انتعاش العقارات الريفية في كردستان وسط إقبال كبير على المزارع الخاصة

قرى الإقليم تنهض من جديد

أحد البيوت الريفية في إقليم كردستان العراق («الشرق الأوسط»)
TT

التطور العمراني الذي يشهده إقليم كردستان لا يقتصر على المدن الرئيسية التي أصبحت بناياتها وعماراتها السكنية الشاهقة تعانق السماء، بل لامس هذا التطور القرى الكردستانية التي كان سكانها يعيشون على هامش المجتمع لسنوات طويلة بعد اقتلاعهم من أراضيهم من قبل النظام السابق، وسوقهم إلى مجمعات قسرية بنيت لهم قرب مراكز المدن الكبيرة، فتحولوا بفضل سياسات ذلك النظام من مجتمع إنتاجي إلى مجتمع استهلاكي صرف، حتى فقد الكثيرون من سكان الريف الكردستاني هويتهم الفلاحية، واتجهوا إلى مزاولة الأعمال التجارية أو التعيين في دوائر الدولة، وبذلك فقدت كردستان أحد أهم مقومات نهوضها الاقتصادي وأمنها الغذائي، بسبب الانهيار شبه التام للقطاع الزراعي ووضع قوت الشعب الكردي بيد دول الجوار التي بدأت تسيطر على سوق الاستهلاك المحلي.

والكارثة تتبدى عند المقارنة بين أحوال الريف الكردستاني قبل عقدين أو ثلاثة، والوقت الراهن، فكردستان كانت تشكل سلة الغذاء الأساسية للعراق برمته، وكان الإنتاج المحلي من القمح والشعير لسهل أربيل وحده يكفي لتغطية حاجات العراق وتصدير الفائض منه، بينما أصبحت كردستان اليوم تستورد قمحها من أستراليا، ولبنها من تركيا، وخيارها من سورية، وفاكهتها من إيران.

أخيرا، تنبهت حكومة إقليم كردستان إلى مخاطر هذا التخلف الواضح في القطاع الزراعي الناتج عن الهجرة المخيفة لسكان القرى إلى المدن، وحاولت انتهاج سياسة جديدة تهدف إلى الدفع في اتجاه هجرة معاكسة من المدينة إلى القرية، وعلى الرغم من وضع الكثير من الخطط وإصدار قرارات تحفيزية، لكن لم تنفع كل المغريات والامتيازات التي شرعتها الحكومة في تلك القرارات بإعادة القرويين إلى مناطقهم، لذلك اهتدت الحكومة إلى طريقة أخرى قد تغري البعض من هؤلاء للعودة إلى قراهم، وذلك بإطلاق القروض العقارية لإعانتهم في بناء بيوتهم السكنية في القرى التي هجروها.

ولم يقتصر الأمر بتلك القروض العقارية، كما يقول حيدر مصطفى (مدير عام الاستثمار في كردستان) لـ«الشرق الأوسط»، بل إن «حكومة الإقليم منحت امتيازا إضافيا بصرف منحة مالية بمبلغ 7500 دولار يضاف إلى القرض العقاري، وهذا مبلغ كبير يكفي مجتمعا مع مبلغ السلفة لبناء دار سكنية جيدة تكفي لإيواء عائلة كبيرة»، مشيرا إلى أن «حكومة الإقليم خصصت مبلغا قدره 9 مليارات و200 مليون دينار خلال العام الحالي 2010 لصرف 4 آلاف سلفة عقارية لمواطني القرى».

وقد أوقفت حكومة الإقليم صرف سلف العقار للمشمولين بها في المدن لحين الانتهاء من صرفها لسكان القرى، وذلك بهدف تشجيع القرويين إلى العودة لقراهم في إطار سياستها الداعمة لإنهاض القطاع الزراعي في الإقليم.

وبذلك، بدأت حركة لافتة للإعمار والبناء في الريف الكردستاني وأصبحت مناظر الدور المشيدة في أحضان الجبل وفوق مرتفعات القرى وبأحدث المواصفات والديكورات مألوفة لمن يمر عبر الطرق الواصلة بين مراكز المدن ومناطق كردستان، وهي تؤشر لنهضة عمرانية غير مسبوقة في الأرياف.

ومن المعالم الأخرى لتطور الريف الكردستاني المزارع الخاصة التي تحولت إلى موضة العصر، حيث اعتاد الكثيرون من أغنياء البلد شراء مساحات شاسعة من الأراضي الزراعية التي تحاذي الطرق الرئيسية، أو في القرى القريبة من تلك الطرق، مما ساعد الكثير من سكان القرى المعدمين إلى الاغتناء والثراء.

فمحمد حسين الذي اشترى دونمين من الأراضي في منطقة قريبة من مصيف «كوري» بمبلغ يزيد على 40 ألف دولار، قال لـ«الشرق الأوسط»: «هذه الأرض هي بالأساس زراعية، سأحاول أن أستغلها كبستان للفواكه، وابني فيها بيتا صغيرا بغرض الاصطياف، خاصة أن الفنادق في المصايف خلال الموسم السياحي تكون مزدحمة جدا، وهكذا فإن هذه الأرض تصلح للجمع بين التجارة والزيارة».

وينوي جلال عبد الرحمن (وهو أحد العائدين من أوروبا) شراء قطعة أرض بمساحة 7 دونمات تقع على طريق قرية بحركة بضواحي أربيل والتي تحولت مؤخرا إلى منطقة عمرانية جديدة تضم مكاتب ومقرات الكثير من الشركات التجارية، ويقول: «سأحاول بناء مجمع تجاري على تلك القطعة، إضافة إلى دار سكنية وسأستغل بقية المساحة لزراعة المحصولات الموسمية لأني أريد استغلال كل متر من هذه المساحة التي اشتريتها بـ140 ألف دولار».

هذه الأسعار الخيالية لقطع أراضٍ كانت مهملة إلى حد السنوات القليلة الماضية فتحت آفاقا للغنى أمام سكان القرى القريبة من الطرق الرئيسية الرابطة بين مراكز المحافظات وبقية الأقضية والنواحي، على الرغم من أنه وفق القانون لا يجوز تسجيل الأراضي الزراعية أو بيعها بالباطن، ولكن أصحاب معظم تلك الأراضي يلتفون على القانون ببيع جزء من أراضيهم إلى الآخرين بعقود ثانوية غير موثقة رسميا، وعلى كل حال في ظل التطور الاقتصادي الكبير الذي يشهده الإقليم، أصبح بإمكان حتى سكان القرى أن يغتنوا ويبنوا بيوتهم وفق أحدث طراز وموديل، ولعل ذلك قد يسهم في إنجاح خطط حكومة الإقليم بدفع سكان القرى إلى هجرة معاكسة من المدينة إلى القرية.

ولا يقتصر الأمر على القرى القريبة من الطرق الرئيسية، بل إن هناك إقبالا كبيرا من سكان قرى نائية على بناء دور سياحية وكرفانات بهدف جذب السياح، مع التدفق الهائل للسياح العراقيين في السنتين الأخيرتين على كردستان والذين فاقت أعدادهم هذه السنة عشرات الألوف من الهاربين من الوضع الأمني المتدهور في بغداد وبقية مناطق العراق، وكذلك اللائذين بجبال كردستان ومصايفها من ارتفاع درجات الحرارة بشكل ملحوظ هذه السنة، وهذا ما أضفى على الحركة العمرانية في أرياف كردستان مزيدا من عمليات البناء والتحديث، وشجع الكثير من سكان تلك القرى على العودة لاستثمار أموالهم في القطاع السياحي، وهذا هو الهدف الذي ترمي إليه الحكومة الإقليمية في تقديم شتى التسهيلات والامتيازات لإعادة سكان القرى إلى مناطقهم وإنهاض الريف الكردستاني من جديد.