أسواق الأرجنتين العقارية تتجه إلى «نفض غبار» الأزمات عنها والتحسن خلال 2010

تعتبر ثاني أهم الأسواق في أميركا اللاتينية بعد البرازيل

TT

الأرجنتين من الأسواق العقارية الهامة في أميركا اللاتينية بعد البرازيل، إذ لا يزال معدل سعر المتر المربع فيها ثاني أهم الأسعار في القارة اللاتينية، ويصل إلى نحو 2000 دولار. وهذا المعدل لا يقل كثيرا عن البرازيل التي تترأس القائمة بـ2200 دولار. وهذه الأسواق على تخلفها النسبي - مقارنة بالأسواق الأميركية والأوروبية الغربية من الكثير من النواحي، على رأسها توفر المعلومات الصحيحة وفي وقتها، وأسواق القروض وطبيعتها، وحجم التدخل الحكومي في الأسواق وتطوراتها - فإنها أسواق رئيسية وحيوية تتأثر بما يحصل من تطورات عقارية واقتصادية على الصعيد العالمي. والآن تحاول الأسواق العقارية الأرجنتينية، التي يتركز معظمها في العاصمة بيونيس آيريس، وهي كبرى المدن في البلاد وكبرى المناطق الحضرية في أميركا اللاتينية قاطبة، استعادة عافيتها ونفض غبار الأزمات السابقة التي تعرضت لها خلال العامين الماضيين، وخصوصا الركود الاقتصادي العالمي بعد أزمة الائتمان الدولية منتصف عام 2007، وأزمة انتشار إنفلونزا الطيور التي أدت إلى انكماش القطاع السياحي وبالتالي الطلب على العقار. ويتطلع الكثير من المراقبين هذه الأيام إلى تحسن الاقتصاد هذا العام والأعوام القليلة المقبلة، وتحسن وضع الأسواق العقارية نسبة إلى ما كانت عليه خلال العامين الماضيين. وتشير التقارير الدولية الأخيرة بهذا الصدد إلى أن هناك بوادر للتعافي وأن أسعار العقارات على اختلافها شهدت استقرارا ملحوظا العام الماضي، رغم أن نسبة تراجع عدد الصفقات العقارية في العاصمة وصلت إلى نحو 26 في المائة بين يناير (كانون الثاني) وأكتوبر (تشرين الأول) العام الماضي (2009)، أي معظم أيام السنة.

ولا بد من الإشارة هنا إلى أن الناس تحولوا في معظمهم عن اللجوء إلى القروض العقارية التجارية للقيام بصفقاتهم العقارية أو الاستثمار في الأسواق وشراء المنازل والمحلات التجارية، منذ انهيار الأسواق العقارية عام 2002. ولذا تجري معظم الصفقات حاليا بالنقد أو «الكاش»، وعادة ما يستخدم الناس الدولار الأميركي للتبادل، أو في بعض الحالات اليورو الأوروبي، كعملتين رئيسيتين دوليتين يمكن الركون إليهما.

ولهذا السبب بالذات تعتبر الأسواق العقارية في الأرجنتين بشكل عام محمية ومعزولة عن تقلبات معدلات الفائدة ونتائجها السلبية أحيانا، وقلما تشهد الأسعار تراجعات ضخمة أو ارتفاعات لا يمكن تخيلها، فهي بشكل عام متواضعة النمو والتراجع لأسباب كثيرة، أهمها التعامل بالنقد، والخروج من تحت سيطرة البنوك والمؤسسات المقرضة، ومن تحت رحمة معدلات الفائدة الرسمية والخاصة.

وكانت الأوضاع الاقتصادية في البلاد من نهاية عام 1998 حتى بداية عام 2002 قد شهدت تدهورا وتراجعا كبيرين، حيث وصلت نسبة الانكماش الاقتصادي عام 2002 إلى أكثر من 10.9 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي، بسبب أسعار صرف البيزو أمام الدولار الأميركي، والإنفاق الحكومي الكبير الذي أدى إلى إغراق البلاد في الديون، وبالتالي رفع العجز في الميزانية إلى معدلات سلبية جدا. وبعد إلغاء تسعير البيزو المساوي لسعر الدولار في أسواق الصرف، وأصبح الدولار يساوي ثلاثة بيزوات ونصفا بدلا من بيزو واحد، كما ارتفع معدل التضخم بنسبة لا تقل عن 26 في المائة، مما أدى إلى خسارة عدد كبير من الوظائف وارتفاع معدلات البطالة.

لكن يبدو من التقارير التي صدرت مؤخرا أن النشاط العقاري بشكل عام تحسن كثيرا نهاية العام الماضي بسب بدء تعافي الكثير من الاقتصادات والدول الهامة من الركود العالمي. ويتوقع أن يتواصل هذا التحسن على النشاط وعدد الصفقات، وبالتالي على الأسعار كما يؤمل، وخصوصا أن البلاد تتوقع طفرة في القطاعين السياحي والعقاري مع استضافة الجارة الكبيرة البرازيل لكأس العالم لكرة القدم عام 2014 والألعاب الأولمبية بعدها بعامين (2016). ورغم كل هذه التوقعات الإيجابية والتحسن الاقتصادي الحالي، وكما هو الحال في الكثير من دول العالم، فإنه لا يتوقع أن تشهد أسعار العقارات طفرة جديدة أو تعود إلى أيام عزها، كما حصل بين عامي 2005 و2007، حيث حلقت الأسعار بشكل لم يسبق له مثيل قبل أن تطلق عليها أزمة الائتمان الدولية رصاصة الرحمة.

كما تأتي التوقعات بتحسن الأوضاع على خلفيات التحسن السياسي والأوضاع السياسية والحكومية، التي عادة لا تسمح باستقرار الأسواق الاقتصادية والعقارية منذ سنوات طويلة، وربما منذ الخمسينات من القرن الماضي مع بعض الاستثناءات. وكان الرئيس السابق نيسترو كيشنير وزوج الرئيسة الحالية كرستينا كريشنر، بعد انتخابه عام 2003، قد وعد بتحسين سجل حقوق الإنسان في البلاد، وتحقيق العدالة الاجتماعية، أو بمعنى آخر تضييق الفجوة بين الطبقات المعدمة والطبقات الغنية، والأهم من هذا تخفيض العجز المالي الحكومي ووضع جدول لسداد الديون والتخلص منها، وتحقيق الكثير من الإصلاحات الاقتصادية الهامة، التي من شأنها المساعدة على استعادة الاقتصاد الوطني عافيته. وقد ساهم ذلك قبل رحيله ومجيء زوجته إلى سدة الحكم قبل ثلاث سنوات في استعادة الثقة الدولية بالأسواق الاقتصادية والعقارية في الأرجنتين من جديد، وبث الروح فيها وبالتالي نمو الاقتصاد بشكل لم يسبق له مثيل، وصلت نسبته خلال أربع سنوات إلى أكثر من 8.8 في المائة، مما دفع الكثير من المحللين الاقتصاديين آنذاك إلى وصف الأرجنتين بالبرازيل والأسواق الدولية الصاعدة كما هو حال الهند والصين وربما إندونيسيا وماليزيا وبعض الأسواق التي تشهد ثورات اقتصادية هامة. ولا بد من الذكر هنا أن الأرجنتين كانت قبل الحرب العالمية الثانية من أغنى دول أميركا اللاتينية ولا يزال فيها أعلى ناتج محلي إجمالي للفرد الواحد في القارة أيضا.

وحسب الأرقام التي نشرتها مؤسسة «تقرير الملكية» المعروفة بـ«ريبورت إينمووبيلياريو» (Reporte Inmobiliario) الإسبانية المعروفة بهذا الخصوص، التي تعنى بإحصاءات أسواق العقار الأرجنتينية، فإن التغيير الذي جاء به الرئيس نيسترو آنذاك كان هائلا، فبعد المخاوف من الديون وتراكمها والانكماش والبطالة، انتفضت معظم الأسواق من مخاوفها وسجلت معدلات ممتازة من النمو، خصوصا القطاع العقاري وخصوصا في العاصمة بيونيس آيريس. ففي عام 2005، أي بعد عامين على انتخاب نيسترو، ارتفعت أسعار العقارات بنسبة لا تقل عن 13.5 في المائة، تلاها نسبة مماثلة وإن كانت أقل قليلا العام التالي، أي عام 2006، وبعدها وفي عام 2007 وقبل وصول أزمة الائتمان والركود، ارتفعت أسعار العقارات بنسبة لا تقل عن 16.5 في المائة. وتواصل هذا النمو المرتفع كما يبدو حتى منتصف العام التالي عام 2008، قبل أن تستقر الأمور وتركد. ومع أن الركود الاقتصادي العالمي قد قضى على هذه الطفرة العقارية الهامة والفريدة في السنوات الأخيرة، وكال معدلات النمو الاقتصادي وأدى إلى تراجعها، فإن هذا النمو لا يزال أفضل من غيره من البلدان الصناعية الكبرى العام الماضي، إذ لم يتراجع عن أقل من 2.5 في المائة، وهي نسبة يحسد عليها بلد كالأرجنتين كان يتخبط اقتصاديا بداية الألفية الجديدة، بينما لم تتمكن بعض الدول الكبرى تسجيل معدل نمو أكثر من واحد أو اثنين في المائة، وفي حالة بريطانيا 0.1 في المائة.

وتقول «غلوبال بارابرتي» بخصوص الأسعار في العاصمة بيونيس آيريس - نقلا عن «Guichon Propiedades»، إن معدل سعر المتر المربع الواحد في المناطق الفاخرة والهامة على الصعيد العقاري في المدينة كمنطقة باليرمو الكبيرة والتقليدية والمعروفة، يتراوح حاليا بين 1700 دولار و3000 دولار، أما في قطاع الشقق السكنية الهامة فسعر المتر يتراوح في بعض المناطق بين 2500 دولار و5000 دولار.

وتشير أرقام «تقرير الملكية» نفسها إلى أن عائدات الإيجار في العاصمة سجلت نمو ممتازا بين عامي 1980 و2000، حيث وصلت نسبة النمو والارتفاع إلى أكثر من 11 في المائة، رغم التراجع الذي لحق بذلك. ففي عام 2004 تراجعت العائدات بنسبة لا تقل عن 3.8 في المائة، وفي العام السابق، أي عام التغيير السياسي، بنسبة 3.9 في المائة، وقبل ذلك بنسبة 4 في المائة. لكن هذه الصورة انعكست بعد عام 2004 وبدأ العائدات تستعيد أنفاسها وبدأ المستثمرون في تحقيق المزيد من الأرباح، إذ ارتفع معدل نمو العائدات بنسبة 5.3 في المائة قبل خمس سنوات (2005)، وبنسبة أكبر بقليل عام 2006 وصلت إلى 5.5 في المائة، وبنسبة 5.3 مرة أخرى عام 2007. وجاء هذا الارتفاع مترافقا ومتناغما مع ارتفاع أسعار العقارات السكنية أيضا. وقد سجلت العائدات على الإيجار في بعض مناطق العاصمة في أكتوبر العام الماضي نسبة ممتازة تراوحت بين 6.4 في المائة إلى 7.4 في المائة في قطاع الشقق. أما في قطاع المنازل المستقلة والجيدة فقد تراوحت النسبة بين 7 و9 في المائة، وهي نسبة ممتازة قادرة على إغراء أي مستثمر محلي أو أجنبي.

ومع هذا تشير الأرقام أيضا إلى تراجع كبير في قطاع البناء والمشاريع خلال العام الماضي، وفي نهايته بالتحديد، أو الربع الأخير، كما حصل في الكثير من دول المعمورة بسبب أزمة الائتمان وشح السيولة. وتقول الأرقام إن عدد الوحدات السكنية الجديد التي دخلت الأسواق العقارية في العاصمة بين يناير وأكتوبر العام الماضي كانت 60 ألف وحدة، أي أقل بكثير من نفس الفترة من العام السابق، أي بين يناير حتى أكتوبر عام 2008، حيث وصلت آنذاك إلى نحو 64.5 ألف وحدة. والرقم الذي تحقق في عام 2008 كان أقل أيضا بنسبة لا تقل عن عشرين في المائة عن عام 2007 حيث تعدى الـ82.4 ألف عقار.

وتقول «غلوبال» بهذا الشأن إن عام 2008 كان عاما صعبا، إذ زادت الحكومة من شروط منح التراخيص ومستوياتها وواجهت الكثير من المشاريع مقاومة من السكان المحليين لأسباب مختلفة، وكانت سنة 2007 سنة المشاريع الجديدة والواعدة والكثيرة، حيث ارتفعت أسعار الأراضي وأسعار مواد البناء بنسب محترمة، وازداد عدد المشاريع أو الوحدات السكنية المتوسطة أو الرخيصة الأسعار التي لا تتعدى مائة ألف دولار.

ومع أن البنك الدولي يتوقع أن تسجل الأرجنتين نموا في الناتج المحلي الإجمالي في الأرجنتين بنسبة 1.5 في المائة هذه السنة (2010)، وتواصل النمو للعام المقبل (2011) بنسبة 2.5 في المائة، يتوقع أيضا أن يكون معدل التضخم خمسة في المائة، أي أقل بقليل من العام الماضي حيث وصل إلى 5.5 في المائة.

على أية حال، فإن هناك الكثير من المشككين في التوقعات الجيدة رغم بعض التحسن الملموس اقتصاديا وعقاريا على الأرجنتين، وذلك يعود إلى عدم الثقة في النظام السياسي واستقرار الأوضاع على هذا الصعيد. ويشير المنتقدون والمشككون إلى أن الإنفاق الحكومي قد ارتفع أيام الرئيس نيسترو، مما أدى إلى ارتفاع معدل التضخم، وكانت هذه المعدلات أعلى بكثير مما نشرته الحكومة.