مهندسو أميركا يجسدون الأحلام في العمارة الصينية

ناطحات سحاب ارتفاعها ربع ميل وفيلات باذخة يطورها مليارديرات شنغهاي

شنغهاي تتحول الى احدث مدن العالم بفضل جذب التصميمات الهندسية الرائعة
TT

لقد كانت مهمة غير اعتيادية، بخلاف أي شيء قدمه المعماري بسياتل ستيوارت سيلك في تاريخه المهني الذي استمر لربع قرن: حيث كان عليه تصميم ثلاثة منازل متطورة لعملاء لن يلتقي بهم أبدا. وعلى الرغم من تحديد بعض النقاط المتعلقة بالوظائف والأبعاد، مثل؛ المساحة الكلية وعدد الغرف والحمامات، فإنه لم يكن هناك أي تحديد للنمط أو لميزانية البناء. فيقول سيلك «لقد انتابتني مشاعر مختلطة. كان الشك من بينها، ثم الحماس الذي تزامن مع مسؤولية إنجاز شيء من دون أي توجيهات. لكن الأمر منحني إحساسا بالحرية والحماس الفكري».

وكانت تلك المهمة قد جاءت إليه من شنغهاي، حيث قامت شركة مقاولات صينية بالشروع في إنشاء مجمع من الفيلات باهظة التكلفة - 50 مليون إلى 100 مليون رنمينبي أو ما يعادل 7.5 مليون إلى 15 مليون دولار.

كيف حصل السيد سيلك على تلك المهمة؟ ببساطة شاهد مستشار شركة المقاولات منزلا ببالم سبرينغز بكاليفورنيا كان سيلك قد صممه ومن ثم عرض عليه المشروع. وقبل أن يمر وقت طويل ازداد عدد الفيلات من ثلاث إلى تسع.

وتعد شركة سيلك، التي تتكون من 17 فردا، من بين عدد من الشركات المعمارية الصغيرة إلى المتوسطة في الولايات المتحدة التي شهدت ازدهارا في المشروعات الصينية سواء في تشييد القصور للأفراد من أصحاب الملايين أو في تشييد ناطحات السحاب التي يصل ارتفاعها إلى ربع ميل. وعلى الرغم من أن حفنة من الشركات الكبرى مثل «سكيدمور»، و«أوينغز وميريل» من شيكاغو و«إتش أو كي» من سانت لويس، قد تمكنت من أن تمد أذرعها على المستوى الدولي لعدة أجيال، تمكنت الشركات الصغرى خلال السنوات الست الماضية من الوصول إلى المشروعات الصينية.

وتشعر تلك الشركات بالامتنان لتلك المشروعات، ليس فقط للسبب الظاهر بأن العمل الصيني قد ساعد على ملء الفراغ الذي خلفه الاقتصاد الأميركي المأزوم، بل الأهم من ذلك، كما يقول المعماريون، هو أن شركات المقاولات الصينية، بل وحتى الهيئات الحكومية، قد أثبتت أنهم عملاء أفضل من نظرائهم الأميركيين. فهم يقولون إن الصينيين أكثر طموحا وأكثر ميلا للمغامرة، بل وأكثر استعدادا لإنفاق الأموال لتنفيذ التصميمات، وذلك يحمس المعماريين الذين لديهم نوازع فنية خفية تصارع دائما لكي تجد لها منفذا.

وقد قدم مشروع «فيلا زونغكاي شيشان»، الذي تم الانتهاء منه مؤخرا في الضاحية الأنيقة بشنغهاي، نافذة على الأعمال غير التقليدية للمشروعات المعمارية في الصين؛ حيث يحتل ذلك المشروع الفاخر 45 أكرة، ويتألف من 80 فيلا خاصة. وكان وانغ كيان، مستشار شركة المقاولات «زد كيه» لتنمية العقارات بشنغهاي، قد زار المجمعات السكنية الفاخرة في بالم سبرينغز بلوس أنجليس وتورنتو في 2003، واختار 17 معماريا من أميركا الشمالية بما في ذلك السيد سيلك لتصميم المنازل. وتم تقليص القائمة في النهاية إلى 10 فقط.

فيقول وانغ في حوار بشنغهاي «لا أعرف إذا ما كان المعماريون الصينيين يستطيعون عمل ذلك أم لا. ربما يستطيعون لكنني لم أرغب في القيام بتلك المغامرة. ففي الصين لم تكن هناك مشروعات مثل تلك المشروعات. فسوق بناء الفيلات ما زالت ناشئة في الصين».

وعلى الرغم من أنه كان على سيلك أن يضع تصميما مختلفا لكل من الفيلات التي كان عليه تنفيذها، فإنه لم يكن هناك نموذج محدد للبناء. فلأول مرة في تاريخه المهني، لم يكن معماري يعبر عن ذوق وشخصية عميله، لكنه كان فنانا يقف أمام لوحة بيضاء.. «لقد حفز ذلك جزءا من عقلي لم يكن يستخدم منذ فترة».

وكان سيلك قد زار حدائق سوزهو غرب شنغهاي، فوجد لافتات تشير إلى الأماكن، وكانت تلك اللافتات مكتوبة بلغة شعرية. وذلك هو ما ألهمه فكرة كتابة قصة من عدة سطور يتم تصميم الفيلا وفقا لها. وكانت السطور التي كتبها من أجل أحد المنازل تحمل اسم «المسارات الملتوية» والتي تبدأ بعبارة تأملية «كأجراس من حجر تتدلى في البحيرة. فالجدران المقوسة كالرحلة التي تحدد الفضاء».

ومن الناحية الجمالية، يقول سيلك إن شركة المقاولات «ظلت بعيدة عن الأمر، وإذا كان هناك نوع من التدخل، فكان فقط لمساعدتنا على تحقيق أفكارنا». لكن خلال تنفيذ التصميم ظهرت متطلبات جديدة، وبالتالي كانت هناك حاجة لإعادة التصميم. فعلى سبيل المثال، فوجئ سيلك بأن التقاليد الصينية توجب عدم وضع الباب الرئيسي عند مقدمة السلالم خشية أن تهرب الثروة وحسن الحظ وتخرج من الباب.

لكن في النهاية «فإن العمل في تلك الحكايات قد تحول إلى نصر حقيقي، فهي فرصة لا نحصل عليها في المشروعات التي نعمل عليها عادة».

ومن جهة أخرى، ذهب مشروع لبناء خمس فيلات إلى المعماري ميريل إيلام، بشركة «ماك سكوغين»، وهي الشركة الصغيرة المعروفة بعملها المتطور والمنفتح. فيقول ميريل إيلام إن المشروعات الصينية تمثل تحولا راديكاليا. فالشركة لم تبن أبدا منزلا يمكن الانتهاء منه دون مالك محدد سلفا، ولم يكن لديها أبدا عميل لا يعبر عن تفضيلاته الجمالية.

ويضيف إيلام «يجب أن نفكر في التصميمات بطريقة عالمية. فمن الجيد أن تكون لدينا حديقة صغيرة إلى جانب غرفة الطعام.. أجل! فالبشر لديهم غرائز تجاه أشياء محددة - المناظر، الضوء، الخصوصية. ويجب أن نطبق تلك المفاهيم كما لو أننا سنعيش في تلك البيوت بأنفسنا. فهم لم يعطونا أي إرشادات».

وبعدما شرع الأميركيون في العمل على مشروعات صينية، كان عليهم التكيف مع مفاهيم جديدة في العلاقة بين المعماري والعميل، في إطار المزيج بين البناء الصبور للعلاقات وصناعة القرارات السريعة واللحظات الشاعرية التي يقولون إنها غير مألوفة بالنسبة للصفقات التجارية الأميركية.

ومن جهته، يقول كريس ماكفوي، أحد كبار المشاركين في «ستيفن هول» المعمارية بنيويورك، إن شركة المقاولات في بكين قد منحت الشركة ثلاثة أشهر لتطوير مفهوم لمشروع إسكان فاخر يحل محل مصنع «ماو – إيرا» في قلب المدينة. وقد بثت الشركة في المشروع أفكار السيد هول التي كانت تجيش في صدره منذ زمن بعيد حول الحضر واستخدام الكهرباء الحرارية وإصلاح كل المفاهيم التي لم تكن تعجبه في الأبنية فقيرة الخيال التي تم تشييدها في المدن الصينية على الطريقة السوفياتية.

فيقول ماكفوي «لقد اعتقدنا أنهم سيقولون: (أنتم مجانين، انسوا الأمر)، وأنهم سوف يذهبون بعيدا. وقد عرضنا المشروع على نحو 20 شخصا، وعندما انتهينا نظروا جميعا لرئيسهم لكي يتحدث أولا. وقد قال: (الجميع يستطيع تشييد الأبنية، لكن القليلين فقط هم من يستطيعون نظم الشعر)».

وقد تم بناء المشروع وبناء جسور من الزجاج تربط بين الأبراج وكأنها أحياء في السماء. بل إنه أدى إلى المقر المتطور لـ«تشاينا فانك»، وهي شركة البناء العملاقة التي يقع مقرها في شينزن جنوب الصين. وكان الهيكل بحجم مبنى الإمباير ستيت على المستوى الأفقي، ويرتفع خمسة طوابق عن الأرض لتوفير مساحة لمرأب عام تحته.

كما صممت الشركة أيضا مشروعا أطلقت عليه «سلايسيد بوروسيتي بلوك» ما زال تحت الإنشاء في شنغدو في وسط الصين، وتم تصميم ممرات غير منتظمة في المباني لخلق ممرات لضوء الشمس. فيقول ماكفوي «من المستحيل أن تسمح لنا شركة مقاولات في الولايات المتحدة بعمل ذلك»، مضيفا أن العقلية الأميركية تميل إلى أنه «إذا لم يكن ذلك قد تم تنفيذه من قبل، فمن الأفضل عدم القيام به. فالأمر يتعلق بالمخاطرة، المخاطرة، المخاطرة.. ويتمتع الصينيون بقدر من عدم الخوف من بناء الأشياء». ويقول إنه ربما يكون هناك ما هو أكثر من مجرد الروح الباسلة.. «هناك بعد آخر لذلك. فهناك تقدير للأفكار غير المادية، الصلة بالتاريخ والثقافة خاصة المعنى. فهم يبحثون عن الحلول لكن هناك أيضا بعدا ميتافيزيقيا».

وقد اكتشف ليس والاش، المعماري بتاكسون بأريزونا، أنه نادرا ما لوحظ ذلك في الولايات المتحدة. فقد صممت شركته التي تتكون من 12 شخصا «لاين آند سبيس» مجمعا من 40 قصرا على مقربة من هونغ كونغ. وكانت المهمة الأساسية مخصصة لبناء «ناد» للأسر الأربعين التي سوف تقطن المنازل.

فيقول والاش «لقد أخبرتهم أن هؤلاء الناس يمكن أن يذهبوا إلى أي ناد في العالم. فلماذا لا نفعل لهم شيئا مختلفا تماما؟». وقد ابتكر مفهوم إنشاء منتجع على قمة التل يلجأ إليه الفنانون للعمل، وتصبح أعمالهم جزءا من معرض تمتلكه المجموعة هناك. وأضاف والاش «فكروا في الأمر قليلا ثم قالوا فلنفعل ذلك».

وقد اكتشفت شركة «غوتش بارتنرز» في شيكاغو، وهي الشركة التي يعمل بها 85 موظفا والتي تقع نصف مشروعاتها حاليا في الصين، أن العملاء الصينيين يحترمون قرارات المعماريين بشأن استخدام الخامات. فيقول رئيس الشركة جيمس غوتش «إنهم لا يضعون ميزانية للبناء بنفس الطريقة التي نفعل بها ذلك. فلم يحدث أبدا أن تعطل أحد مشروعاتنا أو توقف نظرا للميزانية».

ويقدر المعماريون مثل هؤلاء العملاء الحاسمين والكرماء. فتقوم هيلر مانوس، وهي الشركة التي يعمل بها 25 موظفا، في سان فرانسيسكو حاليا بثلثي أعمالها في الصين، كما أن هناك نحو عشرة مشروعات حاليا في التخطيط. فيقول جيفري هيلر، أحد الشركاء بها «لديهم سياسات منطقية مكنتهم من تنفيذ الأشياء».

ولدى كلارك مانوس، شريك هيلر ورئيس المعهد الأميركي للمعماريين، نظرية حول انسيابية العملية الصينية «تتكون المؤسسة السياسية الأميركية في معظمها من المحامين وغيرهم من المشاركين في المشهد السياسي. لكن كبار الموظفين في الصين من المهندسين؛ وبالتالي فإنهم عندما يرون مشكلة يخصصون المال ويوجهون جهودهم للحل».

وبالطبع يكون لتلك الفعالية في بعض الأحيان ثمن، فالنظام الحاسم والفوقي يعني أن المشروعات يتم بناؤها سواء كان الناس الذين يسكنون في الأحياء المجاورة يرغبون فيها أم لا. وكما لاحظ ماكفوي، فإن البناء الحديث قد محا بالفعل الكثير من الأبنية المعمارية التاريخية للصين، مثل الأزقة التي كانت تتميز بها الساحات في بكين. وهو يقول إن شركته «لديها هواجس جدية» حول قبول المهمة التي يمكنها أن تدمر أبنية ذات قيمة تاريخية.

وبالنسبة لبعض الشركات الأميركية، فإن جهود التسويق في الصين لا تزيد عن إجراء بعض المكالمات الهاتفية. فقد فاز جيم أولسون، الشريك في «أولسون كونديغ» بسياتل، في مهمة صينية بعدما قضى رجل أعمال صيني وزوجته عاما كاملا وهم يبحثان في الكتب والمجلات عن المنزل الذي يرغبان فيه. وعندما قارنا الملاحظات، كان منزل من تصميم أولسون في سان فرانسيسكو على قمة اختيارهما. وبالتالي حصلت الشركة على تكليف بتصميم فيلا تقع على 14 ألف قدم مربع.. وبعد ذلك يتصل بك أحد الجيران أو وكيل أحدهم. فيقول أولسون إن الرجل الذي يمتلك منزلا بالجوار قام بإجراء الاتصالات لاستكشاف الوضع. ويضيف «تلك هي الطريقة التي يجرون بها الأمور. فشخص آخر يتصل بك أولا نيابة عن العميل المحتمل لكي يتحقق من أنك لن ترفض».

إن البناء الصبور للعلاقات يقع في قلب أي خطط تسويق طويلة المدى في الصين. وكان هيلر يسافر إلى الصين ست مرات في العام منذ 2004، وقد أنشأ قدرا كبيرا من أعمال شركته بالاعتماد على العلاقة مع شخص واحد في معهد التصميم الصيني. فيقول «إنه عالم تحركه العلاقات. فيجب أن تتناول الغداء مع هذا والعشاء مع ذاك».

وقد أسس غوتش بارتنرز، على غرار هيلر مانوس وستيفن هول، مكتبا دائما في الصين، ويعمل جيمس زينغ، الشريك الشاب المولود بشنغهاي، كمدير لمكتب غوتش في العمليات الآسيوية. ويقول إنه قضى 60% من وقته في الصين يحاول تكوين العلاقات. ومن خلال المزيد من الشركات الأميركية العاملة في الصين، تزايدت المنافسة، وذلك وفقا لما قاله خلال حوار أجراه من مكتبه في شيكاغو.. «لكن الأخبار الجيدة هي أنه من السهل في الثقافة الصينية أن تتصل بأحد الأشخاص وتخبره أنك ترغب في لقائه، لكنك لا تستطيع عمل ذلك دائما في الولايات المتحدة».

وفي تلك المرحلة، لا يبدو التعصب، إحدى القوى المؤثرة في الثقافة الصينية، مؤثرا على اختيار المعماريين. فيقول وانغ، صاحب شركة المقاولات الصينية، إنه يريد الحصول على المعماريين الأفضل لتشييد الفيلات.. «فالأمر لا يتعلق بمن صمم الفيلا، لكنه يتعلق بالناتج. فالأمر يتعلق بأن المعماري قد صمم بناء أنيقا يمكنه أن يصبح مميزا».

ويقول زينغ إن هناك عجزا في المعماريين الصينيين الذين لديهم المؤهلات لتنفيذ مشروعات تجارية كبرى. ويقول: «أعتقد أن ما يفتقد إليه معظمهم ليس الأفكار النظرية، لكن الخبرة والقدرة على تحويل التصميمات إلى واقع».

ويقول إنه شعر ببعض الغيرة بين المعماريين الصينيين الموهوبين، ومع ذلك «أعتقد أن معظمهم يتفهم دور المعماريين الأميركيين ويحترمه».

لقد كانت «غوتش» ناجحة للغاية في الصين – حيث لديها 25 مشروعا من متوسط إلى كبير ومشروع لتشييد برج يصل ارتفاعه إلى 1440 قدما بمدينة تيانجين يعملون على تصميمه حاليا - حتى إن الشركة أصبحت تنتقي عملاءها. فليس لدى جميع شركات المقاولات الخبرة الكافية لتشييد المشروعات الكبرى، وفقا لما قاله زينغ. وأضاف «إنك ترغب في تجنب العملاء الذين لا يعرفون أي شيء حول البناء. فهم لن يحترموك. وسوف يرغبون في التراجع وتغيير الأشياء خلال الطريق. وهو ما يبدو أمرا فظيعا ومماثلا لشكاوى المعماريين من العملاء الأميركيين».

* خدمة «نيويورك تايمز»