أزمة أسعار العقار تحول بريطانيا إلى مجتمع من المستأجرين

انخفاض معدل الملكية إلى 69.35%

العقارات الجديدة في بريطانياتتوجه في معظمها نحو الاستثمار الإيجاري («الشرق الأوسط»)
TT

الإحصاء الحكومي الأخير الذي صدر في بريطانيا حول تحولات ملكية العقار في السنوات الخمس الأخيرة يشير إلى تبلور ظاهرة جديدة على المجتمع البريطاني، وهي انخفاض نسبة ملكية العقار من 71 في المائة عام 2004 إلى 69.3 في المائة في العام الماضي. ونتج هذا الانخفاض عن تراجع عدد المشترين الجدد الذين انسحبوا من السوق العقارية، نظرا لارتفاع الأسعار بالمقارنة مع الأجور، وأيضا بسبب الأزمة الاقتصادية التي أثرت سلبيا على معدلات التوظيف وضمانات الوظائف ومعدلات الدخل.

ويتوقع الإحصاء أن تشهد السنوات العشر المقبلة ارتفاع الطلب على العقارات المؤجرة لعدم القدرة على الشراء. ويماثل هذا التحول النمط السائد في أرجاء أوروبا الأخرى حيث الإيجار، وليس ملكية العقار، وهو الأسلوب السائد. وأدت الظروف الحالية، وفقا للإحصاء، إلى انخفاض عدد دافعي أقساط القروض العقارية من 8.6 مليون شخص عام 2000 إلى 6.9 مليون شخص في العام الماضي. ودعا هذا التحول وزير الإسكان البريطاني، جون هيلي، إلى التصريح بأن عصر ملكية البريطانيين لعقاراتهم قد ولّى.

وفي حديث برلماني أوضح الوزير أن البعض يشير إلى الكساد على أنه كان وراء إحجام المشترين البريطانيين عن شراء العقار، ولكن الحقيقة هي أن تراجع ملكية العقار يعود إلى عام 2005، أي إلى ما قبل حدوث الكساد. وأضاف أن هذه الظاهرة ليست سلبية بالضرورة لأنها تماثل ما يجري في أوروبا منذ عقود.

وتنظر شركات العقار الكبرى، مثل «سافيل ولاسال»، إلى هذه التحولات باهتمام على أساس أنها توفر فرصا استثمارية جيدة في قطاع التأجير العقاري البريطاني في المستقبل. فهؤلاء الذين لا تتاح لهم في الوقت الحاضر فرص شراء العقار سوف يلجأون بصورة متزايدة إلى الإيجار كبديل. وبالتالي سوف يرتفع الطلب بالتوازي بين الإيجار والطلب الاستثماري على العقارات بغرض تأجيرها.

من العوامل الفاعلة في السوق البريطانية التي يمكن القول بأنها السبب الرئيسي في هذه التحولات أن معدلات أسعار العقار ما زالت باهظة بالمقاييس التاريخية على الرغم من الأزمة المالية والكساد الاقتصادي. فأسعار العقار البريطاني حاليا تفوق ما كانت عليه قبل عشر سنوات بنسبة 250 في المائة، وهي نسبة لم تستطع مجاراتها الأجور التي زادت بهوامش بسيطة خلال العقد الأخير. ولم يسهم الكساد الاقتصادي في تحسين القدرة على شراء العقار، لأن البنوك امتنعت عن الإقراض وطالبت بمقدم كبير لكل قرض عقاري، الأمر الذي أخرج المزيد من المشترين الجدد من السوق.

وتقول يولاند بارنز، خبيرة شركة «سافيل» العقارية في لندن: «إن السنوات العشر المقبلة سوف تفرز انشطارا في السوق البريطانية بين فئتين، واحدة منهما تمتلك العقارات بلا قروض عقارية تذكر، وأخرى ذات أعباء متراكمة تعتمد على الإيجار كمخرج وحيد لحل مشكلة الإسكان». ولاحظت بارنز أن عدد الذين يملكون عقارات بلا قروض عقارية زاد في بريطانيا ما بين عامي 2000 و2008 بنسبة مليون شخص، أي نحو نصف إجمالي مالكي العقار في بريطانيا.

ويرى خبير آخر من شركة «كلاتونز»، اسمه جيمس هايمان، أن التحولات الجارية تعني أن هناك فجوة في السوق قد تستمر لمدة خمس سنوات أخرى حتى يمكن لمستثمري العقار الجدد ادخار ما يكفي لدفع المقدم المطلوب من البنوك لشراء عقار. ويعني هذا أنه على المدى القريب سوف تشهد السوق انكماشا في حجم الإقراض العقاري بسبب ضعف السيولة وتغيرات جذرية في قواعد الإقراض العقاري. ولكنه لا يعتقد أن حلم الملكية العقارية في بريطانيا سوف ينتهي، لأنه من أهم الركائز الاجتماعية لأجيال متعاقبة. ومهما كانت المشاق أو فترة الانتظار، فالبريطاني سوف يأمل دوما في ملكية عقاره.

ويتفق الكثير من خبراء شركات العقار مع هذا التحليل، لأن المجتمع البريطاني ما زال ينظر إلى الإيجار وكأنه إهدار للأموال لا فائدة له ولا طائل من ورائه. ويفسر هذا التحليل تحولات السوق في عام 2009، حيث صعدت الأسعار قليلا على الرغم من الكساد بسبب تنافس الفئة الثرية على العقارات القليلة التي عرضت في السوق. ولم يكن المشترون مضطرين للشراء الفوري، لأن معظم مشترياتهم كانت للاستثمار وليس للإقامة فيها. وقد سعى هؤلاء إلى الاستثمار العقاري بسبب العوائد الهزيلة للبنوك وأيضا الخسائر الهائلة في البورصات.

وكانت نسبة كبيرة من المشترين من الأجانب الذين وجدوا فرصة ذهبية في عقارات لندن بسبب انخفاض الأسعار وانخفاض قيمة الجنيه الاسترليني في الوقت نفسه. وكانت معظم المشتريات بغرض الاستثمار بالتأجير والحصول على عوائد تزيد على خمسة في المائة. ولكن هذه النوعية من المشترين تنتقي عقاراتها بحرص وتنسحب من الصفقات بسهولة ولا تتردد في الخروج من السوق عند أول بادرة لتغير الظروف.

ونتيجة لهذه التحولات أصبحت السوق العقارية البريطانية خاضعة لمتغيرات جديدة، مثل المشترين والمستثمرين نقدا، ولذلك تعد السوق أكثر تقلبا من ذي قبل حينما كانت تعتمد على الشراء من أجل السكن بعد الحصول على قرض عقاري. وتماثل السوق الإسكانية حاليا سوق العقارات التجارية المتقلب الذي يخضع للعرض والطلب وحالة الاقتصاد. ولهذا لا يستبعد الخبراء سقطة أخرى لسوق العقار البريطانية الإسكانية خلال هذا العام قبل حلول مرحلة الانتعاش الحقيقي. ويدعم هذا الاعتقاد الشكوك الماثلة حول معدلات التوظيف وحجم السيولة المتاحة للإقراض العقاري.

وتنتشر عمليات الشراء النقدي حاليا في كل قطاعات العقار البريطاني وليس فقط في القطاع الفاخر. وبالنسبة للمشترين الجدد يعتمد عدد كبير منهم على الاقتراض العائلي بدلا من البنوك من أجل تدبير التمويل اللازم لشراء العقار. ومن المتوقع أن يستمر هذا التيار لعدة سنوات أخرى مع تشديد شروط الإقراض واستمرار ارتفاع أسعار العقار نسبيا وحجم المبالغ المطلوبة كمقدم لشراء العقارات التي تعجز الأغلبية في السوق عن تدبيرها.

وفيما تتوقع الأسواق عشر سنوات مقبلة مستقرة في مجال التأجير العقاري في بريطانيا، فإن السوق البريطانية تبحث حاليا عن نموذج عقاري جديد يستعيد توازن السوق بعد انفجار الأسعار على مدى العقود الثلاثة الأخيرة. هذا النموذج يتطلب عودة الحكومات المحلية إلى المشاركة في الإسكان الشعبي الذي انسحبت منه منذ عصر الخصخصة الذي بدأته رئيسة الوزراء السابقة ثاتشر. وقد تكون هذه العودة مختلفة عن الماضي بحيث يمكن «توريق» الاستثمار العقاري وتبادل صكوكه بيعا وشراء بين المستثمرين. وقد تدخل الحكومات المحلية طرفا في الاستثمار العقاري لأنها خسرت الكثير من استثمارات وإيداعات في شركات وبنوك سقطت في النكسة الاقتصادية الأخيرة. كما يمكن تطوير ما يعرف بالملكية الجزئية، بحيث يمكن الاستثمار في نسب من العقارات وليس في العقارات كلها كما كان الحال في الماضي. ويسري هذا أيضا على المستثمرين الأفراد الذين قد يملكون نسبا في عقارات المستقبل، أو يقبلون بقروض طويلة تمتد عبر أكثر من جيل.

وقد يشجع هذا التطور كبار المستثمرين في السوق، مثل صناديق المعاشات، في الدخول الاستثماري إلى قطاع العقار الذي يوفر المزيد من الاستقرار على المدى البعيد مع عوائد جيدة تناسب تطلعات هذه الصناديق وتحميها من تقلب البورصات. كما أن انفتاح السوق للاستثمار المنظم سوف يشجع التحول من النمط التقليدي في بناء شقق صغيرة أو غرف استوديو من أجل التأجير إلى بناء مختلف العقارات حتى الشقق الكبيرة التي يحتاجها هؤلاء الذين يفضلون التأجير أو يضطرون إليه على المدى البعيد، بعد أن فاتهم السلم العقاري في بدايات حياتهم العملية.

ولتلبية الطلب المتزايد على الإيجار، سوف تدخل السوق شركات متخصصة تقدم نوعيات متميزة من العقار، الذي يمكن تكوين علامات تجارية له للتأكد من جودته، وتركز على النوعية بدلا من الكمية لخدمة أهداف النمو الجيد على المدى الطويل.

وفي الماضي كانت السوق تعتمد على مالكي العقار الأفراد الذين ظهروا في السوق لتلبية الطلب المتزايد على الإيجار. ولكن معظم هؤلاء خرج من السوق أثناء الأزمة الاقتصادية ولم يتبق منهم إلا عدد قليل استطاع تحمل الخسائر.

وفي المستقبل سوف تستمر فرص التأجير لجميع قطاعات الاستثمار من المالك الفرد إلى شركات المساهمة في الأرباح وحتى صناديق المعاشات والاستثمار. وسوف يتبلور السوق نحو تكوين شركات أو صناديق عقارية تدير العقارات المؤجرة لصالح المجموعات المشاركة في رأس المال. وتهتم الشركات الكبرى باقتناء وإدارة هذا الصناديق كشركات خاصة توفر خيارات العقارات والإيجارات التي تطلبها الأسواق من ناحية مع توفير عوائد مستقرة وجيدة للمستثمرين من ناحية أخرى.

* ألمانيا توفر أفضل الفرص العقارية في أوروبا

* ما زالت أسواق العقار الأوروبية متأرجحة في تطلعات العام الجديد بين الاستقرار والهبوط ولكن العقارات الألمانية توفر أفضل فرص الاستقرار، رغم تدني عوائدها نسبيا، وفقا لتقرير من شركة الاستثمار الاسكوتلندية «سكوتيش ويدوز». وبعد تراجع مستمر خلال العام الماضي في كل أنحاء أوروبا، من المتوقع أن تتوجه الأسعار إلى الاستقرار وربما الارتفاع، بنسب مختلفة بين دولة وأخرى.

وتتقلد المدن الأوروبية قمة الاستثمارات العقارية الأوروبية الجيدة من أكثر من مصدر. ويقول تقرير من مؤسسة «جونز لانغ لاسال» إن كلا من هامبورغ وميونيخ وفرانكفورت توفر فرصا جيدة، خصوصا في فئة العقارات المقامة حديثا. ويشير التقرير إلى أن السوق الألمانية توفر الآن «فرصة نادرة بمقارنة المخاطر والعوائد».

وتبدو هامبورغ في موقع جيد لقيادة الانتعاش العقاري الألماني بأكبر مشروع عقاري ألماني قرب ميناء المدينة. وقد انتهت المرحلة الأولى من المشروع فعلا التي تحول فيها جزء من المنطقة الصناعية في الميناء إلى أكبر مدينة أوروبية متفوقة في الحفاظ على البيئة، تسمى «إيكوسيتي». وتجمع المدينة بين المنازل ومقار الشركات في مناخ يعتمد على تدوير النفايات وعدم إفراز الكربون ونظام متكافئ من المواصلات العامة.

ولكن السوق الألمانية تتقدم ببطء لأن قطاع البائعين فيها يتكون من هؤلاء المضطرين للبيع، بينما ينشط فقط المشترون الذين يبحثون عن الفرص الرخيصة. وما زالت توجهات الأسعار في ألمانيا، أكبر الأسواق العقارية الإسكانية في أوروبا بحجم 269 مليار يورو، غامضة حتى يتضح توقيت نهاية الركود الأوروبي، الذي يعتقد البعض أنه سوف ينتهي خلال هذا العام.

وينصح التقرير بالحرص وعدم الاندفاع نحو الأسواق الروسية التي توفر نسب عوائد أعلى من بقية أوروبا، لأن هذه العوائد تأتي على حساب مخاطر أعلى. ويبدو أن العوائد الإيجارية مستقرة الآن عند معدلات مغرية للمستثمرين الجدد، ويعتقد عدد متزايد من هؤلاء المستثمرين أن الآن هو الوقت المناسب لشراء العقار الألماني، وإلى حد ما العقار الأوروبي. وتشمل التوقعات الإيجابية قطاع العقار التجاري أيضا.

وتدور المنافسة الآن على تحديد العقارات الجيدة التي توفر عوائد إيجارية جيدة مع المحافظة على قيمتها. ولكن مثل هذه العقارات غير متوفر في الأسواق بما يكفي الطلب الاستثماري لأن مالكي هذه العقارات ينتظرون فرصا أفضل في المستقبل لبيعها بأسعار أفضل.

وفيما تنتظر الأسواق الأوروبية الأخرى الانتعاش من الخارج، سواء من صناديق دولية أو مستثمرين أفراد أجانب، فإن معظم قوة الدفع الألمانية تأتي من مستثمرين محليين. وتقود صناديق الاستثمار الألمانية الاندفاع نحو الاستثمار العقاري مبتعدة عن مخاطر الأسواق الدولية في الوقت الحاضر.

وبوجه عام يعود قطاع العقار الأوروبي إلى بؤرة اهتمام المستثمرين لعدة أسباب هيكلية منها تدني الأسعار إلى مستويات مغرية وتوفير عوائد إيجارية أعلى مما توفره الاستثمارات الأخرى وعوائد البنوك، بالإضافة إلى المحافظة على قيمة الاستثمار من التآكل خصوصا في السنوات المقبلة التي يطل فيها التضخم مرة أخرى قريبا عقب نهاية الكساد.