إلى أين يتجه قطاع العقارات البريطاني؟

وسط تناقض التكهنات وتوقعات بتراجعه بنسبة 20%

جانب من العاصمة البريطانية لندن (تصوير: حاتم عويضة)
TT

بدأ الانقسام الكبير في أسواق العقار البريطانية يتعزز هذا العام، بين المناطق الهامة والفاخرة والرئيسية والمناطق البعيدة عن العاصمة والمراكز التجارية المعروفة ومراكز المواصلات. أضف إلى ذلك الانقسام التقليدي الحاد والتاريخي أيضا بين المناطق الجنوبية الشرقية والعاصمة لندن في إنجلترا والمناطق الشمالية واسكتلندا. وقد جاءت في كثير من التقارير الأخيرة في العاصمة، وخصوصا تقارير مؤسسة «رايت موف» المعروفة، وبنكي هاليفاكس ونايشن وايد، أن التشريعات العقارية الأخيرة التي تناسب الأغنياء خصوصا على صعيد القروض والمكافآت المالية التي يتلقاها العاملون في القطاعات المالية (المحامون - شركات الإدارة - صناديق التحوط والاستثمار - العاملون في المصارف - العاملون في أسواق المال والبورصات)، ساهمت في رفع عدد العقارات المعروضة للبيع في العاصمة لندن بنسبة لا تقل عن واحد وعشرين في المائة، مقارنة بما كانت عليه هذه النسبة العام الماضي أي عام (2010) . كما أن هذه التغيرات في عالم القروض وشروطها، ساهمت أيضا برفع سعر العرض الذي يطلبه أصحاب العقارات الشهر الماضي بنسبة لا تقل عن 4 في المائة وهي نسبة كبيرة وهامة في ظل الركود الذي تعيشه كثير من القطاعات العقارية البريطانية منذ أكثر من سنتين. وفي هذا الوقت تواصل التراجع على أسعار العقارات وعدد القروض العقارية في كثير من المناطق. وقد ساهم في التطورات الأخيرة بالطبع حجم المكافآت الناتجة عن حجم الأرباح الكبيرة والهامة التي أعلنت عنها الشركات في فبراير (شباط) هذا العام، على عكس العام الماضي الذي شهد ردة فعل سلبية على هذه المكافآت والبنوك التي انهارت واحتاجت إلى الحكومات لإنقاذها ومن أموال دافعي الضرائب بالتحديد. وحسب «رايت موف»، فإن معدل سعر العقار الفاخر أو السعر الذي يطالب به أصحاب العقارات قد وصل هذا الشهر إلى 430.680 ألف جنيه (660 ألف دولار تقريبا).

وارتفع كما يبدو أيضا سعر العرض على العقارات السكنية العادية عن نفس الفترة هذا الشهر نسبة إلى ما كان عليه العام الماضي بنسبة لا تقل عن 3 في المائة. وعلى هذا الأساس يكون معدل سعر العقارات قد وصل إلى 230 ألف جنيه (340 ألف دولار تقريبا)، ولكن هذه الزيادة لم تكن بعيدة عما حصل العام الماضي. وقد نزل إلى الأسواق العام الماضي أكثر من 1.3 مليون عقار، لكن لم تمنح البنوك والمؤسسات المالية أكثر من 530 ألف قرض عقاري، ويتوقع أن تكون الأرقام هذا العام مشابهة جدا. وفيما توقع بنكا هاليفاكس ونايشن وايد أن تتراجع الأسعار بشكل عام العام الحالي بنسبة تتراوح بين 3 و8 في المائة، تقول مؤسسة «كابيتال إيكونومكس» إن الأسعار قد تتراجع فعليا بنسبة لا تقل عن 20 في المائة، عطفا على التطورات السلبية الحاصلة على معدلات الأجور التي تراجعت هذا العام لتصل إلى ما كانت عليه عام 2005.

ويوافق الكثير من المساحين وأصحاب المكاتب العقارية في إنجلترا، على أن الأسعار الحالية ليست إلا تعبيرا عن رغبات أصحاب العقارات وليست انعكاسا للوضع العقاري هذا العام، إذ إن هناك الكثير من العقارات المعروضة للبيع، أي أكثر من الطلب. لكن العقارات الفاخرة والهامة تشكل استثناء للقاعدة كما هي العادة، ولا يتوقع لأسعارها أن تتراجع بالمرة بسبب قلة المتوفر منها في الأسواق البريطانية وشدة الطلب عليها من المستثمرين في الداخل والمستثمرين الأجانب والأغنياء القادمين من الأسواق الناشئة والناضجة كالصين والهند وروسيا والولايات المتحدة وغيرها. وفضلا عن هذا لا يتوقع الخبراء أن تخفف البنوك والمؤسسات المالية شروطها لمنح القروض العقارية هذه السنة أيضا، ولا تزال هذه الشروط مشددة وتؤدي إلى تراجع أعداد المشترين والداخلين الجدد إلى الأسواق وبمعدلات كبيرة، ما من شأنه أن يزيد ويراكم عدد العقارات المتوفرة في الأسواق وتراجع الأسعار بشكل ملحوظ وبنسب أكبر مما كان يتوقع لها العام الماضي.

وتشير مؤسسة «رايت موف»، إلى أن الكثير من المستثمرين يحاولون استغلال الفرصة والوضع عبر شراء ما يمكن شراؤه من العقارات بأسعار رخيصة، وأنه رغم تحسن عدد العقارات المتوفرة في الأسواق نسبة إلى ما كان عليه الوضع العام الماضي، فإن العدد بشكل عام وعلى المستوى الوطني لا يزال ضعيفا وقليلا بالمعنى التاريخي في العاصمة لندن، مما أدى إلى ارتفاع الأسعار في الكثير من مناطق العاصمة وإبقائها راكدة في المناطق الأخرى.

كما أكدت «رايت موف» في تقريرها الأخير أيضا ارتفاع عدد العقارات المعروضة للبيع في العاصمة لندن بنسبة لا تقل عن اثنين وعشرين في المائة في العاصمة لندن خلال العام الحالي، فيما سيبقى عدد هذه العقارات على حاله في بقية المناطق. وكانت مشكلة النقص في العقارات المبنية حديثا أو العقارات الجديدة جزءا من المشكلة العقارية العامة في بريطانيا وانجلترا بشكل خاص منذ سنوات طويلة. وساهم ذلك دائما في دعم الأسعار وإبقاء التضخم على حاله، وإعاقة عمليات التصحيح التي يفترض أن تحصل من وقت إلى آخر. وفعلا تؤكد الأرقام الأخيرة أن عدد المنازل الجديدة التي تم بناؤها في انجلترا وصل إلى أدنى معدل له منذ سنوات طويلة وهو حاليا أقل بنسبة لا تقل عن 13 في المائة عما كان عليه قبل عامين. والأسوأ من هذا أيضا أن عدد المنازل أو العقارات الحديثة والمبنية جديدا هذا العام وصل إلى حده الأدنى منذ نهاية العشرينات من القرن الماضي ولم يتعد العدد العام الماضي حسب الإحصاءات الحكومية 102 ألف عقار جديد.

وتقول هيئة البنائين البريطانية (إتش بي إف) الرسمية في هذا الإطار إن هذا العدد أقل بكثير من المعدل السنوي المطلوب من العقارات الجديدة الذي يفترض أن يكون 232 ألف عقار منذ الآن حتى عام 2030. وتضيف الهيئة أنه لم تتم الموافقة خلال الأشهر الثلاثة الماضية إلا لبناء 33 ألف عقار جديد، أي أقل بنسبة 10 في المائة عن الأشهر الثلاثة السابقة أي في الربع الأخير من عام 2010، وأقل بنسبة 22 في المائة عن الفترة نفسها بداية العام الماضي. وبالعودة للأسعار، تؤكد كثير من المؤسسات العقارية والمالية المعنية أنه لا بد من حصول عملية تصحيح على الأسعار، وتكثر التوقعات بأن تتراجع الأسعار بحجم التضخم الحاصل عليها وهو بنسبة 20 في المائة خلال العامين المقبلين أي حتى نهاية عام 2012. ويعزز هذه التوقعات، أن معدل البطالة سيواصل ارتفاعه خلال تلك الفترة التي سيتواصل فيها تنفيذ خطط الحكومة البريطانية بشأن تخفيض العجز المالي العام. أضف إلى ذلك أن معدل الفائدة العام سيرتفع في المستقبل القريب من نصف في المائة إلى 1 في المائة وسيواصل ارتفاعه بعد ذلك لكبح جماح التضخم الاقتصادي العام. والبعض يتوقع أن يكون التراجع على الأسعار أكبر من ذلك وأن يصل إلى 30 في المائة، ومن شأن ارتفاع معدل الفائدة العام إلى التعجيل بهذا التراجع وتثبيته.

بالطبع هذه التوقعات المتشائمة يقابلها حذر كبير، وآراء مخالفة بسبب غموض الصورة على الأوضاع الاقتصادية العامة، ومن الخبراء من يقول إن بالإمكان أن لا يحصل ذلك، وأن تواصل الأسعار ركودها وأن تبقى على ما هي عليه لسنوات طويلة، وخصوصا إذا ما تحسنت الأجور مع الوقت أو في المستقبل.

كما ذكرت بعض التقارير، أن عدد المصادرات العقارية، لم يتراجع بل واصل ارتفاعه بسبب بقاء الكثير من الحالات داخل المحاكم، وأن كثيرا من المصارف والمؤسسات المالية تحاول تسوية المصادرات ومعالجتها خارج إطار مجلس المقرضين العقاريين. وكان تقرير مجلس المقرضين العقاريين قد قال إن عدد المصادرات العام الماضي قد تراجع بنسبة 24 في المائة عما كان عليه عام 2009 ولم يتعد 36 ألف حالة. وتؤكد التقارير في هذا الإطار أن ثلاثة من كل خمس حالات مصادرة تتم معالجتها خارج إطار المجلس مما يجعل من الأرقام مغالطة ومخالفة لأرض الواقع.

وكان عدد المصادرات قد بلغ سبعة وأربعين حالة عام 2009 وهو أقل عدد من المصادرات منذ عام 2007. بينما لم يتعد عدد الحالات أكثر من ثمانية وعشرين ألف حالة في الأرباع الثلاثة الأولى العام الماضي. وكانت المؤسسات المعنية قد توقعت أن يصل عدد المصادرات العقارية العام الماضي إلى أكثر من ثلاثة وخمسين ألف حالة. كما توقع أن يعاني أكثر من مائة وخمسة وسبعين ألفا من المقترضين العام الماضي من مشكلات في تسديد قروضهم. ويتوقع مجلس المقرضين العقاريين أن يصل عدد المصادرات هذا العام إلى أكثر من أربعين ألف حالة.

ولا تزال شروط الإقراض العقاري مشددة حتى الآن وستبقى على حالها هذا العام أيضا، في ظل الديون الكبيرة التي تترتب على البنوك والمصارف التي أنقذتها الحكومة وتبلغ خمسمائة مليار جنيه إسترليني رغم محاولات الحكومة اليائسة بتخفيف هذه الشروط لتحريك الأسواق وتمكين المشترين للمرة الأولى من دخول الأسواق.

وحتى لو تم تخفيف الشروط خلال الفترة المقبلة، فإن عدد القروض لن يعود إلى ما كان عليه أيام الطفرة العقارية التي سبقت أزمة الائتمان عام 2007. مهما يكن فإن الأسواق وأوضاعها لا تزال على حالها كما كانت العام الماضي، ولا يوقع لها التحسن قريبا في ظل المخاوف من ارتفاع معدل التضخم وبالتالي معدل الفائدة العام ومعدلات الفائدة على القروض ومعدل البطالة على المستوى الوطني. لكن هناك الكثير من المتفائلين الذين يعتقدون أن من شأن الألعاب الأولمبية العام المقبل في العاصمة لندن تنشيط الأسواق والقطاعات بشكل عام سواء كانت فاخرة أم عادية، إذ يتوقع أن يرتفع الطلب الخارجي على العقارات وخصوصا في العاصمة وتخفيف حدة الركود.