مدينة «مصدر» في أبوظبي نموذج متقدم لمدن المستقبل النظيفة

بتكلفة تقدر بـ 22 مليار دولار وتخرج للنور بحلول عام 2016

TT

من الغريب ألا يعرف كثيرون في الشرق الأوسط عن مشروع مدينة «مصدر» في أبوظبي. السبب قد يكون أن المدينة لم تخرج إلى النور بعد، ولكن خطط أنظف مدينة في العالم تنطلق على مسارها المخطط لها، غير متأثرة بالأزمة المالية. وقد بدأت بالفعل أعمال منشآت المرحلة الأولى منها. وعندما تكتمل بقية المراحل سوف تكون «مصدر» أول مدينة في العالم تستمد كل مصادر طاقتها من موارد متجددة ونظيفة كما أنها تعيد تدوير كافة مخلفاتها بحيث لا يكون لها انعكاسات ضارة على البيئة.

ويقول الرئيس التنفيذي لمبادرة «مصدر» الدكتور سلطان أحمد الجابر، في تقديم الفكرة على موقع الشركة الإلكتروني أن «مصدر» تسعى إلى «قيادة الجهود العالمية الرامية إلى ابتكار تقنيات لطاقة جديدة نظيفة ومنخفضة الانبعاثات الكربونية، وتوفير أساليب حياة مستدامة». ولتحقيق هذه الغاية، تعمل المبادرة في عدد من المجالات المختلفة، حيث تستثمر بصورة مباشرة في بعض هذه المجالات وتؤسس شراكات وشبكات علاقات واسعة في بعضها الآخر. وتتضمن المبادرة: الاستثمار الفعلي في تقنيات الطاقة المتجددة، ورعاية الكفاءات، وتعزيز الخبرات، وتبادل المعرفة في مجالات الطاقة المتجددة، وبناء منشآت محلية وإقليمية لإنتاج الطاقة الخضراء بما يحقق التوازن والتكامل مع إنتاج الوقود الكربوني، والحد من انبعاثات الكربون عبر المشاركة الفاعلة في أسواق الكربون، وتأسيس نموذج مدينة خضراء خالية تماما من النفايات والانبعاثات الكربونية، تقدم مثالا حيا على إمكانية وجدوى العيش في بيئات تقوم على الطاقة البديلة.

وقد يستغرب البعض أن تنشأ مثل هذه المدينة في أبوظبي، وهي إمارة لا تعاني من نقص الطاقة النفطية، كما أنها تعشق أيضا السيارات رباعية الدفع كبيرة الحجم التي تسرف في استهلاك الوقود. ولكنها في الوقت نفسه مدينة تريد أن تثبت للعالم أنها يمكن أن تكون أيضا مصدرا للطاقة المتجددة النظيفة وتقنياتها التي يمكنها أن تصدرها إلى العالم فيما بعد.

بدأ مشروع «مصدر» عام 2006 لكي تكون أول مدينة في العالم عديمة البث الكربوني ويعاد تدوير كل مخلفاتها، وبتكلفة تقدر بحوالي 22 مليار دولار. وهي مبادرة من حكومة أبوظبي ضمن برنامج تنويع مصادر الدخل بعيدا عن الاعتماد على النفط ومشتقاته نحو ما تأمل أن يكون مستقبلا مستداما أخضر اللون. وهو مشروع يختلف تماما عن العشرات من المشاريع الأخرى التي تنتشر في أنحاء منطقة الخليج.

فمدينة «مصدر» سوف تتسع لنحو 40 ألف نسمة، وتوفر وظائف لنحو 70 ألفا، وسيكون من انعكاساتها المساهمة بنسبة اثنين في المائة من الناتج الوطني الإجمالي في أبوظبي عندما تكتمل عام 2016. وسوف يتم توليد أكثر من ثلثي الطاقة في المدينة من مزارع شمسية تحتوي على ألواح تحول حرارة الشمس إلى كهرباء. وتنتشر هذه الألواح أيضا على سطوح المنازل، كما يتم تنظيف وإعادة استخدام كل مصادر المياه المتوافرة للمدينة. وتتم المحافظة على المياه عبر أنابيب بها أدوات استشعار تحذر من أي ثقوب فيها أو مصدر رشح منها. أما المساحات الخضراء حول المدينة فسوف تزرع بنباتات مدارية لا تحتاج إلى الري المكثف بالمياه، ويتم ريها بمياه معاد استخدامها.

وتستفيد المدينة أيضا من مصادر الرياح، كما تحيط بها أسوار عالية من كل الجوانب لحجز الرمال والحصى والعواصف الترابية، ويتم تحويل تيارات الرياح عبر مسارات خاصة لاستخدامها في تبريد المنازل والأسواق. وتلقت شركة «مصدر» 15 مليار دولار كميزانية من حكومة أبوظبي لبداية المشروع، ولكنها تأمل في استقطاب استثمارات إضافية من القطاع الخاص.

و«مصدر» هي أيضا منطقة حرة لا تفرض فيها ضرائب ولا جمارك، وتشجع قدوم الدارسين والأساتذة ومعاهد البحث العلمي وشركاته. ويسمح فيها بالملكية الأجنبية الكاملة للشركات مع حرية كاملة في تحويل العوائد ورأس المال، وحماية كاملة لحقوق الملكية العلمية. وبدأت المرحلة الأولى من المدينة بأساليب بناء لا تلوث البيئة وليس لها مخلفات لا يمكن تدويرها، عن طريق الاستفادة من طاقة الألواح الشمسية على سطوح المنشآت. وسيتم بناء المدينة على سبع مراحل متتالية، باستخدام أحدث التقنيات التي تم التوصل إليها في مجمع الصناعات النظيفة المتطورة الذي تضمه المدينة نفسها، وأيضا من بقية أنحاء العالم. وتعكس المباني الأولى التي يجري العمل على إنشائها حاليا قدرة «مصدر» العالية على الابتكار، حيث سيتم تزويد مقر «مصدر» الرئيسي بالطاقة اللازمة للأعمال الإنشائية باستخدام مجموعة من الألواح الكهروضوئية الموزعة على السطح الذي سيجري تشييده قبل بقية أجزاء المبنى، في سابقة هي الأولى على مستوى العالم.

وتحتل مدينة «مصدر» موقعا استراتيجيا، حيث تتوسط البنية التحتية لمواصلات مدينة أبوظبي، وسيتم ربطها بالمجمعات السكنية المحيطة بها ومع وسط مدينة أبوظبي ومطار أبوظبي الدولي، بشبكة من الطرق الحالية وسكة قطار ومسارات جديدة للمواصلات العامة. وستكون المدينة خالية من السيارات وتحتوي فقط على ممرات المشاة، التي لا يبعد الواحد منها أكثر من 200 متر عن أقرب محطة للمواصلات أو المرافق العامة. ومن شأن شبكة الطرق هذه أن تشجع سكان وزوار المدينة على المشي، وتثري الحياة الاجتماعية، علما أنه يوجد أيضا نظام سريع ومبتكر من وسائل النقل الشخصي السريع.

وستتضمن الخدمات العامة تزويد الطاقة، وتبريد مناطق، ومرافق المياه (مياه الشرب، والمياه المكررة، ومياه الأمطار)، والاتصالات، وإدارة النفايات. وستضم مشاريع دعم البنية التحتية في المدينة تخطيط وإنشاء الحدائق، والساحات العامة، ومناطق الترفيه، والممرات، والجسور، والأنفاق، وخدمات تقنية المعلومات والاتصالات، بالإضافة إلى إدارة تطوير المشاريع. وتسعى «مصدر» إلى استقطاب أفضل المفكرين والشركات من خلال الشراكة المتبادلة التي تعود بالفائدة على الطرفين. وتعكف «مصدر» حاليا على إطلاق حملة عالمية لجذب شركاء القطاع من أجل المساهمة في هذا الجهد التاريخي. وسيتم إنشاء المباني وفقا لمعايير «مصدر» للمباني الخضراء لتمكينها من تجسيد رؤيتها في أن تكون أول مدينة مستدامة بالكامل وخالية من انبعاثات الكربون. وسيكون قسم إدارة المدينة مسؤولا عن الإدارة الفاعلة والعمليات في المنطقة الحرة للمدينة، وسيتضمن اختصاصات مثل التخطيط والتمويل العمراني، وإدارة شؤون السكان، وإدارة شؤون المدينة، بالإضافة إلى توفير الخدمات الاجتماعية والتعليمية والأمنية.

وتبدو أهمية المشروع ليس فيما سوف يقدمه للإمارات فحسب، بل ما سوف يقدمه لدول المنطقة الأخرى، وبقية دول العالم. وشهد بذلك نائب رئيس البنك الدولي السابق كايو ـ كوش فيسر، الذي يعمل حاليا في البنك الألماني «دويتشه بنك» حيث قال إن المشروع شجاع للغاية وطموح جدا، خاصة أنه جاء من دولة منتجة للطاقة الهيدروكربونية، ومع ذلك فهي تنظر للطاقة النظيفة على أنها مكملة للنفط وليست منافسة له. وعبر فيسر عن إعجابه بأن مثل هذا المشروع جاء من دولة نامية وليس من دولة صناعية. وألمح إلى أنه في المستقبل قد يكون استيراد التكنولوجيا بمسار عكسي من دول الخليج إلى العالم. وأضاف أن المشروع رسالة قوية إلى المجتمع الدولي.

ولا يخفي أن للمشروع أيضا منتقديه حتى من بين هؤلاء الذين يعترفون بقيمته. فصحيفة «فاينانشيال تايمز» مثلا قالت في عرض للمشروع إن الإمارات تشتهر بالأبراج الزجاجية الشاهقة المسرفة في استهلاك الطاقة. وأضافت أن دولة الإمارات واحدة من أكثر الدول استهلاكا للطاقة وأن بصمتها الكربونية أكبر من أي دولة أخرى قياسا بعدد السكان. وعددت الصحيفة أسباب الإسراف ومنها: استخدام سيارات رباعية الدفع المسرفة في استخدام الوقود، الرخيص الذي لا يمنح السائقين أي حافز لتقليل الاستهلاك وشراء سيارات صغيرة، واستهلاك كميات كبيرة من المياه المحلاة التي تحتاج إلى طاقة مكثفة لإنتاجها، انتشار الحدائق الخضراء التي يتم ريها بالمياه المكررة، تقديم الدعم للكهرباء والماء، وأخيرا وليس آخرا استهلاك الكهرباء بغزارة لتشغيل أجهزة التكييف بصفة مستمرة، خاصة خلال أشهر الصيف شديدة الحرارة.

وتستشهد الصحيفة ببيانات من صندوق الحياة البرية الدولي وجمعية المناخ البريطانية وشبكة البصمة الكربونية الدولية التي تؤكد أن الإمارات تسبق الولايات المتحدة وتضعها في المركز الثاني في مجال استهلاك الطاقة، على الرغم من أنها وقعت على اتفاقية كيوتو عام 2005. وتضيف الصحيفة أنه على عدة أميال من موقع «مصدر» تخطط الشركة الأم، «مبادلة»، لبناء مضمار لسباق «فورمولا ـ 1» للسيارات ومنتجع مصمم حول فكرة سيارات فيراري.

والاستنتاج الذي تريد الصحيفة أن تخرج به هو أن «مصدر» هي لذر الرماد في العيون ولمجرد تحسين الصورة. ولكنها على الأقل اعترفت بأن جهود الإمارات تجري حاليا لتخفيض استهلاك الطاقة. كما أكد سلطان الجابر أن أبوظبي وضعت لها هدف تخفيض استهلاك الطاقة بنسبة سبعة في المائة بحلول عام 2020. كما أضاف أن هناك خططا تحت الدراسة لترشيد استخدام الطاقة عبر تعديل أسعارها.

من المهم أيضا معرفة أن أبوظبي تشارك في العديد من مشروعات الطاقة النظيفة خارج حدودها مثل مشروع لمزارع طواحين في بريطانيا وآخر لاستخدام الطاقة النظيفة في نيجيريا.

وتشارك العديد من الهيئات العلمية في العالم في مشروع «مصدر» مثل معهد ماساشوستس للتكنولوجيا الذي يشارك بمعهد أبحاث في المدينة سوف يستوعب الدفعة الأولى من مائة طالب للمرة الأولى في شهر سبتمبر (أيلول) المقبل. وسيعمل المعهد باسم «معهد مصدر للعلوم والتكنولوجيا» على مستوى الدراسات العليا في مجالات الطاقة المستدامة. وقد جذب المعهد إليه طلابا وأساتذة من معهد مساشوستس وجامعات برنستون وكورنيل المتخصصة.

وتأمل «مصدر» أن يكون المعهد نقطة جذب لنحو 1500 شركة من كافة المجالات تعمل جميعها في مجالات الطاقة النظيفة والمتجددة وتمويلها وتصنيع مكوناتها. وتساهم العديد من الشركات العالمية في صندوق «مصدر» للطاقة المتجددة، منها بنك «كريديه سويس» المساهم بمائة مليون دولار، وشركة «بي بي» البريطانية للنفط وشركة «ريو تنتو» وتساهمان في مشاريع طاقة في المدينة.

وتساهم «مصدر» في العديد من مشاريع الطاقة النظيفة عالميا أيضا منها مشروع في لندن لطاقة الرياح بالقرب من مصب نهر التيمز وبالتعاون مع شركة طاقة ألمانية. ولكن الجانب الأكثر تأثيرا للشركة هو أنها تعمل بمثابة بوتقة لتجميع الخبرات من كل أنحاء العالم، وأيضا مركزا لتصدير خبراتها إلى الدول العربية التي تشترك جميعا في ثرائها بالطاقة الشمسية النظيفة التي تنتظر استخدامها في مشروعات مدن للمستقبل.