تشيلي.. أكثر أسواق العالم صلابة أمام إعصار أزمة الائتمان الدولية

الأسعار عاودت ارتفاعها في العاصمة سانتياغو بنسبة بلغت 48%

جانب من العاصمة التشيلية سانتياغو
TT

قليلة هي الدول التي لم تتأثر بأزمة الائتمان الدولية والركود الاقتصادي الذي تبعها منذ الربع الأخير من عام 2007 حتى الربع الأخير من العام الماضي (2009) ودول أميركا اللاتينية كانت من هذه الدول. إذ شهدت أسواقها العقارية جمودا وتراجعات عدة لم يكن من الممكن تجنبها. لكن هذه الدول ومنها تشيلي، كما يبدو صمدت أمام العاصفة، واستعادت عافيتها العقارية المتوقعة وبدأت تسجل الأسعار ارتفاعات ملحوظة على الصعيد الوطني العام.

وأشارت أرقام «غلوبال بربارتي» الأخيرة والمأخوذة عن مصادر بعض المؤسسات العقارية المحلية والسماسرة لتعذر الحصول على المعلومات الرسمية الدقيقة وأرقام المؤسسات المالية الخاصة، إلى أن أسعار الشقق السكنية في العاصمة سانتياغو خلال الربع الأخير من العام الماضي ارتفعت بنسبة لا تقل عن 20 في المائة نسبة إلى ما كانت عليه في الربع الأخير من عام 2008، أي من 1400 دولار إلى 1720 دولارا للمتر المربع الواحد. أما في بعض المناطق الأخرى المهمة فقد كانت النسبة مضاعفة وأكثر مما كان يتوقعه السماسرة وخصوصا في فالبارسيو القريبة من العاصمة التي شهدت مؤخرا حفل تتويج الرئيس الجديد سيباستيان بينيرا، إذ ارتفعت أسعار هذه الشقق بنسبة لا تقل عن 48 في المائة عن نفس الفترة، أي من 630 دولارا إلى 943 دولارا للمتربع الواحد. وفي المناطق القريبة من العاصمة وخصوصا المناطق السياحية والساحلية وفي فينا ديل، كانت نسبة الارتفاع أكثر من 34 في المائة.

وكما سبق أن ذكرنا، يأتي هذا الارتفاع في الأسعار بعد فترة من الركود والتراجع خلال العامين الماضيين، إذ إن أسعار العقارات تراجعت وركدت بشكل عام في معظم المناطق باستثناء المناطق الساخنة في العاصمة والمدن الكبرى، وتراجع عدد الصفقات على الأقل بنسبة 40 في المائة وتراجعت تصاريح البناء والنشاط العمراني بالتالي بنسبة لا تقل عن 10 في المائة في المناطق المهمة وأكثر من 40 في المائة في المناطق الجانبية.

تأتي هذه النسب بالطبع على خلفيات سياسية اقتصادية عدة مهمة شهدتها البلاد خلال السنوات الماضية وبالتحديد بعد حكم بينوشيه العسكري بداية التسعينات. وقد ساهمت أو عبدت إصلاحات التحالف الحزبي بقيادة الحزب المسيحي الديمقراطي بعد بينوشيه الاقتصادية المهمة، على الرغم من تركيزها على الأجندة الاجتماعية، الطريق أمام النمو والتطور الاقتصادي في البلاد خلال السنوات الأخيرة، وخصوصا في القطاعات العقارية والسياحية والمالية، فتشيلي تعتبر من أهم أسواق القروض العقارية في أميركا اللاتينية وأكثرها حداثة. وكانت عملية فتح الأسواق وتطويرها وتطوير البنى التحتية منذ ذلك الوقت رافعة للتحسن الاقتصادي والعقاري المتواصل في البلاد. ولا يتوقع أن يكون لتغيير الرئيس الحالي بينيرا بالرئيسة السابقة ميشيل باشيله أي تأثير على انفتاحية الأسواق ومواصلة الإصلاحات المهمة والضرورية لجعل تشيلي واحدة من أهم الدول في أميركا اللاتينية على الصعد الاقتصادية والتقنية والسياحية والعقارية بالطبع، على الرغم من وعوده أيضا بمواصلة تحسين الرعاية الاجتماعية.

ولا يمكن لتشيلي تغيير طريق الإصلاحات بعد الآن وبعد أن دعيت للانضمام إلى منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية الدولية التي تضم ثلاثين دولة من الدول المتقدمة التي تقبل مبادئ الديمقراطية التمثيلية واقتصاد السوق الحرة.

ومن بين هذه الدول بالطبع اليابان والولايات المتحدة وبريطانيا والكثير من الدول الأوروبية المؤسسة وتركيا ونيوزيلاندا وأستراليا وكندا وهنغاريا وغيرها.

وقد ساهمت معظم تلك العوامل حتى الآن وبشكل خاص الإصلاحات الاقتصادية في تحسين معدلات النمو الاقتصادي وتراجع معدلات البطالة وانفتاح الأسواق أكثر على المستثمرين الأجانب وخصوصا من الولايات المتحدة الأميركية وأوروبا وبعض مستثمري أميركا اللاتينية الكبار، وأدت في النهاية إلى توسيع رقعة الطبقة المتوسطة ومعدلات الاستهلاك والتملك العقاري المحلي.

فعلى الرغم من الانكماش في الناتج المحلي الإجمالي الذي شهدته البلاد خلال الركود الذي وصلت نسبته إلى 1.8 في المائة العام الماضي، فإن النمو الاقتصادي قبل ذلك، أي العام الماضي (2008) كان قد وصل إلى 3.5 في المائة تقريبا وهي نسبة مهمة وجادة في أميركا اللاتينية والعالم بشكل عام. وتعتبر من قبل الكثير من المؤسسات المالية نسبة من أكبر النسب في العالم بعد الصين والهند طبعا. وكانت قبل ذلك أيضا وخلال سبع عشرة سنة أي بين عامي 1990 و2007 قد تعدت نسبة الـ5.5 في المائة. والأهم من ذلك أن تشيلي سجلت من عام 2000 فائضا سنويا في الميزانية بنسبة 8.7 في المائة مما حولها من بلد مدين إلى بلد مقرض والأهم من ذلك الانضمام إلى مجموعة الدول الغنية وهي منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية. ويقال إن هذه هي الأسباب التي دفعت المنظمة إلى دعوة تشيلي إلى الانضمام إليها إضافة إلى سجلها الممتاز من سنوات أيضا على صعيد القضاء على الأمية والفقر. ووصلت معدلات التغيير في هذين العامين المهمين للتطورات الاقتصادية والعقارية والسياحية إلى نسب عالية تعدت الـ45 في المائة إيجابا.

ولهذا أيضا ومع الاستقرار السياسي وارتفاع عدد أبناء الطبقتين الغنية والمتوسطة وغناء البلاد بشكل عام، صمد الاقتصاد أيام الركود، وكانت الحكومة قادرة أيام أزمة الائتمان والركود بعدها على التدخل بفعالية ووضع حزمة من التحفيزات الاقتصادية المهمة ورفعت إنفاقها بنسبة 16 في المائة ووصلت نسبة التدخل المالي من الناتج المحلي الإجمالي إلى 2.4 في المائة. وكان هذا التدخل مهما لوقف التراجعين الاقتصادي والعقاري واستعادة النمو.

ولهذا وبعد نفض الغبار عن الركود الاقتصادي والعقاري، يتوقع أن يستعيد الاقتصاد الوطني العام عافيته وأن يستعيد نموه ويتخلى عن انكماش العام الماضي ويسجل على الأقل 4 في المائة صعودا هذا العام والعام المقبل. وكما سبق أن ذكرنا ساهمت الكثير من العوامل الاقتصادية والسياسية التالية للحكم العسكري وانفتاح الأسواق، وكان من هذه التطورات التي أدت أيضا إلى نمو الاقتصاد ونمو القطاع العقاري بالتحديد، وخلق طفرات عقارية هنا وهناك، نمو القطاع السياحي منذ أكثر من عشر سنوات. وعلى الرغم من أن أرقام منظمة السياحة العالمية تشير إلى تراجع في عدد السياح العام الماضي بنسبة 4 في المائة عما كان عليه العام السابق (2008)، فإن الأرقام الحكومية كما تشير «غلوبال» تقول إن عدد السياح ارتفع العام الماضي بنسبة 3 في المائة.

وقد أأدى هذا النمو في القطاع السياحي إلى رفع عدد العقارات الجديدة منذ عام 2000 وخصوصا عقارات الخدمات والاستثمار وغيره، وزاد من نسبة المشاريع المحلية والأجنبية في البلاد، وحسن من أوضاع سوق القروض وأحوال العقارات نفسها، وبدل سوق الإيجار ووسعها أكثر من أي وقت سابق.

فالأسواق العقارية الخاصة بالإيجار، على صغرها الجغرافي والاقتصادي، تنافسية، وتمر بفترة من الازدهار، يتوقع له أن يتواصل مع التغيرات الحاصلة. وقد وصلت نسبة العائدات في بعض مناطق العاصمة سانتياغو العام الماضي إلى 7.5 في المائة تقريبا وهي نسبة كبيرة من شأنها شحذ الأسواق واستقطاب المستثمرين الأجانب. وكانت أكبر بالطبع في العام السابق أي عام 2008 حيث تعدت الـ8 في المائة. لكن هذه النسب تقل أحيانا في المناطق التي يقل فيها الإيجار وتضعف سوقه لأن السكان يرغبون في التملك ويتعاملون مع العقارات على هذا الأساس كما هو حال سكان المناطق الساحلية القريبة والبعيدة عن العاصمة، حيث لم تتعد نسبة العائدات الـ5 في المائة.

ومع التوقعات بارتفاع نمو القطاع السياحي وبالتالي قطاع الإنشاءات والخدمات في السنوات المقبلة، يتوقع أن تواصل أسعار المنازل في العاصمة سانتياغو والمدن الكبرى ارتفاعها مع ارتفاع الطلب. ويتوقع أن يتزايد النشاط السياحي والعقاري مع تزايد اهتمام الدول الأعضاء في منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية وتطوير العلاقات التجارية والمالية والثقافية معها. وحتى إذا لم تدخل منظمة التعاون على الخط على الرغم من أهميتها، فإن تشيلي من أطول دول العالم إذ يصل طولها بين الهادي وجبال الإنديز في الشمال في الجهة الغربية من أميركا اللاتينية نحو 4000 كيلومتر. وتتمتع البلاد بتنوع طبيعي كبير ومواقع أثرية مهمة تجذب السياح من جميع أنحاء العالم. ومن أهم هذه المواقع في الشمال سان بادرو دي أتاكاما الذي يأتي السياح للتعرف على آثار الحضارات القديمة قبل الفترة الكولومبية ويراقبون بركان ليكانكابور ووادي القمر في بوتريه وبحيرة فيلاريكا. ففي عام 2005 وحدها نما القطاع السياحي بنسبة لا تقل عن 13.5 في المائة أي ما قيمتها آنذاك 4.5 مليار دولار من العائدات. وحتى الآن فإن مليوني شخص أو أكثر يزورون تشيلي سنويا معظمهم من أميركا والأرجنتين وبريطانيا وألمانيا والبرازيل وكريا الجنوبية والصين وغيرها.

ولا بد هنا من ذكر أن سوق القروض العقارية تشكل ما نسبته 20 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي حاليا أي بارتفاع بنسبة 8 في المائة عما كانت عليه عام 2000. وبسبب الاستقرارين السياسي والاقتصادي والنمو الاقتصادي بالطبع ارتفع عدد القروض في البلاد خلال خمس سنوات أي من عام 2004 إلى عام 2008 بنسبة لم تشهدها البلاد من قبل وصلت إلى 21 في المائة. وحتى خلال الركود العام الماضي وصلت نسبة الارتفاع إلى 7 في المائة. وصمدت سوق القروض كما يبدو بسبب النظام المصرفي القوي والمتشدد مع مسألة إقراض الأجانب وبالتالي التعرض لهزات الأسواق الدولية التي كان آخرها الركود. كما أن معدل الفائدة لا يزال متدنيا جدا وإلى مستوياته الدنيا ككثير من دول العالم ولا يتعدى الـ0.5 في المائة حتى الآن ولا يتوقع أن يرتفع هذا العام أو العام المقبل. هذا لا يعني بالطبع أن سوق القروض لم تتعرض إلى التراجع في السنوات الماضية وخصوصا عام 2002 وعام 2004 وبين عام 2006 و2007. وعادت وارتفعت نسبة نمو القروض العقارية بداية العام الماضي إلى 5.9 في المائة قبل أن تعود وتتراجع بنسبة 4.5 في المائة نهاية العام أي في الربع الأخير.

مهما يكن، فإن تشيلي شهدت تغيرات عقارية كبيرة قبل التغيير السياسي بعد التسعينات ومنذ أيام تأسيس وزارة الإسكان والتخطيط التي تبنت سياسات مهمة على صعيد توسيع رقعة الملكية وبناء المزيد من المساكن والتركيز على العوائل المتوسطة والفقيرة وخفض الضرائب والأسعار عليها. ولذا لا تزال الوزارة تعتبر ثاني أكبر بنك للإقراض في البلاد. وفي السنوات الأخيرة وبالتحديد منذ أربع سنوات تم بناء ما لا يقل عن 450 ألف عقار سكني جديد تنفيذا لوعد الرئيسة باشيله آنذاك التي كانت تتمتع بشعبية كبيرة. كما تمت مساعدة ربع مليون عائلة لترميم منازلهم وتحسين عقاراتهم مما حرك الأسواق الجانبية والخدماتية وحسن الاقتصاد العام.