الإقراض صعب.. وأفضل الفرص لمن يملك السيولة

البنوك تخنق أسواق العقار

العقار الأميركي خرج من مرحلة الكساد إلى مرحلة الاستقرار («الشرق الأوسط»)
TT

يبدو أن أكثر العوامل الفاعلة في أسواق العقار الدولية اليوم ليس العرض أو الطلب، وإنما توجهات البنوك من حيث سياسة الإقراض العقاري المتشددة. فحتى الآن ترفض البنوك فتح خطوط الائتمان والإقراض سواء في القطاع التجاري أو القطاع الإسكاني، الأمر الذي يخنق فرص النمو العقاري بتحجيم الصفقات واقتصار السوق أحيانا على العروض العقارية المتعثرة التي تبحث عن عملاء من ذوي السيولة الفورية.

ويتيح هذا الوضع فرصا ذهبية لمن يمتلك السيولة وسرعة الحركة لاقتناص الفرص. لكن الوضع لا يشجع على نمو السوق وتشجيع الاستثمار العقاري على المدى البعيد. وقد تقلص حجم الصفقات وعددها في السوق حاليا إلى درجة تجمد قطاعات واسعة من الصناعة بداية من نشاط البناء وحتى شركات تسويق العقار.

وفي السوق الأميركية عقدت هيئة مالكي مراكز التسوق مؤتمرا لبحث أحوال الصناعة تحت رئاسة بيرني هاديغان رئيس مجموعة «ماركوس آند ميليتشاب.» ولاحظ الخبراء المشتركون في المؤتمر أنه على الرغم من تقلص حجم الصناعة من ذروتها التي حققتها في الفترة ما بين عامي 2005 - 2008، فإن معدلات الأشغال ما زالت متدنية خلال عام 2010 وسوف تستمر كذلك في المدى المنظور لأسباب متعددة، من بينها تشدد البنوك في تقديم التسهيلات الائتمانية.

وبينما ترسم الإحصائيات العامة صورة قاتمة حول وضع صناعة العقار حاليا، إلا أن هاديغان يؤكد أن العامل الحاسم في المعادلة ما زال موقع العقار. فالعقارات متميزة الموقع ما زالت تخالف وضع السوق، من حيث العوائد وسهولة البيع والاقتراض بضمانها. وما زال المستثمرون يهتمون بالعقارات الجيدة إلى درجة ظهور فجوة بين العقارات الأفضل وبين بقية السوق، من حيث الأسعار وحجم الطلب.

وبوجه عام، انخفض حجم الصفقات في السوق، وفقا لتعاملات مجموعة «ماركوس آند ميليتشاب» بنسبة 66 في المائة من ذروة السوق حتى بداية هذا العام، وإن كان التعامل بدأ ينشط قليلا خلال الربع الأخير من العام الماضي. وتغير أيضا نمط الصفقات بين عام 2007 والعام الحالي. ففي عام 2007 كان حجم الصفقات التي يزيد حجمها عن 20 مليون دولار يمثل نصف الصفقات المعقودة في السوق. أما الآن فلا يمثل هذا الحجم سوى نسبة ضئيلة لا تزيد عن 6 في المائة. أما معظم الصفقات الآن فهي تقل عن 10 ملايين دولار، بسبب ندرة التمويل وسهولة تقييم العقارات الصغيرة وتدبير تمويل شرائها بمبالغ محدودة نسبيا.

وتعقد معظم الصفقات الآن على العقارات الجيدة ذات المستأجر الواحد والعوائد العالية، بينما يقل الطلب على العقارات متوسطة المستوى والعائد. أما توجهات المستقبل فهي تعتمد تماما على البنوك، وفقا لرأي هاديغان، الذي يؤكد أن البنوك تملك القول الأخير في فرض التصفية على المتعثرين أو إعادة جدولة الديون خصوصا في الفترة التي تبدأ من عام 2011 وحتى عام 2015. ويستطرد هاديغان أن هذه الفترة سوف تشهد خلالها الأسواق استحقاق ديون عقارية حجمها 1.17 تريليون دولار في القطاع التجاري الأميركي وحده، وهناك الكثير من الصعوبات في إعادة تمويل الكثير من العقارات المتعثرة.

وتقدر مجموعة «ماركوس أند ميليتشاب» حجم القروض المتعثرة بنحو 170 مليار دولار مستحقة على نحو 8 آلاف عقار تجاري. ولكن نسبة الإفلاسات في القطاع ما زالت صغيرة ولا تتعدى نحو 2 في المائة.

ويرى خبير آخر هو كيفن دوناهيو من بنك «بي إن سي» العقاري الأميركي أن هناك نسبة كبيرة من الديون العقارية المعاد تمويلها وفق شروط خاصة. وأشار دوناهيو إلى أن نسبة كبيرة من هذه العقارات تقع في قطاع منافذ البيع والمكاتب والمحلات التجارية، ويعتقد دوناهيو أن البنوك لا يمكنها الاستمرار في إعادة الجدولة إلى المدى البعيد، ويرى أن من صالح السوق تصفية بعض هذه المديونيات لتحرير التمويل وإعادة توازن السوق على أسس جديدة.

ويتفق في هذا الرأي خبير آخر هو كيران كوين الذي أشار إلى أن البنوك التجارية تملك نصف القروض العقارية في القطاع التجاري، وأنها بدأت للتو في مواجهة الحقيقة والاعتراف بخسائرها واتخاذ القرارات المناسبة. ويضيف كيران أن السوق الأميركية فقدت نحو 150 بنكا عقاريا وأنها في الطريق لفقدان عدد مماثل منها.

وينصح كيران أصحاب العقارات التجارية المتعثرين في إعادة جدولة ديونهم، أن يبدأوا في دراسة أوضاعهم مبكرا وأن يبحثوا في كل الاحتمالات، بحيث تكون لديهم خطط جيدة لاستعادة نشاطهم التجاري عند الاجتماع مع مديري البنوك، ويوضح أن مديري البنوك مشغولون بدراسة الكثير من الحالات ولا يريدون إضاعة الوقت في حالات ميؤوس منها. ولذلك فإذا لم تكن هناك خطط جيدة معروضة على مديري البنوك فهم على الأرجح يفضلون تصفية العقارات لاستعادة الديون أو على الأقل النسبة الأكبر منها.

كما ينصح هؤلاء الذين تزيد قروضهم عن قيمة عقاراتهم التجارية، بتوفير بعض السيولة للبنك من أجل تأجيل تغطية الديون لمدة عام أو عامين. وكلما زاد المبلغ المقدم للبنك، كان إقناعه أسهل بعدم إعلان إفلاس المدين وعرض عقاره للبيع الفوري. ويؤكد دوناهيو أن البنوك تريد التعاون من المستثمرين الذين يريدون أن يكونوا جزءا من الحل. ويحتاج هؤلاء إلى خطة عمل وبعض المال من أجل إعادة جدولة ديونهم بحيث تكون أقل من قيمة عقاراتهم حتى تسمح لهم البنوك بالاستمرار في الاستفادة من التمويل.

ويعتقد كوين أن أسواق العقار التجارية في طريقها إلى الانفراج، لأن البنوك وشركات التأمين بدأت ترى بعض الفرص النادرة، كما أن لديها الكثير من المال النقدي الذي يبحث عن فرص استثمار جيدة، ويؤكد أن شركات التأمين وحدها لديها 30 مليار دولار مرصودة للتمويل العقاري، ولكن لمستثمرين من ذوي الملاءة العالية وبنسب لا تزيد عن 68 في المائة من قيمة العقارات. وسوف تقتصر هذه الأموال على العقارات والفرص الجيدة في الأسواق.

وتأتي بوادر الانفراج من السوق الأميركية التي شهدت ارتفاعا في عمليات التمويل بداية من هذا العام، وفقا لإحصائيات وزارة الخزانة الأميركية. وتشير الإحصائيات إلى زيادة عمليات إعادة التمويل بين البنوك الكبرى في السوق الأميركية وفي أوروبا. ووفقا لإحصاء أجرته شركة «جونز لانغ لاسال» في بداية هذا العام توقع عدد كبير من البنوك زيادة الإقراض العقاري هذا العام. وتوقعت معظم البنوك المشاركة في الإحصاء أن تضاعف حجم إقراضها العقاري خلال عام 2010. وقالت نسبة 70 في المائة من البنوك إن حجم إقراضها سوف يتضاعف من ملياري دولار إلى 4 مليارات.

وأكدت البنوك أنها تمنح المدينين بقروض متأخرة السداد فرصة 24 شهرا لتسوية أوضاعهم بدلا من فرض البيع الإجباري. ولكن هذه العروض تقتصر على العقارات الجيدة ذات العوائد المستقرة. ولكن في حالات أخرى تضطر البنوك إلى التخلص من الأصول المجمدة بالبيع لكي تحرر رؤوس أموالها من أجل الاستثمار في فرص أفضل. وسوف تستمر فترة إعادة الهيكلة من الآن وحتى عام 2013 التي تستحق خلالها أقساط قروض حجمها نحو تريليون دولار.

وأوضح الإحصاء زيادة مضطردة هذا العام في عدد البنوك التي ترغب في زيادة حجم إقراضها لتمويل عمليات شراء عقاري كبيرة تزيد في حجمها عن 100 مليون دولار. وزادت هذه النسبة بنحو 8 في المائة إلى 64 في المائة من كل البنوك العاملة في هذا المجال. ويدل هذا على عودة تدريجية للثقة في الأسواق.

وينقسم نشاط البنوك هذا العام بين تمويل العمليات الجديدة وإعادة هيكلة القروض القديمة. ولكن على الرغم من أن سيولة السوق تزداد تدريجيا، فإن شروط التمويل ما زالت صعبة وتتبع معايير متشددة تنص على مشاركة المستثمر في المخاطر وليس تحمل البنوك لكل المخاطر. ولا تزيد نسب التمويل إلى القيمة الإجمالية عن 70 في المائة، وهي نسبة سوف تستمر إلى عام 2011 على الأقل.

وتتوجه البنوك نحو تمويل المشروعات التجارية ومجمعات المكاتب والمشروعات العائلية، ولكنها لا تحبذ في الوقت الحاضر تمويل قطاع الفنادق. وتلجأ بعض البنوك أيضا إلى بيع قروضها بحسومات إلى شركات متخصصة لكي تزيد من سيولة رأسمالها وتتخلص من القروض الرديئة. وتصل قيمة ما تحصل عليه البنوك من قيمة هذه القروض إلى ما بين 70 و90 في المائة من قيمتها الاسمية. وترى مصادر السوق أن هناك تقاربا بين عروض البنوك لبيع أصول غير منتجة وبين طلب شركات متخصصة شراء هذه الأصول، ما يدعم الاعتقاد أن السوق وصلت إلى مرحلة توازن من أجل عودة انطلاق سوق تمويل العقار على قواعد جديدة ربما خلال عام واحد أو عامين.

* البنوك: القروض العقارية التجارية سبب سقوط نصف البنوك! - مدافعةعن نفسها إزاء حالة القطاع العقاري

* في تحليل حول أسباب سقوط 16 بنكا تجاريا أميركيا في العام الماضي اتضح أن القروض العقارية للقطاع التجاري كانت السبب الرئيسي في سقوط نصف هذه البنوك على الأقل. ووقع الضرر الأكبر من عمليات تمويل مشاريع البناء والتنمية الجديدة. ويهدد القطاع العقاري عددا أكبر من البنوك خلال السنوات الخمس المقبلة حيث تتم إعادة هيكلة قروض حجمها 1.4 تريليون دولار، منها 700 مليار دولار تزيد فيها قيمة القروض عن قيمة العقارات والمشاريع التي تمثل أصول الضمان لهذه القروض.

وسوف يكون من الصعب تقدير حجم الإفلاسات التي سوف تنتج في السنوات المقبلة، ولكن في أسوأ الاحتمالات سوف تسفر الأوضاع عن سقوط مئات البنوك الصغيرة والمتوسطة تحت وطأة القروض الرديئة. وتخشى أوساط السوق أن يؤدي سقوط هذه البنوك إلى تعطيل عمليات تمويل المشروعات الصغيرة التي يعتمد عليها الاقتصاد الأميركي في استعادة نشاطه.

والغريب أن معظم القروض التي قدمتها البنوك في حينها كانت قروضا جيدة وفق معايير اقتصادية سليمة. ولكن موجة الكساد العاتية التي عصفت بالاقتصاد العالمي غيرت المعايير وتحولت القروض الجيدة إلى قروض عالية المخاطر، خصوصا بعد انخفاض قيمة العقارات والمشاريع التي تضمن القروض. وكانت معظم القروض الرديئة قد جرت خلال قمة الفقاعة العقارية وأنجزتها البنوك بسرعة، سعيا وراء تحقيق الأرباح. وكانت أسباب الفشل الأخرى عائدة إلى تراجع العوائد المتوقعة من العقارات، بسبب الكساد الاقتصادي، الذي أفرز طلبا منخفضا على مساحات المكاتب وعلى رحلات السياحة إلى الفنادق والمنتجعات، ما نتج عنه تخلف أصحاب هذه المشاريع عن سداد أقساط قروضهم العقارية.

وتعم المتاعب حتى على المستثمرين الحريصين على تنويع مصادر الاستثمار والاعتماد على قواعد تتسم بأنها محافظة من أجل توفير السيولة. فالبنوك أصبحت تطبق معايير جديدة الآن، تتطلب زيادة المساهمة المالية من هؤلاء لكي يستمروا في المحافظة على المزايا النوعية التي يتمتعون بها.

ولكن على الرغم من كل المتاعب، فإن مديري الاستثمار العقاري التجاري يعتقدون أن الوضع أفضل بكثير عما كان عليه قبل عام واحد. والاعتقاد السائد بينهم هو أن الانتعاش في القطاع العقاري سوف يكون بطيئا. ويطالب المستثمرون كلا من الحكومات والبنوك بتطبيق سياسات شفافة والعمل على استقرار السوق بحيث تعاود البنوك نشاطها الإقراضي مرة أخرى.

وتأمل شركات الاستثمار العقاري على جانبي الأطلسي في ترتفع أسعار الفائدة لكبح معدلات التضخم، لأن مثل هذه الخطوة من شأنها أن تصيب أسواق العقار بنكسة خطيرة، وفي ما يتعلق بمستقبل أسعار العقار، يعتقد نصف مديري الشركات أن قيمة العقار سوف ترتفع خلال العام الحالي، بينما تشير نسبة 35 في المائة إلى أن القيم العقارية لن تتحسن، وإن كانت لن تتراجع أيضا، قبل نهاية العام، وهي المرة الأولى منذ عام 2008، التي يتوقع فيها أغلب العاملين في المجال العقاري أن المستقبل لا يحمل المزيد من التدهور.