إرث عقاري لدكان مساحته 20 مترا مربعا قد يحولك إلى مليونير في كردستان العراق

ارتفاع جنوني في أسعار الأراضي التجارية وحمى التجديد تكتسح الإقليم

TT

من حق المواطن نجاة (م) أن يترحم على والده الذي رحل قبل سنتين تاركا له دكانين لا تتجاوز مساحتاهما عشرين مترا، في أحد الشوارع المزدحمة بمنطقة الإسكان في مدينة أربيل، فالرجل تحول بفضل ميراث والده إلى أحد التجار الأثرياء، يتعامل بالملايين في ظرف سنوات قليلة، حيث يعمل حاليا في تجارة المواد الكهربائية، ويتردد باستمرار على الكثير من الدول الآسيوية، وبات معروفا في فنادقها الفخمة هناك.

ويروي نجاة قصته لـ«الشرق الأوسط»: في منتصف التسعينات عندما اشتد الحصار الدولي وحصار الحكومة العراقية على كردستان فقدنا كل مدخراتنا بسبب التضخم النقدي الهائل، وانعدام فرص التجارة، وكان لوالدي دكانان في منطقة الإسكان، طلبنا منه أن يبيعهما لكي نوفر مصاريف طعامنا، فكان يأبى ذلك بإصرار عنيد، وينصحنا دائما بألا نفرط في أملاكنا العقارية مهما كانت ظروف الحياة.. وقتها لم نفهم ذلك الإصرار العجيب منه، وكيف طاوعه قلبه أن نعيش على الكفاف، في وقت كنا نملك ما نستطيع أن نعيش به شبه مترفين، ولكني الآن فهمت ذلك الدرس البليغ من أبي، ولو جزئيا.. ففي ذلك الوقت جاءنا عرض بشراء الدكانين بمبلغ لا يتجاوز حينذاك عشرة آلاف دينار سويسري (ما كان يعادل نحو 400 دولار)، ولكني قبل سنة ونصف السنة بعت أحد الدكانين بـ120 ألف دولار، وأبقيت الآخر، وعرضته لإيجار مناسب، فدخلت بذلك المبلغ الكبير نسبيا عالم تجارة المواد الكهربائية، التي ازدهرت في السنوات الأخيرة بشكل غير مسبوق، وأصبحت وكيلا وصاحبا لشركة متخصصة في بيع الأجهزة والمواد الكهربائية، والحمد لله، فإن أحوالي ممتازة، وهذا كله من فضل ربي ونصائح أبي.

لا يقتصر ارتفاع أسعار المحلات التجارية في أربيل على شارع الإسكان المشهور بمطاعمه وكازينوهاته التي تظل مفتوحة إلى ساعات الفجر، بل إن ارتفاعا جنونيا حدث لمعظم المحلات التجارية الواقعة على الشوارع الرئيسية الأخرى، خصوصا أن هناك ما يشبه حمى وبائية أصابت معظم أصحاب الأموال في كردستان، الذين بات معظمهم يجدد محله بأبنية وديكورات عصرية حديثة، في حين يتجه الآخرون إلى شراء البيوت المطلة على الشوارع وهدمها لبناء جديد، وفي معظم الأحيان تتحول تلك البيوت إلى فنادق، خصوصا مع ازدهار مواسم السياحة في كردستان.

السيد برهان (ح) كان يملك دارا سكنية تطل على شارع شورش بمساحة 360 مترا، وباعها بـنصف مليون دولار، وتحولت تلك الدار إلى بناية فخمة من خمسة طوابق.

وكثير من أصحاب الدور السكنية المطلة على الشوارع الرئيسية بدأوا بأنفسهم بهدم دورهم وتحويلها إلى بنايات عالية لتأجيرها، بينما تحولوا هم إلى مناطق سكنية أخرى بعيدة نسبيا عن المركز، ومنهم (و.أ)، وهو موظف صحي حصل من الحكومة على دار سكنية بمساحة 200 متر، تطل على الشارع الرئيسي الذي يربط مركز أربيل ببلدة عينكاوة، وكانت مخصصة لضباط الأجهزة الأمنية في عهد صدام حسين، ولكن حكومة الإقليم سجلتها بأسماء شاغليها، فأخلاها، وتشارك مع أحد المستثمرين المحليين في إنشاء بناية من أربعة طوابق عليها، في حين توجه هو إلى حي الحكام لشراء بيت صغير لعائلته إلى حين تتيسر الأحوال، ليتمكن من شراء دار أكبر للعائلة في إحدى المناطق الراقية في المدينة.

ساعد الانفتاح التجاري للإقليم على العالم، وقدوم مئات الشركات بمكاتبها، وكذلك الانتعاش الاقتصادي الكبير في كردستان، في ظل الاستقرار الأمني الملحوظ، على تشجع التجار وأصحاب الأموال على إخراج أموالهم وتوظيفها في مشاريع تجارية وإعمارية، حيث بدأت حملة غير مسبوقة في عمليات بناء العمارات، التي ازدادت وتيرتها يوما بعد يوم، ترافقها عمليات الترميم والتجديد للمحلات التجارية، بحيث إن شابا كرديا قابلنا في محل بيع مواد كهربائية أعرب عن دهشته الكبيرة بتلك الحركة العمرانية المستمرة في أربيل. وقال هذا الشاب الذي يدعى كارزان، إنه عاد قبل شهرين من النرويج، حيث أقام لخمس سنوات ينتظر الحصول على حق الإقامة هناك، ولكنه لم يحصل عليه، فأرغمته عائلته على العودة لأربيل، وأكد لنا أنه انبهر بهذا التقدم السريع في مجال الحركة العمرانية، فقد ضاع ذات يوم بسيارته داخل مدينته، فاتصل بأحد إخوانه لكي يلاقيه ويعيده إلى البيت. وأضاف: «لم أكن أتصور أن تتغير أربيل خلال خمس سنوات بهذا الشكل الغريب».

لا تقتصر الحركة العمرانية على تحديث المحلات التجارية وإنشاء البنايات والعمارات العالية، بل إن هناك انتعاشا كبيرا في حركة بناء الدور السكنية، فمع إطلاق حكومة الإقليم لسلف العقار، وتحسن الأحوال المعيشية لجميع فئات المجتمع، نشطت حركة الإسكان بشكل غير مسبوق، وسجلت أسعار الأراضي السكنية ارتفاعا جنونيا أيضا.

ويقول أحمد حسين، وهو يملك مكتبا للعقارات في أربيل: «أسعار الأراضي السكنية في ارتفاع مستمر، فمع عدم وجود أراض سكنية مناسبة في المناطق الراقية أو القريبة من الشارع الستيني، اتجه الناس إلى شراء الأراضي السكنية في ضواحي المدينة التي تتسع يوما بعد آخر. هذا المكتب الذي تراه الآن كان يقع خارج حدود البلدية في منطقة نائية قبل ثلاث سنوات، ولكن اليوم فإن الكثير من الأحياء السكنية أقيمت خلف هذا المكتب بمسافة بعيدة جدا».

ويروي أحمد حادثة طريفة بالقول: «قبل عدة أيام جاءني أحد أقاربي يطلب مني شراء قطعة أرض سكنية له، في الحي الذي يسمى بحي البلديات، فبحثت واتصلت بعدد من المكاتب الصديقة، فحصلت له على قطعة أرض بمساحة 125 مترا، وطلبت منه أن يعطي العربون للبائع، لكنه رفض وقال سأذهب للبيت، وأبلغ زوجتي فإذا وافقت سأعود لأسلمه المبلغ في المساء، فقلت له: (لا تلمني إذا بيعت تلك القطعة بعد نصف ساعة)، فبدا لي كأنه يسخر مني، وفعلا بعد ساعتين جاءني مع زوجته فاتصلت بالبائع فقال إنه باع الأرض إلى شخص آخر، فلم يجد قريبي هذا سوى شراء قطعة أخرى تبعد عن الأولى بحيين سكنيين، وبسعر أعلى مما حصلت عليه!».

حتى الدور السكنية الواقعة في المحلات والأحياء القديمة لامسها التغيير والتجديد، فمن النادر أن تجد في محلة قديمة بيوتا لم تهدم لتبنى من جديد، هذه الحركة العمرانية جعلت من العصيّ جدا أن يتمكن المواطن من الحصول على عمال البناء اللازمين لبناء البيت، من الحدادين والنجارين و«الأسطوات» والعمال، وحتى عمال الديكورات الداخلية التي أصبحت اليوم موضة تلجأ إليها العوائل، حتى لو كانت متوسطة الدخل.

في غضون ذلك أكد محافظ أربيل، نوزاد هادي، الذي بذل جهودا كبيرة خلال السنوات الأخيرة لتجميل المدينة وتحديث عمرانها، وأنشأ الكثير من «الباركات» الكبيرة والجميلة، ووسع من مساحات الخضرة في المدينة ببناء مئات الحدائق الجديدة داخل الأحياء السكنية، وشق الكثير من طرق المواصلات الحديثة، ووفر الخدمات الأساسية لعشرات الأحياء الجديدة في المدينة، أكد «أن الخطة الاستراتيجية للمحافظة تقضي بتوسيع حدود مدينة أربيل إلى حد مرتفعات تارين وحدود النهر الكبير، فأربيل التي تتمتع بمساحة سهلية منبسطة بإمكانها التوسع إلى حيث تريد، ونحن سنحاول قدر الإمكان أن نجعل أربيل عاصمة مرموقة من حيث العمران والتحديث بما يضاهي عواصم العالم الأخرى، هذا طموحنا وإن شاء الله سنوفق في ذلك.