أوضاع متأرجحة في أسواق العقار الأوروبية

بنوك تتاجر بالممتلكات المصادرة.. وتراجع بعض الأسواق وصل إلى 40%

الأسواق الأوروبية مقبلة على مرحلة صعبة («الشرق الأوسط»)
TT

ما زالت الأزمة المالية العالمية تتفاعل في أسواق العقار الأوروبية بأنباء عن ركود قياسي في مبيعات العقارات الجديدة وتراجع في التمويل وتجمد في نشاط البناء. لكن الملاحظ في الأسابيع الأخيرة كان تزامن إعلان عدة بنوك في دول مختلفة عن توجهها إلى إنشاء عمليات متخصصة في بيع العقار، للتعامل مع تراكم العقارات المصادرة التي آلت إليها بعد عجز المقترضين عن تسديد ديونهم العقارية.

وتدخل نصف البنوك الإسبانية تقريبا في شراكة لتكوين مؤسسة تسويق عقاري لبيع العقارات المصادرة لديها التي يبلغ حجمها الإجمالي حوالي ثلاثة مليارات يورو. وتأمل المؤسسة الجديدة، واسمها «أسكي»، أن تكون أكبر شركة عقار في إسبانيا في غضون خمس سنوات. وهي تملك نحو 17 ألف عقار للتصرف فيها عبر البيع والتأجير، وتتيح لها البنوك المشاركة في المؤسسة كل فروعها لتسويق عقاراتها وتدبير قروض جديدة عليها.

وتتوقع شركات العقار الإسبانية أن تبيع المؤسسة الجديدة عقاراتها المصادرة بقيمة أقل من السوق بنحو 25 في المائة. وتشمل الأصول المصادرة كافة أنواع العقار من المساكن إلى الأراضي والعقارات الصناعية والمنافذ التجارية. كما تضم عددا كبيرا من الفنادق والمشاريع السياحية. وسوف تتيح هذه العملية فرصة للبنوك لإزاحة هذه العقارات من ميزانياتها، حتى لو تم التخلص منها بخسارة، الأمر الذي سوف ينتج عنه تسجيل هذه الخسائر دفتريا وتراجع رؤوس الأموال المعلنة من البنوك. وتنفي البنوك الإسبانية أن هذه المؤسسة الجديدة هي بمثابة «بنك رديء» لتجميع الأصول المشكوك في تحصيل قيمتها. وهي تؤكد أن العملية اقتصادية تماما وتهدف إلى التخصص في الأصول التي وجدت البنوك أنها أضحت مسؤولة عنها ولكن بلا خبرة لإدارتها وتصفيتها بصيغة منتظمة ومربحة.

وليست البنوك وحدها في السوق، فبعض شركات العقار الإسبانية تعرض تخفيضات على أسعار المشاريع الجديدة تصل إلى 40 في المائة، ويعرض بعضها الآخر عقارين بثمن عقار واحد. ومع ذلك لا تظهر بوادر تحسن في الأسواق، وتتجه كل المؤشرات إلى كساد طويل الأجل. والجانب الذي يقلق الحكومة الإسبانية هو ارتفاع معدل البطالة بعد تسريح شركات البناء لآلاف من عمالها. وزاد معدل البطالة في إسبانيا هذا العام بنسبة 40 في المائة عن معدل العام الماضي، ليصل إلى رقم ثلاثة ملايين عاطل، وهي أعلى نسبة في أوروبا. وتحاول الحكومة الإسبانية تجنب الكساد الاقتصادي الذي بدأ عقاريا، بخطة تحفيز مالي قيمتها 11 مليار يورو، ولكن تأثيرها سوف يكون ثانويا، حيث لن تخلق هذه الخطة أكثر من 300 ألف وظيفة بحد أقصى، كما أنها لن تحسن من أسعار العقار المنهارة.

وفي بريطانيا، قامت مؤسسة مالية اسمها «سي بي ريتشارد إيليس» بتغيير ذراعها الاستثماري في الأوراق المالية للتخصص في العقار من أجل إيجاد حلول لمشكلة تراكم العقارات ذات القروض الرديئة. وتعاقدت الشركة مع متخصصي عقار للتعامل مع كافة جوانب الموقف، من الاستشارة إلى خدمة الديون وبيع العقار. ويقول مدير عمليات الشركة في بريطانيا، مارتن سام، إن الهدف هو إنشاء بنك عقاري بدلا من البنك الاستثماري الذي كانت تعتمد عليه الشركة.

وتطالب الشركة عملاءها هذا العام بتسديد أقساط عقارية حجمها 2.6 مليار إسترليني ضمن حجم قروض متراكمة في القطاع التجاري في السوق يصل إلى 60 مليار إسترليني. وفي حالة تحول أي من هذه القروض إلى إفلاس، فإن الشركة العقارية المتخصصة تتولى إدارة الموقف.

وتأمل الشركة الجديدة أن تجد هذا المجال مربحا لتعويض خسائرها في سوق الاستثمار، وهي تأمل في التوسع كثيرا في هذا القطاع خلال العام المقبل. وتجد الشركة أن توظيف المتخصصين الذين تحتاج إليهم أصبح سهلا في الأشهر الأخيرة بعد عمليات التسريح بالجملة من البنوك والشركات المالية. ويشير بحث جامعي إلى حجم الديون المتراكمة على القطاع العقاري التجاري البريطاني، الذي يستثني المساكن، بنحو 207 مليارات إسترليني.

وفي فرنسا، ذكرت شركات عقار أن المشترين يحققون الآن، في المتوسط، تخفيضات تصل إلى 20 في المائة على أسعار العقارات المعروضة في الأسواق. وترسم الصورة العامة للعقار الفرنسي تراجعا عاما في الأسعار، ولكنه يختلف من منطقة لأخرى. وتقدر هيئة وكلاء بيع العقار الفرنسية انخفاضا إضافيا خلال هذا العام يصل في المتوسط إلى نحو 10 في المائة، مع نسب تراجع أخرى في عامي 2010 و2011. وقدمت هيئة وكالات العقار الفرنسية عدة سيناريوهات لتحركات أسواق العقار في المدى المنظور، الأرجح منها هو تباطؤ نسبة التراجع إلى خمسة في المائة في عام 2010، ثم إلى ثلاثة في المائة في عام 2011، متزامنة مع انخفاض في الفائدة على اليورو، ومع ارتفاع الطلب العقاري الفرنسي.

وتراجع أيضا القطاع التجاري البلغاري بنسبة تتراوح بين 20 و30 في المائة، وفقا لتقرير من شركة «فورتون إنترناشيونال» البلغارية للعقار. ويشير التقرير إلى أن معدلات الإيجار، التي كانت ترتفع حتى العام الماضي، أخذت أيضا في التراجع بسبب حالة الكساد الاقتصادي والتوقعات السلبية بين رجال الأعمال والشركات.

وتقول الشركة إن الجانب الإيجابي لهذه المعادلة هو أن إيجار المكاتب الآن أصبح في متناول الشركات الصغيرة، مما قد يزيد الطلب في السوق. ويضيف تقرير آخر من شركة ريتشارد ويليس أن توقعات بلغاريا قد تكون إيجابية في المدى البعيد، نظرا لموقعها الاستراتيجي للأعمال في وسط أوروبا وانخفاض متوسط الأسعار فيها عن بقية الدول المحيطة.

وتنفق الحكومة البلغارية على العديد من مشروعات البنية التحتية لتشجيع الاقتصاد، تتراوح بين إنشاء طرق ومحطات سكك حديدية إلى منشآت حكومية ومساكن شعبية. كما تجري عمليات الإنشاء في 190 مشروعا معماريا على الأقل لم تتوقف على الرغم من تراجع الأسعار.

ولم تكن كل تحولات أسواق العقار في أوروبا من النوع السلبي، حيث أشار أحدث تقرير سويسرى إلى ارتفاع أسعار العقار السويسرية بحوالي أربعة في المائة في عام 2008. وكانت الزيادة بسبب ندرة الإمدادات المحلية من ناحية، والإقبال الاستثماري من داخل سويسرا وخارجها من ناحية أخرى. وفي إيطاليا أيضا، لم تتأثر سوق العقار كثيرا بأزمة الائتمان الدولية لأنها سوق لا يتوجه فيها الإيطاليون كثيرا إلى ملكية العقار عن طريق الاقتراض المكثف.

وما زالت منطقة توسكاني في الطليعة من حيث الجذب العقاري الاستثماري، على الرغم من أنها الأعلى في الأسعار. ولكن العديد من المناطق الأخرى تنافسها بعقارات مماثلة في المساحة وجمال الطبيعة والمناخ وبأسعار أقل. وتؤكد شركات العقار الإيطالية أن الطلب الأجنبي على العقار الإيطالي لم يتراجع وأن الطلب الأجنبي هو المحرك الرئيسي للأسعار في إيطاليا حاليا. وتتوقع هذه الشركات استمرار ارتفاع الأسعار بنسب تزيد عن خمسة في المائة سنويا.

ويجعل هذا الوضع أسواق إيطاليا وسويسرا مثالية للاستثمار، لأنها تحتفظ بالقيمة، وبها العديد من المناطق المقومة بأقل من قيمتها، كما أنها تقدم كثيرا من المزايا، مثل أسلوب المعيشة والتاريخ وجمال الطبيعة.

ولكن النقاط الساخنة أصبحت نادرة وقليلة في أوروبا، هذا العام على الأقل، مع استمرار الضغوط وزيادتها في بعض الأسواق بسبب اختناق السوق عند المدخل للمشترين الجدد. وتشير أحدث إحصاءات السوق من مختلف الدول الأوروبية إلى استمرار تراجع عمليات الإقراض للمشترين الجدد الذين يدخلون السوق للمرة الأولى. وفي بريطانيا لم تتعد هذه العمليات 23 ألف قرض في يناير (كانون الثاني) الماضي، هبوطا من 32 ألف عملية في ديسمبر (كانون الأول) 2008، وحوالي 48 ألف عملية في شهر يناير (كانون الثاني) من عام 2008. وأضاف معهد مقرضي العقار البريطاني، الذي كشف عن هذه الإحصاءات، إلى أن مدخل السوق يواجه صعوبات متزايدة، مع تشدد البنوك في شروط الإقراض في مواجهة المناخ الاقتصادي السلبي السائد وتراجع أسعار العقار. وكان معدل مقدم السعر المطلوب من المشتري الجديد مقابل دخوله السوق يماثل نحو 24 في المائة من سعر العقار، وهو أعلى نسبة تاريخيا.

وتضيف الإحصاءات أن المشتري الجديد يقترض ما يعادل ثلاثة أمثال دخله السنوي، وينفق نسبة 16 في المائة من صافي دخله الشهري على القسط العقاري، وهي أقل نسبة منذ عام 2004 بسبب تراجع معدلات الفائدة. وتعاني السوق حاليا من انسحاب العديد من البنوك، ومنها بنوك أجنبية من خارج أوروبا، من قطاع التمويل العقاري، ووجود فجوة في السوق في طلب على التمويل العقاري لا يجد من يلبيه.

ويقول مايكل كوغان، مدير معهد مقرضي العقار البريطاني، إن طالبي القروض يريدون معرفة سبب امتناع البنوك عن الإقراض في الوقت الحاضر. والإجابة التي يقدمها هي أن البنوك غير ممتنعة، ولكن حجم الأموال المتاحة للإقراض، وفق معايير الإقراض الجديدة، لا تكفي الطلب بأي حال. وهو يأمل بزيادة مضطردة في السيولة على نهاية العام الجاري. وتصر البنوك حاليا على تعاقدات بأسعار فائدة ثابتة، تمثل الأغلبية بين القروض الجديدة الآن.

ومن أطرف الأبحاث التي نشرت في السوق مؤخرا، ذلك الذي نشره بنك «هاليفاكس» البريطاني في صيغة نصائح للمشترين الجدد من أجل دخول مجال شراء العقار للمرة الأولى. ووجد البنك أن معظم الشباب صرف النظر عن شراء العقار في الوقت الحاضر بسبب طلب البنوك نسبة مقدم تصل إلى ربع قيمة العقار، وهو الأمر الذي يعتقد الشباب أنه مستحيل في الوقت الحاضر. وتشمل النصائح الإقلاع عن العديد من النشاطات التي يعتبرها الشباب ضرورية، وتشمل تغيير السيارة بدراجة، وتغيير عادات الشراء وإلغاء الكثير من الكماليات. وتعتقد يولاند بارنز، رئيسة قسم الأبحاث العقارية السكنية في شركة «سافيل» اللندنية، أن أسوأ فترات انهيار أسعار العقار بلغت الآن حدودها. وهي تعتقد أن التراجع سوف يستمر لفترة أخرى ولكن بوتيرة أقل. وتساعد على هذا التحول مجريات السوق من تراجع أسعار العقار، بحيث ازدادت جاذبيته وقدرة شريحة أكبر من المستهلكين على الشراء، بالإضافة إلى تراجع أسعار الفائدة. ولكنها لا ترى بعد بصيصا من الأمل لأي زيادة في الأسعار في المدى المنظور، بل تعتقد أن أي أخبار سلبية حول الاقتصاد، خاصة فيما يتعلق بالوظائف، من شأنها أن تنعكس سلبا على أسعار العقار وتؤخر فترة الانتعاش. ولكن المؤشرات المتاحة يبدو بعضها إيجابيا من حيث الاهتمام المتزايد من المشترين الذين يريدون الشراء نقدا، وزيادة نشاط الشراء للعقارات الجيدة التي يتناقص مخزونها شهرا بعد شهر.