بناء المنازل الصغيرة ينتشر في اليابان نظرا لارتفاع أسعار الأراضي وندرتها

الاستفادة من التقدم التكنولوجي في التعامل مع قيود المساحات الصغيرة

بات العيش داخل منازل صغيرة أمرا معتادا، خاصة بالنسبة للأجيال الأصغر سنا من اليابانيين
TT

نجحت اليابان، التي تتسم بمساحة ضئيلة من الأراضي وارتفاع غير عادي في أسعار العقارات، في تحويل مسألة العيش بحرية داخل منزل صغير إلى فن. وتنبغي الإشارة إلى أن لفظ «صغير» في اليابان يشار به إلى المنازل التي تتراوح مساحتها بين 500 و800 قدم مربع، التي غالبا ما تقطنها أسر تضم أطفالا صغارا.

ولا يعد المنزل في اليابان جيد التصميم إلا إذا تعامل مع قضية القيود التي تفرضها المساحة الضئيلة عبر حلول إبداعية ومبتكرة. ويمكن إيعاز ارتفاع أسعار العقارات إلى أن اليابان التي تعد الشمس الصاعدة في الشرق لا تتجاوز مساحتها مساحة ولاية كاليفورنيا، في الوقت الذي يتجاوز فيه عدد سكانها 125 مليون نسمة، ما يكافئ ثلاثة أضعاف ونصف عدد سكان كاليفورنيا! وما زاد الطين بلة أن الكثير من مساحات البلاد تغطيها الجبال والغابات وما إلى غير ذلك.

وعليه، نجد أن فكرة بناء منازل صغيرة كانت حاضرة دوما في اليابان نظرا لارتفاع أسعار الأراضي وندرتها. كما أن الأشخاص الراغبين في العيش داخل المدن يتحتم عليهم التأقلم مع العيش داخل منازل صغيرة.

الملاحظ أن اليابان أبدت دوما ولعها بالأشياء الصغيرة، سواء كانت النباتات الصغيرة المعروفة باسم «بونساي»، أو الموضة الحالية المتمثلة في السيارات شديدة الضآلة ذات المحركات الصغيرة، أو المنازل بالغة الضآلة التي يعادل حجم أرضيتها حجم مرأب سيارات. ومن أجل تلبية الطلب على المنازل الصغيرة، يعمد المهندسون المعماريون اليابانيون إلى تصميم منازل بالغة الصغر بمواقع لا تتجاوز في مساحاتها المساحات المخصصة لانتظار السيارات في الدول الغربية. تعرف هذه المنازل في اليابانية باسم «كيو شو جوتاكو»، وتقام عادة على مساحات لا تتجاوز 30 مترا مربعا. كما تضحي بعض هذه المنازل بجزء من المساحة لإقامة مرأب للسيارة. وبات العيش داخل منازل صغيرة أمرا معتادا، خاصة بالنسبة للأجيال الأصغر سنا من اليابانيين ممن يتسمون بدخول متواضعة ولم تعد لديهم رغبة في خوض رحلة قاسية يوميا عبر القطارات المزدحمة من الضواحي النائية الواقعة خارج طوكيو، مثلما كان يفعل آباؤهم.

للحصول على فكرة عن نظام التسعير، تنبغي الإشارة إلى أنه في المتوسط يسعى أي زوجين عاديين في طوكيو لشراء شقة بمساحة 70 مترا مربعا، بتكلفة تبلغ 45.000.000 ين أو أكثر (ما يتجاوز 456.000 دولارا). وبالنظر إلى هذا الأسعار، فإنه من غير المثير للدهشة انتشار ظاهرة المنازل بالغة الضآلة في مدن مثل طوكيو وكوبي.

في العادة، تعيش الأسرة اليابانية العادية في طوكيو في شقة ثمنها 300.000 دولار تعادل في مساحتها غرفة واحدة من شقة في الولايات المتحدة. وتضم مثل هذه الشقة اليابانية غرفة معيشة ومطبخا يستخدم أيضا كغرفة لتناول الطعام، بجانب غرفتي نوم وحمام منفصل.

على مستوى اليابان، يوجد 2.2 مليون وحدة سكنية عامة. وتملك الكثير من الشركات مباني تضم غرفا للنوم أو شقة مؤلفة من غرفة نوم واحدة أو شققا صغيرة للأسر يمكن للموظفين العيش بها من دون تحمل تكاليف كبيرة.

الملاحظ أن الإسكان الياباني التقليدي لا يفرض استخداما معينا لكل غرفة، بخلاف منطقة مدخل الشقة والمطبخ والحمام، حيث يمكن استغلال أي غرفة كغرفة معيشة أو تناول الطعام أو غرفة مكتب أو نوم. وما يجعل هذا الأمر ممكنا أن جميع قطع الأثاث الضرورية يمكن حملها ونقلها بسهولة. ويتضمن تصميم المنازل اليابانية أبوابا منزلقة، مع مراعاة توفير مساحات للتخزين بمختلف أرجاء المنزل. وبمقدور مالك المنزل فتح الأبواب جميعا ليحصل على غرفة واحدة واسعة أو إغلاق الأبواب لغلق أجزاء من المنزل.

وعادة ما تتضمن الشقق الصغيرة غرفة حمام واحدة صغيرة تتضمن ثلاثة عناصر رئيسة. تتسم غرفة الحمام بأنها مقاومة للمياه وتضم حوضا للاستحمام وماسحة للاغتسال بجانب (وليس داخل) الحوض. وبالتالي، لا يتسخ الماء الموجود بالحوض ولا يختلط بالصابون، مما يجعل من الممكن إعادة استغلاله. وبالفعل، تتضمن الكثير من أجهزة الغسل في اليابان مواسير لشفط المياه من الحوض لاستخدامها في الغسل.

عام 2005، طرحت شركة «ياماها» في الأسواق هيكلا عازلا للصوت على شكل سقيفة بمساحة 27 قدما مربعة، يحمل اسم «غرفتي»، يمكن وضعه داخل المنازل لتوفير بعض من الخصوصية على أصحابه ممن يقطنون منازل مزدحمة.

تعد غالبية المنازل بالغة الضآلة في اليابان سابقة التجهيز، وتدعى «منزل باكو»، وكذلك المنازل الحاوية. من الخارج، يبدو «منزل باكو» في صورة مكعب صغير لا تتجاوز مساحته ثلاثة أمتار مربعة. ويتميز المنزل المعاصر سابق التجهيز بواجهة بيضاء صغيرة خالية من تفاصيل، ويرمي تصميمه إلى ترك أدنى تأثير ممكن فعليا وبيئيا على البيئة المحيطة. ونظرا لأبعاده الصغيرة، لا يستلزم «منزل باكو» بيئة تحتية. ويعتمد هذا المنزل صديق البيئة والقائم بنفسه على مصادر الطاقة الشمسية وطاقة الرياح وإعادة تدوير المياه. أما السطح المتحرك للمنزل فيتمثل في اسطوانات هيدروليكية، تسمح بالنوم تحت السطح أو النجوم من دون الاضطرار لترك «منزل باكو». وتعتمد الإنارة داخل المنزل على المصابيح الثنائية الباعثة للضوء. وعندما تنطفئ الأنوار، تغمر الأنوار الطبيعية المنزل عبر كوة في السقف مؤلفة من لوحين من الزجاج يحبسان الهواء بينهما لمنع حدوث تكاثف. يتألف الجزء الخاص بالنوم من أرجوحة شبكية ولا تخصيص لأي مساحة على الأرضية له، مما يزيد من المساحة المتوافرة داخل المنزل. وتصنع الأرجوحة الشبكية من شبكة استريوسكوبية ثلاثية الأبعاد تحافظ على مرونتها وتتكيف مع حجم وشكل الجسم. يوجد الدش داخل «منزل باكو» داخل جزء من المنزل يمكن نقله ومقاوم للمياه، مع وجود جدران تفصل بين رشات المياه وباقي أرجاء المنزل. ويضم الجزء الخاص بالدش أيضا المرحاض. المثير أن هذا المرحاض المبتكر موجود تحت الأرضية. وعليه، فإنه عندما لا يجري استخدامه، يمكن إخفاؤه واستغلال المساحة لأغراض أخرى. وعندما يحين وقت تناول الطعام، يمكن رفع المائدة باستخدام مقبض بسيط بحيث يدار لزاوية 90 درجة. ويمكن القول إن استغلال المساحات تحت الأرضية يجعل من هذا المنزل عملا تصميميا رائع. وعلاوة على إخفاء المرحاض وطاولة المطبخ، تخفي الأرضية أيضا مساحة إضافية للنوم ومنطقة للتخزين.

يتوافر «منزل باكو» في أربع صور أساسية. تتضمن الصورة الأولى المطبخ والدش وستائر للدش وحماما وأرضية مطلية بالايبوكسي وإضاءة في السقف وذلك بسعر يبلغ 6.300.000 ين. وتضم الصورة الثانية مطبخا وأرضية مطلية بالايبوكسي وإضاءة في السقف بسعر 5.250.000 ين. أما الصورة الثالثة فتشمل أرضية مطلية بالايبوكسي وإضاءة في السقف مقابل 4.725.000 ين. وأخيرا، تضم الصورة الرابعة الهيكل الرئيسي الذي يمكن تعديله لما يتوافق مع احتياجات المرء ومتطلباته، ويصل سعره إلى 4.200.000 ين. ويتمثل تجسيد آخر لفكرة العيش داخل المنازل الصغيرة داخل اليابان في فنادق «الكبسولة». ويتميز «الفندق الكبسولة» بنمط فريد من حيث السكن يستقي إلهامه من السعي لترشيد استهلاك المساحات بأقصى درجة ممكنة، مع توفير المستوى الأكبر من الراحة، الأمر الذي يعكس الطابع الإبداعي للعقل الياباني.

ترجع جذور «الفندق الكبسولة» إلى سبعينات القرن الماضي، عندما تفتق ذهن كيشو كوراكاوا عن فكرة تحويل حاويات الشحن غير المستغلة إلى نمط من أنماط السكن والإقامة. وبالفعل، جرى تعديل الحاويات على نحو طفيف. وبحلول مطلع الثمانينات، ظهرت في اليابان عدة فنادق من هذا الطراز، كان أولها في طوكيو في ضاحية أكاسوكا. وسرعان ما حققت هذه الفنادق نجاحا كبيرا، حيث خدمت احتياجات جيش متنام من رجال الأعمال الذين أصابهم الكل والتعب من كثرة السفر بين مكان العمل ومنازلهم، وهو أمر شائع داخل اليابان.

في البداية، كانت هذه الفنادق شائعة بين رجال الأعمال، ثم سرعان ما بدأت تجتذب أفرادا من مختلف أرجاء البلاد نظرا لانخفاض أسعارها نسبيا، حيث بلغت تكلفة المبيت لليلة الواحدة ما بين 30 و35 دولار. في المقابل، يمكن أن تصل تكلفة المبيت في «إمبريال هوتيل أوساكا» إلى آلاف الدولارات لليلة الواحدة.

تجسد «الفنادق الكبسولة» سعي اليابان الحثيث لتوفير المساحات. وعادة ما تقع هذه الفنادق بالقرب من محطات القطار، وتضم الكثير من الغرف الصغيرة التي تبدو أشبه بأجهزة الغسل أو صناديق بحجم النعوش. في العادة، يتألف «الفندق الكبسولة» من قسمين كبيرين: أولهما مساحة عامة تتضمن مساحة مخصصة للاغتسال، والأخرى مساحة خاصة يجري ترتيب كبسولات النوم بها. أما منطقة النوم الفعلية فعبارة عن وحدة كبسولة مصنوعة من البلاستيك المقوى ومصممة على شكل شبيه بكابينة قائد الطيارة. وتضم الكبسولة جميع الاحتياجات اللازمة من تلفزيون وراديو ومنبه وإضاءة يمكن تعديلها. وتتوافر جميع الأجهزة في متناول المرء ويمكنه التحكم بها مع اتخاذه وضع النوم.

وينتمي نزلاء هذه الفنادق إلى العاملين بمجال النشاط التجاري، ويكدون حتى منتصف الليل، ويفوتهم قطار العودة بعد أن زيارة طوكيو في رحلة عمل أو إجازة، كما يضمون رجالا ونساء وشبابا وكبارا في السن.

وسعيا لترشيد النفقات، يخدم الفندق بأكمله موظف واحد في الحسابات، ولا يمر على الغرف أي عامل لجمع الرسوم أو توزيع المياه. بدلا من ذلك، تضم كل غرفة آلات إلكترونية لجمع الرسوم وكاميرات.

في البداية، كان الأمر مجرد موضة جديدة مؤقتة للنوم إذا فات شخص ما قطاره، أو للسائحين العاجزين عن المبيت في فنادق باهظة التكلفة. الآن، يبدو أن هذه الفنادق تحولت إلى ملاذ لليابانيين الذين فقدوا وظائفهم. على مدار العامين الماضيين، اكتسبت هذه الفنادق شعبية كبيرة مع تردي الاقتصاد بقوة جراء الأزمة المالية العالمية. واضطر الكثيرون ممن فقدوا وظائفهم إلى المكوث في هذه الفنادق. وتتمثل أهم ميزة بهذه الفنادق في رخص سعرها، حيث تصل تكلفتها إلى قرابة 30 دولارا في الليلة. ولا يضم الفندق أبوابا، وإنما شاشا فحسب، ويحصل كل مقيم على ملاءة نظيفة ووسادة.

وعليه يتضح أن فنادق الكبسولة رخيصة ومريحة وآمنة ونظيفة، وبدأت تظهر بالفعل في الكثير من المدن الكبرى في جنوب شرق آسيا وأوروبا، مثل بكين وشنغهاي. وفي ظل الفترة الراهنة التي تشهد ارتفاعا هائلا في أسعار المساكن، ربما تتحول فنادق الكبسولة إلى اختيار مؤقت للبعض. وعلى كل من يزور اليابان خوض هذه التجربة الفريدة مرة على الأقل! إنها أكثر أماكن السكن تفردا في العالم!