات الائتمانية أيضا.

وفي أوروبا، كان العام الماضي هو الأسوأ قياسيا ويبدو العام الجاري على مسار أسوأ. ويتوقع المعهد الملكي البريطاني للمعماريين ان يكون السوق حاليا في مرحلة المنتصف لكساد سوف ينزع نصف قيمة العقارات التجارية قياسا بذروتها في صيف عام 2007. ويتوقع المعهد ان تصل الأسواق الى القاع في نهاية عام 2010 لكي تنهي بذلك أسوأ كساد في تاريخها.

وتاريخيا كانت السوق البريطانية تسبق دوما الأسواق الأوروبية، ومن المتوقع ان يسود هذا النموذج ايضا خلال هذا الكساد. وهذا يعني ان الأسواق الأوروبية في طريقها الى التدهور ايضا. ويقول اليكس جيفري المحلل المالي في المعهد ان السوق يعاني الآن من ثلاث مشاكل منفصلة هي أزمة البنوك وانفجار الفقاعة العقارية والأزمة الاقتصادية الدولية. واجتماع هذه العوامل متزامنة من شأنه ان يدمر القيم الاستثمارية حول العالم.

ويتوقع المعهد ان تفوق خسائر عوائد القطاع التجاري في بريطانيا ما سبق وسجلته الأسواق في الأزمات السابقة عامي 1990 و1979. وسجل العام الماضي نسبة عوائد سلبية بلغ حجمها (-18.2) في المائة مقارنة بنسبة (-16) في المائة في عام 1990. وفي شهر ديسمبر (كانون الأول) الماضي، وهو أسوأ شهر حتى الآن، سجلت قيمة العقارات التجارية تراجعا بنسبة 5.3 في المائة كما تراجعت العوائد ايضا بنسبة مماثلة. وكانت القيمة العقارية قد تراجعت خلال عام 2008 بنسبة 27.1 في المائة، وخلال 18 شهرا بنسبة إجمالية بلغت 35 في المائة.

وتتكرر الصورة في أنحاء أوروبا وان كانت نسب الإحصاءات فيها نادرة، كما ان الصفقات قليلة بحيث يصعب تقدير حجم التراجع بدقة. وتقول شركة «ريال كابيتال» المالية البريطانية ان حجم المبيعات العقارية العالمية التي تحققت خلال الربع الأخير من العام الماضي كانت اقل من نصف حجم صفقات الربع الثالث من العام نفسه، ولا تزيد عن نسبة 16 في المائة من حجم الصفقات التي جرت في الربع الأخير من عام 2007. وتضيف الشركة ان الاستثمارات العقارية الأوروبية هبطت بنسبة 55 في المائة الى حوالي 110 مليارات يورو (142 مليار دولار) خلال عام 2008. ومن المتوقع ان تستمر الأسعار في الانخفاض هذا العام ايضا، وان كانت تقديرات الأسواق مختلفة على توقيت الوصول الى قاع السوق.

وتقول شركة لاسال الاستثمارية العقارية ان بعض القيمة أخذت تعود الى أسواق معدودة مثل بريطانيا وكوريا واستراليا، ولكن معظم المستثمرين مترددون في اتخاذ القرارات حاليا حتى تنقشع غمامة الكساد وتعرف الأسواق حدود الانهيار. ويعرف هؤلاء المستثمرون ان العقارات التجارية تتمتع الآن بأسعار واقعية أفضل مما كانت عليه في منتصف عام 2007، ولكنهم يخشون من سقوط العوائد حيث العقارات شاغرة والإيجارات متأخرة، أو مخفضة.

ويبقى الهم الأكبر لمالكي العقارات التجارية هذا العام هو توفير السيولة المالية قدر الإمكان حتى يمكن الحفاظ على الإنفاق على العقار التجاري من حيث الصيانة والتجديد وتمويل القروض عليه. وتقدر مصادر بريطانية ان يحتاج مالكو العقارات التجارية في بريطانيا نحو 2.5 مليار إسترليني (3.5 مليار دولار) من اجل الحفاظ على استثماراتهم من الإخلال بتعاقدات وضمانات القروض.

ومن المشاكل الأخرى التي يعاني منها مالكو العقار التجاري أن البنوك تستمر في تخفيض القيمة الدفترية لعقاراتهم، بعد ان كانت قد ساهمت في رفع أسعارها دفتريا أيضا في زمن الطفرة. ويتوقع المحلل المالي في الجمعية العقارية «نيشن وايد» ان تستمر موجة التخلف عن سداد الالتزامات المصرفية هذا العام بسبب تخلف المستأجرين في دفع الإيجارات.

هذا وكانت اكبر الصفقات البريطانية في العام الماضي بمبلغ 838 مليون إسترليني (1.2 مليار دولار) لبيع برج بنك «إتش إس بي سي» في لندن من شركة استثمار عقاري الى البنك نفسه بسبب صعوبات تمويل القرض على العقار الذي اشترته الشركة في ذروة السوق. وهناك كثير من الصفقات المماثلة في الأصول الممتازة التي يمكن تسجيلها ولكن لا احد يعلق الآن على وصول السوق الى قاع التراجع، فلا احد يعرف متى يصل هذا القاع.

وفي آسيا، تختلف الصورة قليلا فكثير من مالكي العقار التجاري يتمتعون بسيولة أعلى ولذلك لا توجد ضغوط كبيرة عليهم من اجل البيع. ولكن هذا لا يعني ان القيم العقارية لا تتراجع. ففي احدث الصفقات التي جرت في الشهر الماضي، تم بيع مركز تجاري في مدينة شنغهاي لشركة استثمار عقاري أوروبية اسمها مجموعة «بلاكستون» بمبلغ 146 مليون دولار، بدلا من السعر المتعاقد عليه سابقا وكان 160 مليون دولار. وكانت الصفقة مفاجأة للأسواق، ليس بسبب السعر وإنما لأنها استكملت. فكثير من الصفقات انهارت بسبب الفارق بين توقعات البائعين ورغبة المشترين.

ويبدو سوق العقار التجاري الصيني مجمدا في الوقت الحاضر بعد تحقيق اكبر صفقة له في شهر مايو (أيار) الماضي، وبيع فيها مجمع تجاري في شنغهاي لشركة «آسيا باسفيك لاند» بمبلغ 750 مليون دولار. وتؤكد مصادر السوق الآسيوي أن صناديق الاستثمار ترصد نحو عشرة مليارات دولار لشراء العقارات الآسيوية في الوقت المناسب. ولكن أصحاب هذه العقارات من الآسيويين ليسوا في عجلة من أمرهم للبيع لوجود سيولة كافية لديهم.

ويبدو الفارق الواضح بين الأسواق الآسيوية والأسواق الأوروبية والأميركية أن المستثمرين في آسيا لا يعتمدون على القروض بالنسبة نفسها المنتشرة في الأسواق الغربية. يبدو أن المستثمرين الآسيويين تعلموا من درس الأزمة المالية الآسيوية منذ 20 عاما وخفضوا ديونهم إلى الحد الأدنى.

ومع ندرة الصفقات التي تعقد حاليا يجد المستثمرون صعوبة كبيرة في تقدير قيمة الأصول العقارية الآسيوية. وفي الربع الأخير تراجعت معدلات الإشغال العقاري خصوصا في المراكز المالية الآسيوية. وانخفض معدل التأجير في مكاتب شنغهاي مثلا بنسبة 20 في المائة منذ الصيف الماضي. ويقول رئيس شركة «كروس اوشن» العقارية في شنغهاي، ألن وينغ، إن الحي المالي في المدينة يبدو ضعيفا في الحفاظ على قيمته حاليا، وان مشروعات العقار الجديدة، بما فيها المشروعات الإسكانية تتراكم لديها مخزونات مبيعات لفترة 19 شهرا ارتفاعا من مبيعات 12 شهرا في منتصف عام 2008. وهو يعتقد ان الأسواق لا بد وان تخفض أسعارها خصوصا أن بعض البائعين ومنهم صناديق استثمارية تبحث عن السيولة وتريد استغلال رأس المال المجمد عقاريا في مشروعات ومجالات أخرى.

ويتم تأجيل المشروعات الجديدة حاليا بسبب وضع الأسواق وندرة السيولة، وتنتظر الأسواق الخطوات التي يمكن ان تقبل عليها الحكومة الصينية من اجل تحفيز الأسواق. وكانت الحكومة الصينية قد وعدت منذ حوالي الشهرين أنها سوف تخفض الضرائب وتسهل الحصول على الائتمان وتلغي فترة الاحتفاظ بالعقار قبل الحصول على التسهيلات الضريبية. وتأتي هذه الخطوات المتوقعة بعد مجموعة من الحوافز التي توجهت بها الى الاقتصاد الصيني بوجه عام. والمشجع في السوق الصيني الآن ان تكاليف البناء والأيدي العاملة انخفضت بنسبة 40 في المائة في العام الأخير، مما يجعل تنفيذ المشروعات القائمة أسهل مما كان عليه.

أما السوق الأميركية فتتجه الى عام صعب بسبب جفاف الائتمان. وتعاني السوق حاليا من ارتفاع معدلات التخلف في دفع الإيجار والمساحات الشاغرة لفترات طويلة وتراجع القيمة العقارية بشكل عام. وتقول شركة أبحاث اسمها «ريس» Reis إن حجم المبيعات في السوق تراجع في العام الماضي بنسبة 68 في المائة، مع توقع استمرار الهبوط هذا العام بسبب ضعف الائتمان المتاح ونهاية سوق التوريق لأدوات الديون التي كانت تمثل رافدا مهما للتمويل في السوق.

وكان حجم سوق التوريق في عام 2007 حوالي 230 مليار دولار ثم تراجع الى 12.1 مليار دولار في العام الماضي، ولكنه انتهى تماما منذ نحو خمسة أشهر.

ويجد كثير من المستثمرين صعوبة في بيع الأصول العقارية لتمويل أصول أخرى. ويعتقد رئيس قطاع العقارات في بنك «جي بي مورغان»، ديف ايسرغ، ان حجم الديون المستحقة في عام 2009 يصل الى مئات المليارات من الدولارات التي لا يجد المقترضون حلولا عملية لها بعد انسداد شرايين التمويل المصرفي للقطاع العقاري. وهو يتوقع ان تزداد نسبة التخلف عن الدفع الى حوالي 20 في المائة هذا العام مقارنة بنسبة واحد في المائة فقط في العام الماضي.

ولا يقل الوضع سوءا في اليابان التي يهجرها الآن معظم المستثمرين. فالبنوك تمتنع عن الإقراض في القطاع العقاري ولا يكاد يمر أسبوع من دون الإعلان عن سقوط شركة تطوير عقاري يابانية. وتعتقد مصادر السوق اليابانية ان يستمر التراجع لمدة عامين، يعاني خلالهما الاقتصاد الياباني من الانكماش العالمي. ومع ذلك فهناك كثير من الفرص خصوصا للمستثمر الأجنبي الذي يتمتع بالسيولة، وهو أمر واقع يعم ايضا على جميع الأسواق الأخرى ويتيح فرصا جيدة للمستثمر العربي الذي يحسن الاختيار.