بريطانيا: القروض العقارية تتجه نحو الانقراض حتى عام 2020

مع احتمال تشديد الشروط الموجودة على المشترين للمرة الأولى

TT

حذر الكثير من الخبراء العقاريين من لجوء سلطة الخدمات المالية (هيئة الرقابة المالية) الـ«إف إس إيه» إلى تشديد الشروط على منح القروض العقارية في بريطانيا. ويقول الخبراء إن نية الهيئة تشديد الشروط على منح القروض العقارية خطوة غير مسؤولة وغير مدروسة وستأتي بنتائج وخيمة على أسواق العقار السكنية في البلاد. وبدلا من الحصول على الاستقرار المبتغى في أسواق المال سيؤدي المزيد من الشروط وعملية تشديدها إلى إغلاق أسواق العقار على نفسها، وأمام الزبائن الجدد.

وتأتي التحذيرات على ضوء المعلومات التي تداولتها وساءل الإعلام البريطانية عن نية الهيئة التي تدرس خياراتها بشأن الموضوع منذ أكثر من سنة ونصف السنة، تحريم القروض العقارية التي تتعدى مدتها الـ25 سنة، وفرض ما يعرف بـ«امتحان القدرة على الشراء» على المشترين الجدد أو الراغبين في دخول الأسواق لأول مرة. أو بكلام آخر، مواصلة تشديد الشروط الموجودة حاليا لمنح القروض العقارية، التي أدت إلى تراجع عدد القروض العقارية إلى أدنى حد لها منذ عشر سنوات في البلاد. وهناك الكثير من الشروط حاليا، وتحاول البنوك والمؤسسات المالية التأكيد على قدرة المشترين على تسديد القروض قبل منحها، كما تطلب مبلغا أوليا ومقدما قبل منح أي قرض، وتتراوح قيمة الدفعة الأولى أحيانا لمنزل عادي في بريطانيا حاليا بين 35 ألفا و40 ألف جنيه إسترليني (60 ألف دولار)، أي ربع سعر العقار العادي بشكل عام، الذي لا يتعدى الـ160 ألف جنيه (240 ألف دولار)، أي ست مرات معدل الأجر العام في البلاد. كما أن هناك شروطا جديدة على البنوك من ناحية تمديد القروض منتهية المفعول، خصوصا لكبار السن والمتقاعدين، ويبدو أن اقتراحات هيئة الخدمات المالية، ستقترح فرض شروط مشددة جديدة على المشترين للمرة الأولى، تتعدى قدرتهم على تحمل القرض وسداده، إلى قدرتهم على تحمل أكثر من ذلك، أي دفع فواتير الخدمات الأخرى وغيره.

وأكدت صحيفة «التايمز»، أن هناك مخاوف حكومية كبيرة من أفكار سلطة الخدمات المالية، التي يفترض أن تسهل وتبسط عملية الحصول على القروض وتطويرها وتحسينها بدلا من تشديدها. كما أن هناك مخاوف من أن تؤدي الاقتراحات المتوقعة إلى تخفيض عدد المشترين للمرة الأولى في البلاد إلى النصف تقريبا. وهذا أمر مهم جدا للأسواق، لأن هذه الشريحة من السكان تمثل نسبة كبيرة عادة من المشترين في الأسواق وعاملا كبيرا من عوامل تحريكها ونموها. ومن شأن تراجع بهذا الحجم في عدد المشترين للمرة الأولى وحرمانهم من القدرة على دخول الأسواق، أن يدفع هذه الأسواق إلى الركود مرة أخرى. وتشير المعلومات المتوافرة حاليا إلى أن من اقتراحات السلطة المالية أيضا، وقف منح القروض للذين يعملون لحسابهم الخاص، أي إلى الذين لا يعملون لدى الشركات وغيره، وهم أيضا شريحة كبيرة ومتنامية من عدد العاملين في بريطانيا خلال السنوات القليلة الماضية.

وتشير هذه المعلومات أيضا إلى عدد المشترين للمرة الأولى وبسبب الإجراءات المشددة الموجودة حاليا، خصوصا مسألة الدفعة الأولى، وتراجع بنسبة خمسة في المائة بين يونيو (حزيران) وسبتمبر (أيلول) عما كان عليه خلال العام الماضي (2009)، وأن البنوك تفرض غرامات بنسبة تتراوح بين 3 في المائة وخمسة في المائة على المشترين للمرة الأولى، ومن لا يستطيعون دفع أكثر من 10 في المائة من قيمة القرض كدفعة أولى.

ويقول مجلس المقرضين العقاريين الـ(CML): إن الشروط الجديدة المقترحة من قبل سلطة الخدمات المالية قد تبعد أكثر من ستين في المائة من المشترين للمرة الأولى عن الأسواق وتحرمهم من دخولها، بناء على الأرقام العقارية المتوافرة بين عامي 2005 و2009. كما يقول المجلس: إنه لو طبقت الاقتراحات والشروط الجديدة المتوقعة، لكان عدد المشترين للمرة الأولى في النصف من هذا العام قد تراجع بنسبة لا تقل عن 45 في المائة. وبناء على ذلك يمكن أن يصل الرقم إلى 85 ألف مقترض فقط، إذ إن عدد المقترضين من المشترين للمرة الأولى لم يتعد هذا العام الـ160 ألفا، مقارنة بنصف المليون مقترض قبل الركود الاقتصادي العالمي وأزمة الائتمان الدولية عام 2007.

كما تشير الأرقام الأخيرة لمجلس المقرضين العقاريين، إلى أن قيمة القروض التي منحتها البنوك هذه السنة تصل إلى 9 مليارات جنيه (14 مليار دولار تقريبا)، وهو مبلغ قليل جدا نسبة إلى ما كان عليه في عام 2008، حيث تعدى الـ41 مليار جنيه إسترليني (65 مليار دولار تقريبا). أما قبل الركود العالمي عام 2006، فقد وصل هذا المبلغ السنوي إلى ما لا يقل عن 110 مليارات جنيه (160 مليار دولار تقريبا).

وتقول سلطة الخدمات المالية أيضا إن عدد المقترضين الذين يواجهون مشكلات مالية ويواجهون صعوبة أيضا في إكمال سداد قروضهم قد وصل إلى 350 ألفا العام الماضي، وأن عدد المصادرات العقارية وصل أيضا إلى 54 ألف حالة، وأنها بناء على ذلك في حاجة إلى تشديد الشروط الموجودة حاليا على منح القروض.

ويتخوف الكثير من السياسيين والخبراء أيضا من أن تؤثر عملية رفع الرسوم الدراسية والجامعية المتوقع بين 3 آلاف و9 آلاف جنيه على الطلاب، في قدرتهم على الحصول على القروض العقارية بعد التخرج. إذ إن الطالب العادي سيكون مديونا بمبلغ يتراوح بين 40 ألفا و80 ألف جنيه عند التخرج، الأمر الذي من شأنه إحجام البنوك عن منحهم القروض لدخول سوق العقار.

وكان تقرير آخر من جامعة كارديف، وضعه بعض الأكاديميين، برئاسة بيتر ميكي، قد أكد أن عدد أو نسبة القروض العقارية التي ستمنحها البنوك والمؤسسات المالية للمشترين للمرة الأولى لن يكون مساويا لما كان عليه عام 2007، أي قبل الركود، حتى عام 2020. أي أن تعافي سوق القروض العقارية وعودتها إلى سابق عهدها أيام الطفرة، لن يحصل قبل تسع سنوات. وهذا يعني أن الجيل الجديد من الطلاب يواجه مستقبلا مظلما في الأسواق العقارية. وقد تراجع عدد المشترين للعقارات تحت سن الخامسة والعشرين بشكل لم يسبق له مثيل أيضا خلال السنوات الثلاث الماضية.

ويقول تقرير كارديف إن أكثر المتضررين من التطورات الجديدة سيكون خريجي الجامعات الذين سيكونون محملين بالديون قبل دخول الأسواق. وما يزيد الطين بلة أن عدد البطالة سيكون أكبر خلال السنوات القليلة المقبلة، وأن الحكومة قلصت من عدد المنازل التي تمنحها المجالس المحلية للمحتاجين ماديا. وهذا يعني أن الجيل الجديد من الشباب سيبقى معتمدا على منازل الأهل، وأن عددا كبيرا منهم سيؤجل عملية إنجاب الأطفال أيضا، مما يبشر بمشكلات اجتماعية مستقبلية لاحقا على حد قول مؤسسة «شلتر» الخيرية المعروفة.

وحسب الأرقام الأخيرة لم تمنح البنوك أكثر من47 ألف قرض عقاري أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، أي أقل بكثير من المعدل المطلوب للتمتع بسوق عقارية صحية ومتعافية، أي بين 70 ألف قرض و80 ألف قرض في الشهر. وعلى الأرجح تؤدي هذه الأرقام الجديدة إلى زيادة الضغوط على الأسواق وتراجع الأسعار أكثر مما تراجعت العام الحالي. وقد تراجعت الأسعار للشهر الخامس على التوالي، أي منذ يونيو هذا العام، كما تراجع عدد الباحثين عن العقارات والراغبين في شرائها بشكل كبير عما كان عليه قبل عامين. ويقول هاورد آرشار، الاقتصادي المعروف في «أي إتش إس غلوبال إنسايت»، في هذا الشأن، إن المعلومات تؤكد ما كانت تقوله المؤسسة، وهو أن الأسعار ستتراجع بنسبة 10 في المائة العام المقبل نسبة إلى ما هي عليه الآن.

أما على صعيد الأسعار، فقد أشارت التقارير، إلى مواصلة تراجعها خلال نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، لكن بوتيرة أبطأ من وتيرة تراجع عام 2008، حسب تقرير بنك «نيشين وايد» الأخير. وأكد مؤشر البنك أن الأسعار تراجعت بنسبة 0.3 في المائة في نوفمبر، أما في أكتوبر فقد كانت النسبة 0.7 في المائة. ومع هذا لا تزال أسعار العقارات أعلى مما كانت عليه في نوفمبر العام الماضي بنسبة لا تقل عن 0.4 في المائة. ويعتقد الخبراء في البنك أن سبب التراجع الأخير في الأسعار هو إحجام الكثير من الناس عن شراء العقارات الكثيرة المعروضة للبيع. لكن البنك يقول أيضا إن الأسعار قد تتوقف عن التراجع خلال الفترة المقبلة بسبب إحجام الكثير من الناس أيضا عن وضع عقاراتهم في الأسواق وعرضها للبيع. ويقول تقرير البنك الأخير: إن «هناك قليلا من الإثباتات بأن تراجع أسعار العقارات سيتسارع خلال الأشهر المقبلة... وأن معظم أسباب ضعف الأسعار منذ الربيع الماضي كان مدفوعا بعودة البائعين إلى الأسواق، بعد فترة طويلة من قلة المعروض للبيع خلال عام 2009 وبداية العام الحالي (2010).

ومع هذا يعتبر البنك أن النسبة الفصلية للأسعار الشهر الماضي كانت أفضل مما كانت عليه العام الماضي. وقد تراجعت أسعار العقارات بين سبتمبر ونوفمبر بنسبة لا تقل عن 1.3 في المائة، أي أفضل بكثير من الأشهر الثلاثة التي سبقت سبتمبر، حيث وصلت إلى أكثر من 1.5 في المائة.

بأي حال، فإن الأسواق العقارية البريطانية لا تزال تمر بمرحلة من التقلبات والتغييرات الكبيرة على الكثير من الأصعدة، سواء كانت على صعيد الأسعار أم القروض أم نسب النمو الشهرية والفصلية والسنوية أم على صعيد الشروط المفروضة على منح القروض ومعجلات الفائدة المتدنية بمعدلات تاريخية حاليا. ومن شأن أي تغيير جوهري سلبي على طبيعة الشروط العقارية التي تمنح للمشترين للمرة الأولى، أن يدفع الأسواق إلى المزيد من التراجع والركود، وربما في النهاية إلى حصول تصحيح على الأسعار بطريقة غير مباشرة. لكن الاقتصاد البريطاني لا يتحمل هذه الأيام وجود ركود عقاري كبير، لأن من شأن هذا إعاقة التعافي والخروج من الركود وإعادة النمو الذي تعول عليه الحكومة إلى خانات سلبية. وهذا يعني أيضا إمكانية العودة إلى الركود الاقتصادي أيضا، وبالتالي فشل الحكومة في إجراءاتها الأخيرة الهادفة إلى إنقاذ الاقتصاد وانتشاله من الشلل والوهن الذي كان عليه نتيجة الديون الضخمة التي تحملتها الحكومة العمالية السابقة. ولهذا يتحدث بعض الخبراء عن التيسير الكمي، كخيار أخير لمنع العودة إلى الركود. ولكن للتيسير الكمي أيضا محاذير ومخاطر أخرى تحاول الحكومة تفاديها، أقلها ارتفاع معدلات التضخم.

ولذا لن تستقر الأسواق أو تتبين صورتها الجديدة قبل نهاية العام المقبل (2011) وبدأت الإجراءات الحكومية التقشفية تأخذ مفعولها على الأرض.