المشربيات في لبنان جزء منسي من العمارة الإسلامية في كل الحواضر

تعددت أشكالها وألوانها وكانت لها وظيفة رمزية

شباك مشبك بالخشب ويلعب دور المشربية («الشرق الأوسط»)
TT

تعتبر المشربية واحدة من ثلاثة عناصر تتميز بها العمارة الإسلامية في أي بلد، إضافة إلى المقرنصات التي يعتبرها المستشرق الألماني ارنست كونل «من المعجزات المعمارية التي تنفرد بها العمارة الإسلامية»، والفقرات الحجرية الملونة المزررة التي شبهها المهندس المعماري الدكتور فريد شافعي بـ«ألغاز صعبة الحل».

وفي دراسة له عن المشربية في لبنان بشكل عام ومدينة طرابلس (شمال لبنان) بشكل خاص، وصفها الدكتور عبد الرحيم غالب (دكتوراه في الفنون الإسلامية، وأستاذ جامعي في لبنان وفنان تشكيلي وباحث في التراث) بأنها «نوع من أنواع الفتحات الجدارية، تنفرد بها العمارة الإسلامية. وقد عرفتها كل الحواضر، من المغرب حتى فارس والهند، بشكل أو بآخر، ولم تحمل دائما الاسم نفسه. ولكنها شاركت جميعا بالوظائف ذاتها. فهي المشربية وحجاب الخرط في مصر والرَّوْشن والرَّوزن في السعودية. وتنوعت موادها، من الخشب المختلف الأشكال والأنواع والأحجام، إلى المرمر المخرَّم وكأنه مطرز بخيوط الحرير لا بكتل الحجر، أو منقوش بالإبر ونور العيون، لا بالمطارق والأزاميل.

وهي نافذة، ككل النوافذ التي تزود بها كل الأبنية. ولكنها نوافذ مميزة لها خصوصيتها. نوافذ جميلة طريفة، تعكس رؤية الإسلام المعمارية الإنسانية التي توفق بين الحاجة البنائية البيئية البحتة وكرامة العائلة المسلمة وحرمة البيت وخصوصية ساكنيه الذين يسبّحون الستّار. فالبناء هو بالنتيجة للإنسان، إن الدين الإسلامي منهج، وحياة الإنسان المسلم توجهها ضوابط دينية واضحة طاولت المأكل والمشرب والمسكن وكل ما يرتبط بسلوكه العام والخاص. ورغم جمالية المشربية المعمارية، لم تجد لها مكانا في العمارة الغربية. وغيابها يعود إلى فقدان الحاجة الوظيفية وإلى اختلاف تركيبة النسيج الاجتماعي. لقد عرفت أوروبا النوافذ ذات الزجاج الملون، في أماكن محدودة ولغايات تختلف عن غايات العمارة الإسلامية. وإن صح استعمال الزجاج الملون لتصفية النور ولتخفيف حدة الضوء في بلاد الشمس المشرقة، فاستعماله في بلاد الضباب، تنقصه الوظيفة ويبدو تقليدا سخيفا، كمن يضع الشيء غير المناسب في المكان غير المناسب». ويرى أن «المشربيات في لبنان تختلف عن مثيلاتها القاهريات، وهي أكثر تواضعا وأصغر حجما وتتخذ عدة أشكال، ويغيب عن صناعتها كلها خشب الخرط وتسمى الخراجة». واعتبر أن «النوافذ في لبنان، بشكل عام، وفي طرابلس، بشكل خاص عدة أنواع: الخرَّاجة والشعرية أو القمرية والشمسية والشباك والطاقة... وأكثر النوافذ في العمارة التقليدية المحلية مستطيلة عموديا، غير بارزة، ولا تُسمى المشربيات، حتى لو اتسعت لوضع أوعية الشرب، وهي عادة مؤهلة لذلك، ورؤية الأباريق والجرار على هذه النوافذ كان مألوفا. وكانت هذه النوافذ تزود بمصراعين خشبيين أصمين ينفتحان إلى الخارج، وبآخرين زجاجيين ينفتحان إلى الداخل، يفصل بينهما عمق، يتجاوز الأربعين سنتيمترا أحيانا، وقد يتوسط هذه المساحة شباك نصفي من حديد أو خشب مع شعرية كاملة ثابتة أو نصفية متحركة، صعودا وهبوطا. ويظل عمق النافذة، في غالب الأحيان، يسمح باستقبال أوعية الماء الفخارية، بل وحتى جلوس الأولاد الصغار وأرجلهم تتدلى إلى الخارج متمسكين بأمان بقضبان الشباك. وإذا اصطلحنا على أن نطلق اسم النافذة على كل فتحة في جدار، عدا الأبواب، يمكن حصر أنواع النوافذ التقليدية في لبنان في نوعين اثنين: البارزة والمسطحة. ولن أتناولها كلها بالتفصيل بل البعض منها الذي لعب إلى حد ما دور المشربية».

فعلى صعيد النوافذ البارزة، أكد غالب أن هذه النوافذ تكون عادة في الطبقات العليا، ومنها الخراجة وهي، كما يدل اسمها، نافذة تبرز خارج جدار البيت، تشبه المشربية القاهرية، وبسبب عادة الجلوس على الأرض، لا يرتفع أسفلها أكثر من 30 أو40 سم. بينما ترتفع فتحات النوافذ في الأبنية الحديثة إلى المتر. أكثر خراجات مدينة طرابلس مقطعها يتجاوز قليلا نصف الدائرة. وهي شبه أسطوانية الشكل، مثقوبة في أسفلها لتسهيل وضع الأوعية الفخارية، وفي الوقت نفسه، لتسريب ما تنضح به من ماء. وتبقى القطرات النادرة التي تقع على رؤوس المارة أقل أذى من تلك الشلالات التي تطلقها مكيفات الهواء. وفي أي حال، غالبا ما توضع الأواني على قواعد خاصة بها، تستقبل ما يرشح من ماء، وتجعلها أكثر ثباتا لأن أكثرها ضيق الأسفل.

قاعدة الخرّاجة وسقفها نصف دائريين، يشكّلان الهيكل الذي تلتف حوله، عموديّا، ألواح خشبية ضيّقة، تـُخَرّم كلُّها عن الجانبين بالشكل نفسه. وبتقابل التخريمات تتشكّل فراغات جميلة ووظيفيّة، قياساتها الإجماليّة أقل بكثير من المساحات المغلقة. وتزوّد هذه الخرّاجة من الداخل بمصاريع خشبيّة صمّاء، أو زجاجيّة، تـُغلق أيّام البرد. وتجدر الإشارة إلى أنّ الخشب المخروط، المستعمل في مشربيّات القاهرة، لم يدخل في صناعتها بل استعمل كقضبان غليظة متشابكة، في الشـّبابيك المسطحة، وفي صناعة بعض المفروشات مثل المقاعد والطّاولات وأطر الصّور والمرايا... الخ. قد تغطّي الخرّاجة كلّ النـَّافذة، أو نصفها الأسفل، وفي هذه الحال، يُزوّد القسم العلوي بمصراعين أو بستارة مشبّكة تسمّى بالشَّعْرِيَّة. أي أن النافذة تكون بارزة، شبه مغلقة، في جزئها السُّفـْليّ ومسطحة في جزئها العلويّ. وفي ما خص الخـَرَّاجة - الغرفة، يقول غالب إن أرض غرف الطبقات العليا، في بعض الأبنية التـُّراثيَّة تمتد وتبرز خارج جدار البناء. وهكذا تتسع المساحة الداخلية فوق الطريق. وبتكرار هذه العمليّة في أكثر البيوت، يُظـلـل الشارع، وتتكسر التيّارات الهوائيّة. هذه المساحة المكتسبة قد ترتكز على زوافر خشبيّة أو حجريّة. السَّقف والأرض والجدران من خشب، وقد تـُغلَّف من الخارج بألواح معدنيَّة رقيقة، وتزود بنوافذ مختلفة. ولا تخلو هذه الزيادة من الزخارف المنحوتة أو المحفورة، وقد يصل ذلك إلى دعائمها الغليظة. وغالبا ما يدهن الخشب والمعدن إذا كان قابلا للصّدأ. وهناك الخـَرَّاجة الباطونيَّة الحديثة كما يدلّ اسمها. نوافذها من زجاج شفاف، أو مزيج من الشفـَّاف والملوّن مُـنـَـزَّل في مصاريع متحركة، وفي أُطر ثابتة، مُـضَـلـّعة ومُـنـَـجّـمَة ومُـقـَـوَّسة، دقيقة الصـّـنع جميلة المنظر. هذه النوافذ تفصل بينها عُـمـُد رخاميّة أو حجرية أو أسمنتية أو خشبية ترتكز على جدران منخفضة مبنية غالبا من المادة نفسها، مدهونة، أو مزخرفة من الخارج، حفرا أوصَـبّـا أو تلوينا. قد يكون أعلاها معقودا، وهو في كل الأحوال، مزخرف، كأسفلها، من الخارج. هذه الزخارف تـُـصمم بشكل منسجم مع أطر الزجاج، حرصا على تناغم الأشكال والألوان. سقفها يصنع عادة من المواد التي بنيت بها الجدران وقد يزخرف من الداخل. ولعلّ هذا الشكل من الخرّاجات هو الوحيد في لبنان الذي يـُسـتعمل فيه الزجاج الملون. وقد يُطلق على هذا القسم البارز من البناء: الواجهة، وهي امتداد داخليّ لقاعة الاستقبال. الخرّاجة الباطونية غير مُـزَوّدة، غالبا، بمصاريع خشبية، أي أنـّها مكشوفة، حديثة شكلا ومادّة ومعنى، تنتهك حرمة المنزل بالاتجاهين، من الخارج إلى الداخل ومن الدّاخل إلى الخارج. وهكذا رُفعت الستارة عن الحرمات، وسقط التسبيح باسم الستار وبدأ التساهل وسمح لمن يستطيع بالتـَّـفـَـرُّج على أدق خصوصيّات البيت. ومن النوافذ المشربية أيضا، يضيف الدكتور غالب، الذي يعتبر من النوافذ المنخفضة المزدوجة. لعل أصله يعود إلى نوافذ الإيوان أو قاعة الاستقبال في بيوت الأغنياء. يتكوّن المندلون عادة من نافذتين معقودتين، تلتصق به من الدّاخل مصطبة تعلو عن أرض الغرفة، معَـدَّة للجلوس. وربما كان مكان جلوس، تخت الموسيقيين، أو العازف على آلة «الموندولينو» (Mondolino) ومن هنا جاء اسمها تحريفا لاسم تلك الآلة. الذي يدعم هذا القول، ارتباط صناعة الستائر المركبة من الخشب المخروط، أي ارتباط بعض أنواع المشربيات، بأماكن محددة في قاعات الاستقبال تسمّى: «مَقعدان»، أي مكان القعود، أو تسمى «أغاني» أو«مغاني» حيث كان يستتر المغنون والموسيقيون وراء المشربية، ذلك الحاجز الرقيق الأنيق. وهناك أيضا الشرفة التي تعتبر امتدادا محدودا مكشوفا لأرض الغرفة، وليس دائما باتـّساعها، كما هي الحال في الخرّاجات. وقد يكون للمنزل عدّة شرفات، وتبقى شرفة قاعة الاستقبال أوْسَعها، ينفتح عليها، عادة، باب معقود يتوسط نافذتين معقودتين. وترتفع العقود على أعمدة أو أنصاف أعمدة رخاميّة دقيقة بتيجان مزخرفة، ولا تخلو هذه الفتحات من زخارف جميلة مُنـَـزَّلة بالزجاج الشفاف والملون أحيانا. ونادرا ما تـُزَوّد هذه الواجهة بمصاريع خشبيّة. وتنوّعت الشرفات وتعددت وضاقت واتـَّسعت. وقد جرت العادة أن توضع عليها أنواع الزهور والنباتات التـَّزيينية التي كان أكثرها يلتف حول النـّافورة في صحن الدار القديم وحلـّت محله. فعليها يصطبح أهل الدار والزوّار ويسهرون ويأكلون ويشربون. ومن أبشع ما رأيت على شرفات إحدى الحواضر الإسلامية: المغاسل، فلا يتكبّد الآكلون في الهواء الطلق عناء الانتقال إلى الداخل، فيغسلون أيديهم بالماء والصابون ويغسلون أفواههم ويتمضمضون بكل راحة على مرأى من المارّة والجيران المنتشرين بدورهم، هم أيضا على شرفاتهم متفرّجون أو متمضمضون! وتبقى المغسلة مقبولة لا تكشف سترا إذا ما قيست بالغسيل. أما النَّوافذ غير البارزة، فيقول الأستاذ الجامعي إنها «حُكْما نوافذ الطبقات الأرضيَّة، كما أن الطبقات العليا لا تخلو منها. تـُزوّد غالبا بمصاريع حشبية صمـّاء تـُفتح على الخارج، وبمصاريع زجاجية تفتح على الداخل. وفي وقت لاحق أُلغيت المصاريع الصّمّاء وحلـت محلّها أُخرى بتفاريج. هذه التفاريج متحرّكة، تفتح مروحيّا من أسفل إلى أعلى من دون الحاجة إلى فتح كامل المصراع. ومن النوافذ البارزة الشـَّعْرِيَة التي «ليست هي بالنـّافذة، بل هي جزء منها. تـُصنع من قضبان خشبيّة دقيقة وطويلة، مقطعها نصف دائريّ، تتشابك بشكل مائل، وتأخذ الفتحات بين القضبان المتشابكة شكل معيّـنات صغيرة، فنحصل على ستارة مفرّغة كالتي تصنع من الخشب المخروط مع فارق شاسع بالجمال والتـّكاليف. دور الشعريّة كالمشربية البارزة: يحافظ مثلها على حجب الرّؤية من الخارج إلى الداخل والسماح بها عكس ذلك، وتـُصفـّي مثلها الضوء والهواء، تأخذ غالبا شكلا مربعا أو مستطيلا، أو حتى دائريا في القمريات، تغطي كامل النافذة أو الجزء الأسفل وتـُثبّت بين المصاريع الخارجيّة والدّاخليّة محصورة بسكتين عموديتين لرفعها والإطلالة من النافذة أو لمعالجة المصاريع الخارجية عند الفتح والإغلاق. كما أنها تحل محل الحاجز الحديدي. وإذا ما رُفعت يمكن تثبيتها بواسطة لسان صغير من خشب أو معدن. وربما استغني في بعض النوافذ عن المصاريع الخشبية واحتلت الشعرية كامل النـّافذة».

ويوضح أن الشمسية هي «ألواح حجرية أو رخامية أو جصيّة مخرمة بأشكال هندسية أو توريقية أو كتابية مفرغة أو مـُـنـَـزَّلة بالزجاج الملون، وهذه الأخيرة هي الجصية عادة. ولعل الواجهات البارزة للأبنية الأنيقة التي أشرنا إليها قلّدتها باستعمال الزجاج الملون «المعشق» بالخشب. وربما حق لنا تسمية هذا النوع من الفتحات، تجاوزا بالشمسيات. ولكنها مهما بلغت من الروعة والإتقان والجمال تبقى مقصرة عن شمسيات الهند وإيران والشام، وحتى عن تلك الشمسيات الطولونية الرائعة، أو ما شابهها، التي لم يدخل فيها الزجاج الملون، والمنفذة بالجص والحجر والمرمر وكأنها صناعة صاغة لا معماريين. ولا بد من الإشارة إلى مشربيات قصر بيت الدين البارزة البديعة التي جمعت بين المشربية والشمسية. ويحضرني هنا ما كتب ابن جبير (539-614 هـ. = 1144-1217م.) مندهشا عندما رأى انعكاس أشعة الشمس على جدران المسجد الأموي في دمشق تتسلل من خلال الزجاج الملون لشمسيّاته الرائعة، معترفا بعجز القلم عن وصف ذلك المشهد الساحر. قد لا تكون شمسيات طرابلس بروعة شمسيات دمشق، ولكنها تستحق منا ولو وقفة متأملة.

ومن الشمسية إلى القمريّة التي يصفها بأنها «كوة صغيرة في أعلى الجدار يدخل منها النور إلى البيت؛ ولعلها سميت بالقمرية قياسا على الشمسية لأن النور الذي يدخل منها خافت كنور القمر. ويبدو أن العمارة الإسلاميّة الأولى لم تـُزوّد بنوافذ خارجية، وأول النوافذ كانت مرتفعة كالقمريات».

وينتقل إلى الشُّبـّـاك الذي يقول إن المقصود به هنا كل النوافذ المزودة بحواجز مشبّكة من خشب أو معدن، بفتحات واسعة على شكل مربعات أو معينات لا تحجب الرّؤية بل تمنع الولوج، من خلالها، في الطبقات الأرضيّة، إلى الداخل، أو تؤمن السلامة في الطبقات العليا. لم تـُستعمل الشبابيك في الأبنية التقليدية الأولى بل زُوِّدت بها المساجد والقصور والأبنية العامّة. وإذا ما استعملت في الدور كان لا بد من وضع الشعريات خلفها. أما الجمالِيَّة جماليـَّة الخرَّاجة، أو المشربية، تكمن وراءها دراسة رياضيـَّـة مدهشة، تـُقيم حوارا بين المُكـَوِّنات، وتوزع الأدوار بتوازن يراعي حقوق السائل والمجيب، وتستدرجنا إلى رؤية الوشوشة بين النور والظل، وإلى الإصغاء لألوان الكتلة والفراغ.

وينهي الدراسة عن الخـَرَّاجَة نصف الأسطوانيَّة، فيصفها كالتالي: «الكتل مضاءة من الخارج، والفراغ المظلم، بين تخريماتها، لا يلبث أن يدغدغ العيون بضوئه المتسلل إلى الداخل. الكتل والفراغات يكمل بعضها بعضا، بالرغم من الخصوصية والتفرد والذَّاتية التي تميز كلا منها. ونحتار أيّ عنصر زخرفيّ نتأمَّل، ذلك المتشكل بالخشبات؟ أم ذلك المتشكل بينها، في الفراغ، من الهواء. لم يلجأ الفنان إلى زخارف تـُحفر أو تـُخرَّم أو حتـَّـى تـُـصوَّر وتكون لها الصـَّـدارة، على حساب الخلفيـَّـة. الإسلام دين العدل، حتى في الفن، إذ لا يجوز أن يُطلب من الحاكم والأب والمعلم والمزارع والصّانع والتـّاجر وغيرهم أن يكونوا عادلين، دون الفنـّان، العَدل وصل إلى هنا! الميزان يحكم كل ما تطاله العيون، ولكل عنصر دوره في تجويد آيات التوحيد. ويـَـحدث أن نـُـعـْـجـَـب بزخرفة فنتأملها ونحللها ونعيد تركيبها ونـُـفتتن بها، لنكتشف أن ما ظنناه الموضوع كان خلفيَّته وما حسبناه نهاية لم يكن سوى الخطوة الأولى نحو اللانهاية. الفن الإسلامي، والخرَّاجة إحدى تـَـجـَـلِـيـَـاته، يـُـرَى بالبصيرة لا بالبصر. وروح هذا السر أدركه قلبُ وعقل وعاطفة وثقافة الفنان الهولندي أم. سي. أشر، 1898 – 1998، بـِـكـَشـْـف غريب، خـُصَّ به، دون آخرين، على ما يبدو، عندما وقف، لأول مرة، مجذوبا ببلاطات قصر الحمراء، مأخوذا بتداخل أشكال لا بداية لها ولا نهاية. ومن يومها غابت الفراغات من لوحاته وبدأ الحوار بين الألوان والأشكال».

ويختم بالقول: «إلى جانب الجمالية التشكيلية للمشربية هناك معنى إنساني لا يقل أهمية وروعة، فالمشربية رمز لدفء البيت ولمحبة العائلة والالتفات إلى الدّاخل... والخوف على ليلى» مبديا تشاؤمه من إنقاذ المشربية لأنها ليست خشبا، هي حالة عيش، هي رؤية اجتماعية ودينية أخرجها المبدعون رائعة عندما كانت لها وظيفة، وعندما كانوا خير أمة أخرجت للناس. المشربية حُنـِّطت ولن تعود إلى إيقاعها الأول، إلاّ إذا عادت الأمّة... وعندها تنحلّ كل العقد... والله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم. لقد مسخنا روائعنا المعماريّة إلى كتل صماء تسحق القلوب والنفوس والبصر، واستبدلنا «كاسيت» صنعت في «تايوان» ببلال والشيخ محمد رفعت وجموع المهللين والمكبرين».