تحسين المواصفات البيئية للعقارات أفضل استثمار عقاري في الوقت الراهن

المباني الحديثة تولد طاقتها ذاتيا وتقتصد في استهلاكها

المباني الحديثة تدخل استهلاك الطاقة في الاعتبار عند التصميم («الشرق الأوسط»)
TT

من بين أفضل الخطوات التي يمكن للشركات اتخاذها في الوقت الراهن لتحسين قيمة العقارات التجارية أو على الأقل المحافظة على قيمتها، هي تحسين المواصفات البيئية لها بحيث تقتصد في استهلاك الطاقة وتتوافق مع شروط المحافظة على البيئة. ففي مثل هذه الخطوات رفع لقيمة العقار وعوائد الإيجار، كما أنها خطوات تتلاءم مع توجهات المستقبل وتستبق شروطا قانونية قد تفرضها الحكومات نتيجة لتوقيعها على اتفاقات بيئة دولية.

والملاحظ حاليا ان بعض العقارات العملاقة في العالم تخضع لعمليات إعادة صيانة شاملة لكي تتوافق مع شروط البيئة، ومنها مبنى الأمم المتحدة الشهير في نيويورك وأيضا ناطحة السحاب «إمباير ستيت» التي تدخل عليها تحسينات في مشروع متكامل يوفر استهلاكها للطاقة بنسبة 40 في المائة.

وتلتزم شركات المقاولات العالمية بتنفيذ شروط الالتزام بمعايير البيئة في كافة مشروعاتها الكبرى الجديدة، ولكن الآلاف من المشروعات الأصغر حجما ما زالت تبنى بأساليب الماضي ولا تلتزم بأي معيار بيئي. وهذه المشروعات قد تتأثر في قيمتها وربحيتها في المستقبل.

وتسهم المباني السكنية والتجارية والصناعية بنسبة 40 في المائة من التلوث الحراري العالمي، وهي تهدر الكثير من استخدامات الطاقة خصوصا في مجالي التدفئة او التبريد. وتأتي بعد ذلك مجالات استهلاك الكهرباء في الإضاءة وتشغيل الأجهزة ثم بقية الخدمات المصاحبة بعد ذلك. وهناك عوامل اخرى تؤثر في مدى استهلاك أي مبنى للطاقة مثل موقعه الجغرافي ومدى قربه من وسائل المواصلات العامة، وأيضا أساليب بناء العقار التي يستهلك بعضها المزيد من الطاقة غير الضرورية.

ويمكن ببعض الممارسات البيئية تخفيض استهلاك الطاقة بنسبة 70 في المائة، وفقا لنصيحة مجلس الأعمال العالمي الذي أجرى دراسة على مدى كفاءة استخدام الطاقة في المنشآت الحديثة. وتشير الدراسة إلى امكانية القيام بخطوات تحسين استهلاك الطاقة ورفع الكفاءة من دون الاضرار باستمرارية الاعمال. فيمكن مثلا تنفيذ التحسينات المطلوبة في استخدام الطاقة اثناء اجراء الصيانة الدورية للمبنى او اثناء تنفيذ عمليات التوسع والتجديد. وتقدر شركة «آرثر دي ليتل» الاستشارية ان إجراءات التوافق مع المعايير البيئية تضيف ما بين 10 إلى 20 في المائة إلى تكاليف التجديد والتوسع التي تجرى على العقار. ولكن الشركة تؤكد ان هذه التكاليف يمكن استرجاعها بالكامل في سنوات قليلة من التوفير في استهلاك الطاقة، كما انها تزيد جاذبية المبنى للمستأجرين الجدد.

وفي حالة ناطحة السحاب «إمباير ستيت»، سوف يتكلف مشروع تحسين استهلاك الطاقة فيها نحو 20 مليون دولار، ولكن المشروع سيؤدي إلى خفض استهلاك الطاقة بما يقارب 4.4 مليون دولار سنويا بعد اكتماله، اي انه سوف يغطي تكاليفه بعد نحو خمس سنوات. ولا يعتمد المشروع على أدوات عالية التقنية يصعب تنفيذها في مواقع اخرى، بل انه يعتمد في بعض بنوده على بعض الإجراءات البسيطة التي يمكن تنفيذها في أي شركة تجارية. وهي إجراءات لا تكلف الكثير ولكنها تحقق عوائد فورية مثل التزام العاملين بإطفاء الأضواء لدى مغادرة المكاتب وكذلك اغلاق اجهزة الكومبيوتر.

ومن أهم الإجراءات المتبعة لخفض استهلاك الطاقة: تحسين إجراءات عزل المنشآت حراريا، وتزويدها بنوافذ وابواب مزدوجة عازلة للبرد وحرارة الشمس، وتغيير انظمة الاضاءة إلى اخرى حديثة قليلة الاستهلاك للطاقة، وايضا تغيير السخانات إلى اخرى مرتفعة الكفاءة في التشغيل والاستهلاك. واول الخطوات التي يتعين على الشركة الراغبة في تحسين أدائها البيئي اتخاذها هي قياس استهلاكها من الطاقة لكي تعرف على الاقل نقطة البداية التي يجب تحسين الاداء عليها. وبعد قياس نسب الاستهلاك يمكن التعرف على الجوانب التي تستهلك اكبر نسبة من الطاقة للتعامل معها. وتبدأ الأولويات في العادة بأنظمة التدفئة والتكييف. وقد تكتشف الشركات انها تنفق ملايين الدولارات سنويا على ممارسات لا تتسم بالكفاءة مثل تبريد منشآت بعد تسخينها بأساليب غير مباشرة، عن طريق استخدام الاجهزة وحرارة اجسام العاملين في المبنى. وهناك انظمة يمكنها ان تستفيد من مصادر الحرارة غير المباشرة مثل تبريد غرف محركات الكومبيوتر واستخدام الحرارة الناتجة عنها في تدفئة مناطق اخرى داخل المبنى.

وفي حالات الحاجة إلى التدفئة فإن الخطوات الاولى هي عزل الجدران والنوافذ واستخدام احدث اجهزة التسخين والتكييف التي لا تستهلك الكثير من الطاقة. ولا بد من ادارة عمليات تحسين المنشآت بدقة حتى تكون الخطوات مرحلية، فعلى سبيل المثال يجب ألا يتم تغيير السخانات بأخرى حديثة من دون عزل الجدران أولا، وإلا فان الحرارة الناتجة سوف تهدر أيضا.

وتقول مستشارة في شركة فرنسية تعمل في مجال تنفيذ مشروعات تحسين المباني ان العناية بالتفاصيل مفتاح النجاح في هذه المشروعات حيث إن إهمال التهوية مثلا يمكن ان ينتج عنه مشكلات رطوبة في الجدران. وهي تعترف ان للضرورة أحكاما حيث منافذ السوبر ماركت التي قد تنفق ملايين الدولارات في تدفئة الموقع ولكنها تترك برادات الاغذية مفتوحة على مصراعيها حتى يأخذ منها المستهلك ما يريده بلا عناء. ويمكن الحد من هذا الاسراف الكبير في استهلاك الطاقة بتغطية اماكن تبريد وتجميد وحفظ الاغذية بدلا من تركها مفتوحة.

وللشركات وجهة نظر مغايرة في امور تحسين المنشآت للمحافظة على البيئة، فالإنفاق على الطاقة لا يمثل سوى نسبة صغيرة من إجمالي ما تنفقه الشركات على مجالات اخرى مثل اجور العاملين وايجار المواقع. وتقدر مصادر السوق ان الطاقة لا تكلف سوى نحو خمسة في المائة من إجمالي الإنفاق العام للشركات وان التكلفة تنخفض اكثر في فترات انخفاض اسعار الطاقة كما هو الحال الآن. ومع ذلك فإن خفض فاتورة من خمسة في المائة إلى نصف هذا المعدل يعني توفير ملايين الدولارات للشركات الكبيرة.

وهناك سبب اخر لعدم اهتمام الشركات بجوانب الحفاظ على الطاقة في المباني التي تعمل منها، وذلك لأنها لا تملك هذه المباني. وأحيانا لا يكون لهذه الشركات المؤجرة لمواقع العمل الحق في إجراء تغييرات تتعلق بتحسين استهلاك الطاقة، كما ان مالك العقار لا يهتم بإنفاق أمواله على توفير استهلاك الطاقة الذي يدفعه المستأجر بدلا عنه.

وهذه الحالات في السوق لن تتغير الا اذا ارتفعت اسعار الطاقة إلى الحدود التي تحفز على توفيرها او اصدرت الحكومات قوانين صارمة خاصة بالحفاظ على الطاقة. وهذا الواقع يحدث بالفعل في الاتحاد الاوروبي الذي تسوده ايضا تشريعات خاصة بسلامة المباني. وهناك ايضا مؤشرات إلى ان ادارة الرئيس أوباما مهتمة بإصدار تشريعات للحد من الانبعاث الكربوني، ولذلك تتجه المنشآت الكبرى مثل ناطحات السحاب إلى التحول إلى توفير الطاقة قبل ان تفرض عليها هذه الإجراءات بتشريعات قانونية. ويأخذ التصميم الحديث للمباني جانب توفير الطاقة في الحسبان ويتواءم مع الأجهزة الحديثة الموجهة لتوفير مصادر الطاقة. ويتم الاهتمام بجوانب التدفئة والتكييف والتهوية التي تستهلك فيما بينها نحو 55 في المائة من طاقة المباني السكنية و35 في المائة من المنشآت التجارية. بينما الإضاءة التي لا تستهلك أكثر من أربعة في المائة في المساكن، يصل استهلاكها إلى نحو 30 في المائة في المنشآت التجارية.

وتقول هيثر دانييل، محللة استهلاك الطاقة في شركة «نيو انرجي فينانس» الاستشارية، ان الكثير من جوانب توفير الطاقة يمكن الانتباه اليها بأفكار بسيطة في مرحلة التصميم. فوجود سقف للمناطق التي تختزن الحرارة مثل الاسفلت والمسطحات الخرسانية يمكنه ان يمنع ارتفاع درجة الحرارة التي تنعكس على المباني. كما ان تصميم النوافذ الذكية التي تمنع مرور الأشعة فوق البنفسجية وتحت الحمراء يمكنها ان تسهم كثيرا في الحفاظ على التكييف البارد بتكلفة اقل. وهناك تقنيات يتحول معها لون الزجاج إلى القاتم في اشعة الشمس لحجب الحرارة.

ولكن هذه الاساليب التي تحافظ على تبريد المباني والمنشآت من شأنها ان تزيد من مشكلة المدن بزيادة الحرارة فيها. وفي المدن الباردة في شمال اوروبا بدأ استخدام ما يعرف باسم «مضخات الحرارة» وهي مضخات تستخلص الحرارة من مصادر جوفية او سائلة او حتى هوائية وتوجهها لأغراض التدفئة. وتنتج هذه المضخات أربعة أضعاف الطاقة التي تستهلكها في إدارة المضخات. ويمكن استخدام الفكرة نفسها للمناطق الحارة بعكس الضخ بحيث تتحول الحرارة إلى برودة كما يحدث في البرادات المنزلية.

كما تستخدم مبدلات حرارية لتحويل التدفئة من مكان إلى آخر مثل استخدام الحرارة الناتجة من اجهزة الكومبيوتر لتدفئة مواقع اخرى في المبنى مع خفض تلقائي لحرارة غرف الكومبيوتر في الوقت نفسه.

وفي بريطانيا توجد شركة اسمها «أيس انرجي» تستخدم الكهرباء الرخيصة اثناء الليل لتصنيع الجليد وتستخدم الجليد اثناء النهار لتوفير التكييف البارد للمنشآت. وتؤكد الشركة ان الاسلوب الذي تستخدمه ليس فقط رخيصا وانما يوفر اكثر من 70 في المائة من الطاقة المستخدمة.

وتستخدم شركات أخرى اسلوبا مغايرا لتوفير الطاقة بوقف اجهزة التكييف والتبريد لفترات اثناء الذروة، من دون ان يشعر مستخدموها بالفارق، لخفض الاستهلاك العام بما يلغي الحاجة إلى التشغيل الاضافي لمحطات الكهرباء اثناء فترات كثافة الاستهلاك. وتقوم العديد من الدول بإلغاء مصابيح الكهرباء العادية وتستبدل بها مصابيح توفر استخدام الطاقة.

وفي المستقبل سوف تتحول كل الإضاءة إلى نوع أكثر كفاءة بعشر مرات على الأقل اسمه «إل إي دي» (LED) وهو ارخص في التصنيع ويخدم لفترات طويلة ولا يحتاج إلى صيانة كما انه لا يفرز اي حرارة.

وأخيرا يجب ان تتوفر في المباني الحديثة أدوات تحكم حديثة تطفئ الأضواء وتخفض استهلاك الأجهزة أثناء فترات عدم التشغيل. والشق الثاني الأهم هو كيفية استخدام الأفراد للطاقة بحساب، وهذا يحتاج إلى تغيير الثقافة العامة بأهمية عدم إهدار الطاقة.

* المبنى العصري يجب أن يكتفي ذاتيا من الطاقة

* بدأت ملامح مرحلة معمارية جديدة تلوح في الأفق بعد فترة طويلة كانت فيها المنشآت العملاقة تقاس بشخصيتها المتميزة التي تنعكس على الموقع والمدينة التي يقام فيها العقار. ولكن مقياس المستقبل سوف يكون مدى اكتفاء المبنى من الطاقة من حيث تخفيض الاعتماد على موارد الطاقة الخارجية وربما توليد طاقة إضافية يضيفها إلى الشبكة العامة. وسوف يتم القياس عبر عدة معايير تختص بالمواد المستخدمة والتجهيزات الداخلية والأنظمة المستخدمة. من هذه المعايير:

* تركيبات توليد الطاقة: تلجأ المباني الحديثة إلى تركيب أنظمة توليد على أسطحها وجوانبها مثل ألواح الطاقة الشمسية وتوربينات الرياح. ويمكن توجيه هذه الطاقة إلى حاجات تشغيل الأجهزة في المبنى لتحقيق الاكتفاء الذاتي. ومن ابرز استخدامات الطاقة الشمسية المنتشرة في البلدان الحارة تسخين خزانات المياه المركزية لتوفير المياه الساخنة على مدار الساعة بطاقة نظيفة ومتجددة.

* الإضاءة: الاستعانة بنظم إضاءة حديثة توفر من استهلاك الكهرباء وتقلل من الإفراز الكربوني. وتعتمد هذه الأنظمة على أدوات استشعار تقوم بإطفاء الأضواء تلقائيا في حالة عدم وجود حركة لأفراد في المبنى أو في الغرف المنفصلة.

* تقنية الزجاج: الزجاج المزدوج يمنع تسرب الحرارة إلى داخل المبنى، وبعض أنواع الزجاج تتحول إلى اللون الداكن في الشمس لمنع تسرب الحرارة والاشعاع إلى الداخل. وتصل انواع الزجاج الحديثة في جودة عزلها إلى ما يقارب الحوائط الأسمنتية.

* مصادر الحرارة البديلة: في الوقت الذي تفرز فيه اجهزة الكومبيوتر والادوات الالكترونية الكثير من الحرارة التي يتم التخلص منها بالتهوية، فان هذه الحرارة يمكن استخلاصها وإعادة توجيهها إلى تدفئة مواقع أخرى داخل المبنى.

* العزل الحراري: استخدام المواد العازلة في المنشآت الحديثة ضروري لمنع تسرب التكييف البارد. ولا بد من استخدام العزل الحراري الجيد الذي يوفر نوعا من مرور تيارات الهواء الضرورية لمنع تكوين الرطوبة داخل المباني.

* مصادر المياه: تتراوح جهود المحافظة على مصادر المياه من حسن الاستخدام والتأكد من صلاحية المواسير والصنابير، وتصل إلى مدى تركيب أنظمة حديثة لإعادة تدوير المياه وتنقيتها.

* الثقافة البيئية: وتتعلق باكتساب الأفراد لأهمية التعامل مع الطاقة باحترام وإغلاق أجهزة الكومبيوتر وإطفاء الأضواء لدى مغادرة المكاتب. ويمكن بدء هذه الثقافة من مراحل الدراسة الأولى وتعميمها أيضا على الاستخدام المنزلي.