أزمة الائتمان تخمد لهيب أسعار العقار في البرازيل

بعد «اشتعالها» بفعل الإصلاحات الاقتصادية

جانب من مدينة ريو دي جانيرو البرازيلية ( ا.ب. أ)
TT

لأنها أكبر دول أميركا الجنوبية وأصغر قليلا من الولايات المتحدة من حيث المساحة، تُعتبر البرازيل من البلدان والأسواق العقارية الأميركية الهامة، حيث تقدم فرصا مختلفة ومتنوعة للمستثمرين من جميع أنحاء العالم في ظل الاهتمام الدولي بحوض الأمازون وغاباتها المشهورة. إذ يمكن لهؤلاء المستثمرين الأجانب الخيار بين المزارع والأراضي الزراعية من الجنوب إلى الشمال والحياة العصرية في مدينة ساو باولو وشواطئ ريو دي جانيرو الرملية الساحرة.

ورغم التفاوت الاقتصادي بين شتى الطبقات والتفاوت بين المداخيل، فإن التقارير الدولية تؤكد أن المستقبل الاقتصادي إيجابي ويتجه نحو التحسن، وخصوصا بعد الجهود الحكومية الهائلة خلال السنوات القليلة الماضية، التي شجعت الحكومة على فتح الباب أمام المستثمرين الأجانب والعمل على استقطابهم وتسهيل نشاطهم كما هو الحال في الكثير من الأسواق العقارية الناشئة والجديدة على الساحة. وتحاول الحكومة منذ سنوات استقطاب المستثمرين لتطوير المناطق الساحلية في شمال شرق البلاد، وبالتالي التنافس مع المناطق السياحية والعقارية الهامة في الأميركتين الوسطى واللاتينية، وخصوصا المكسيك المحاذية للولايات المتحدة الأميركية. وركزت الحكومة على ولاية ريوغراندي دو نورتي والمناطق المحيطة بمدينة ناتال التي تُعتبر من المناطق العقارية الساخنة في البلاد لأنها تتمتع بثروات طبيعية جمة.

وتم التركيز على هذه المناطق أكثر من غيرها لأن المدن الكبرى (خصوصا ريو دي جانيرو وساو باولو) معروفة دوليا وتجذب الملايين من السياح سنويا وبالتالي الكثير من المستثمرين العقاريين الدوليين الباحثين عن أسعار رخيصة للعقارات التقليدية القديمة. وكما هو الحال في معظم المدن الكبرى المعروفة أدى الطلب الأجنبي المتزايد على العقارات في شتى القطاعات إلى ارتفاع الأسعار.

ولأن الأسعار والتكاليف رخيصة نسبة إلى بقية البلدان المجاورة ودول العالم، ولأن العملات الأجنبية أقوى من الريال البرازيلي الذي عُوّم قبل عشر سنوات، فإن البرازيل من الدول الممتازة من الناحية الاستثمارية على المدى البعيد وتستقطب الكثير من المستثمرين البريطانيين والأميركيين وخصوصا الباحثين عن منازل العطل والمنازل الثانية والتقاعد أو الإقامة الطويلة الأمد. ومما يشجع المستثمرين أن في البرازيل نحو 15 في المائة من المياه العذبة في العالم، وهي من أكبر الدول المصدرة للأثينول في العالم والاقتصاد، وكان يمر بفترة نمو ملحوظة ومستقرة نسبيا، قبل أزمة الائتمان الدولية التي غيرت كل شيء منذ العام الماضي. التقارير الدولية الأخيرة تشير إلى أن الطفرة التي عرفتها البلاد خلال السنوات الماضية قد وصلت إلى طريق مسدود مع ضعف الطلب الداخلي والخارجي على العقار وتراجع أسعار السلع بشكل عام نتيجة ما يحصل عالميا وماليا، وقد انكمش الاقتصاد البرازيلي بنسبة لا تقل عن 3.6 في المائة عما كان عليه في الربع الأخير من العام الماضي (2008). ويتوقع أن ينكمش هذا العام بنسبة 0.5 في المائة وأن لا يتعدى النمو الاقتصادي نسبة 1%. وقد شهدت البرازيل حركة عقارية ممتازة من عام 2006 حتى عام 2008 تم خلالها بناء الكثير من المشاريع وبيع الكثير من العقارات وارتفاع النشاطات العقارية المخصصة للقطاع السياحي والفنادق والمنتجعات على خلفية الطلب العالي من الطبقات الوسطى والدنيا.

فكما هو معروف أدى الازدهار الاقتصادي منذ مجيء الرئيس لولا دا سيلفا إلى سدة السلطة عام 2002، أدى إلى خفض عدد العاطلين عن العمل وخلق ملايين من الفرص الجديدة. كما أدت التغييرات التي قام بها الرئيس على صعيد إصلاح النظام المالي في البلاد وسبل التعامل العقاري إلى رفع عدد المتعاملين في الأسواق وعدد الصفقات والمشاريع.

لكن منذ العام الماضي، تتواصل عمليات تأجيل المشاريع وتجميد بعضها نتيجة إحجام الكثير من الزبائن عن شراء العقارات الجديدة. ففي تقريرها الأخير، تقول مؤسسة «سايريلا» وهي أهم مؤسسات التطوير العقاري في البلاد، أشارت إلى تراجع بنسبة 75 في المائة في حجم المبيعات بين عامي 2007 وبداية العام الحالي. وتراجعت قيمة هذه المبيعات بين عامي 2007 و2009 من نحو مليار دولار أميركي إلى 250 مليون دولار. أما مؤسسة «غافيسا» الثانية من حيث الأهمية التطويرية في البلاد فقد تراجعت مبيعاتها بنسبة 8 في المائة منذ عام 2007 حتى العام الحالي، أي ما قيمته 268 مليون دولار. كما ألغت المؤسسة الكثير من المشاريع العام الماضي تصل قيمتها إلى 120 مليون دولار تقريبا.

وتقول مؤسسة «غلوبال بربرتي» في هذا الإطار، إن المستثمرين الدوليين يحافظون على تفاؤلهم بشأن الأسواق العقارية في البرازيل، رغم الأزمة الاقتصادية العالمية الحالية، إذ أن الطلب على العقار لا يزال عاليا نسبيا، كما يتطلع هؤلاء المستثمرون إلى مشاريع كثيرة تقوم بها الحكومة لبناء ما لا يقل عن مليون منزل لذوي الدخل المحدود والطبقات الدنيا. وتحاول الحكومة منذ عام 2002 سد الفجوة الحاصلة في الأسواق والنقص في عدد المنازل والعقارات على المستوى الوطني الذي يصل إلى نحو 7.5 مليون عقار أو وحدة سكنية. وكانت الحكومة البرازيلية أيضا قد رصدت لتنفيذ خطة ضخمة لدعم الإسكان والبنى التحتية خلال أربع سنوات ما قيمته 236 مليار دولار. فمن المعروف أن التفاوت الاجتماعي والعقاري في البرازيل هو الأكبر في دول أميركا اللاتينية، فنحو 85 في المائة من السكان في البرازيل والذين يبلغ عددهم 199 مليون نسمة، يعيشون في المدن، منهم 27 مليونا فقط في منطقة ساو باولو ونحو 15 مليونا في ولاية ريو دي جانيرو. وجزء كبير من هؤلاء الذين يعيشون في المدن يعيشون في مخيمات الصفيح والضواحي والتلال المحيطة بها أو ما يطلق عليه «الفافيلاس». ومع هذا فإن 75 في المائة من السكان يملكون منازلهم وعقاراتهم، 85 في المائة منهم يعيشون في عقارات صغيرة وغير صالحة للسكن المريح. وهناك ما نسبته 14 في المائة من عدد العقارات (42 مليون عقار) في قطاع الإيجار.

ورغم التطورات الاقتصادية الإيجابية خلال السنوات الماضية فإن الأسواق العقارية في البرازيل لا تزل طرية وغير حديثة وشفافة بالمعنى العلمي، إذ لا يزال من الصعب الحصول على أرقام وإحصاءات دقيقة بشأن الأسعار والصفقات وعدد المشاريع وأنواعها، كما هو الحال مع الكثير من الشركات الدولية التي لا تملك أرقاما فصلية أو شهرية كمرجع للأسواق.

إلا أن أرقام مؤسسة «سيريلا» وعائداتها المالية الفصلية تشير إلى أن معدل الأسعار متذبذب وأحيانا مسطح، انعكاسا لوضع أي سوق بدائي مع عدد كبير من العقارات الجديدة. ولأنه يُتوقع ارتفاع عدد العقارات والمشاريع الجديدة الهادفة إلى حل مشكلة الإسكان، فإن معظم المستثمرين الأجانب يشترون أسهما أو حصصا في شركات البناء والتطوير العقاري مثل «سيريلا» و«كالبين سيغال إس إيه» و«روشسي ريزيدانشال إس إيه» و«غافيسا» وغيره. ورغم أن التطورات الاقتصادية الدولية الأخيرة وأزمة الائتمان، أدت إلى إلجام الأسعار ونسب ارتفاعاتها، فإن عائدات المستثمرين في القطاع العقاري أفضل من عائدات قطاع أسواق المال والبورصات على أنواعها.

وتقول «غلوبال» إن النقص في عدد العقارات ذات النوعية الممتازة أو الفاخرة، يجعل من الاستثمار في قطاع العقار لغاية الإيجار عملية مربحة ومفيدة إذ تصل عائدات الإيجار في هذا القطاع في بعض أحياء المدن المعروفة والكبيرة وخصوصا ساو باولو، إلى نحو 9 في المائة. أم عائدات إيجار الشقق فتصل إلى 7.6 في المائة تقريبا حسب الإحصاءات الأخيرة لـ«غلوبال». أما في ريو دي جانيرو» فتتراوح عائدات الإيجار للشقق بين 5.7 و7.3 في المائة.

ولذا تسجل بعض المكاتب العقارية الدولية المعروفة في البرازيل نشاطا في عدد المستثمرين أو الأجانب الراغبين في تملك عقاراتهم الثانية في البلاد. ويقول أنطونيو مونتس من إحدى مؤسسات الإحصاء في إسبانيا بهذا الإطار إن 5 في المائة من معدل عدد السياح الذين يزورون البرازيل سنويا (7 ملايين سائح) يفكرون في امتلاك منزل ثان في البرازيل.

ومع هذا يبدو أن عدد المستثمرين الأجانب لا يشكل إلا نسبة قليلة من عدد المشترين والبائعين والنشطين في القطاعات العقارية المختلفة، أو بكلام آخر لا يزال النشاط المحلي مسيطرا على الوضع في الأسواق بشكل عام. وعلى الأرجح أن يكون ذلك عائدا إلى القيود المفروضة على الأجانب من ناحية التملك (مثل تحديد المناطق التي يمكن للأجانب التملك فيها وتحديد حجم العقار الذي يرغب الأجنبي بتملكه وضرورة الحصول على إذن حكومي قبل الشروع في أي حركة عقارية.

مهما يكن فإن الإصلاحات الاقتصادية التي شرعها الرئيس لولا ساعدت وأسهمت لاحقا في تطوير سوق القروض العقارية ونموها بشكل لم يسبق له مثيل مما ساعد الأسواق العقارية على التطور والنمو وتنشيط الحركة فيها وبالتالي ارتفاع الأسعار. وحسب الشروط الحكومية الأخيرة فإن ملكية العقار تبقى بيد المؤسسات المقرضة أو البنوك حتى يدفع المستقرض كامل القرض، مما يعطي هذه المؤسسات والبنوك بعض الأمان في حال ارتفع عدد العاجزين عن الوفاء بأقساطهم الشهرية. وقبل ذلك وقبل إصلاحات لولا الاقتصادية، كانت البنوك تتردد في توفير القروض العقارية لأن المحاكم والقضاء كانا أكثر تعاطفا مع المستقرض أو الزبون. كما أصبحت القروض العقارية أكثر شعبية من السابق، وارتفعت مددها من 10 سنوات أو 12 سنة إلى 30 سنة. وتراجعت معدلات الفائدة على القروض العقارية من 16 في المائة عام 2005 إلى 13 أو 14 في المائة العام الماضي. أما المؤسسات الحكومية المقرضة عقاريا فإنها تفرض معدل فائدة 12 في المائة على القروض التي تصل مددها إلى 30 سنة.

ومع هذا لا تزال قيمة القروض نسبة إلى حجم البلاد ووضعها الاقتصادي على الساحة الدولية قليلة، ولا تشكل أكثر من 2.2 في المائة من قيمة المنتج الوطني العام، كما تشير أرقام العام الماضي. ولم تتعدَّ هذه النسبة أكثر من 1.4 في المائة العام 2005. ويبدو من الأرقام أن حجم وقيمة القروض قد تضاعف منذ العام 2005 إلى العام الماضي (2008) من 13 مليار دولار تقريبا إلى 28 مليار دولار. وكانت التوقعات قبل أزمة الائتمان الدولية، تشير إلى ارتفاع قيمة هذه القروض العام المقبل بنسبة تصل إلى 2.8 في المائة من قيمة المنتج الوطني العام.

مهما يكن فإن الأرقام التي تنشرها المؤسسات التطويرية الكبرى تشير إلى أن عدد العقارات الجديدة المخصصة للطبقات المتوسطة كان أكبر بكثير من العقارات الفاخرة والنوعية قبل عام 2005، إلا أن الوضع قد تبدل وأصبحت نسبة العقارات الجديدة المخصصة للطبقات الميسورة والغنية تحاكي نسبة العقارات الجديدة الأخرى.