عودة حذرة للطلب على أسواق العقار العالمية

أفضل المواقع في آسيا وأميركا اللاتينية

TT

بدأت ملامح عودة الاستثمار الدولي إلى أسواق العقار للمرة الأولى منذ انهيار عام 2008، ولكن مع فوارق كبيرة بين إنجاز الأسواق المختلفة. وأهم معالم هذه العودة شعور التفاؤل بأن أسوأ مراحل الانهيار قد انتهت، وأن هناك إمكانيات لتحقيق أرباح من أصول عقارية بعدما تسبب الانهيار في فقدان نصف القيمة العقارية في بعض الأسواق.

وما زال بعض الغموض يحيط بأفضل مواقع الاستثمار ودرجات المخاطر السائدة فيها، ويعتمد المستثمرون لغة الحذر حتى الآن ويعملون تحت شعار «الأمان أولا». وهناك تنوع كبير بين الأسواق الدولية يشبه تماما التنوع بين معدلات النمو الاقتصادي بين الدول المختلفة. ويتوقع معظم الباحثين أن تكون أقوى معدلات النمو والعوائد في الأسواق الآسيوية ودول أميركا اللاتينية. ويشكو بعض المستثمرين من أن الطلب العقاري استنفد معظم الصفقات الجيدة في هذه الأسواق ولم يبق فيها سوى عروض غير مغرية.

ولكن إلى جانب المواقع الساخنة هناك أيضا بعض الدول التي تعاني من مشكلات هيكلية وتراكم ديون وممارسات عقارية خاطئة في الماضي انعكست سلبا على اقتصادها وأدت إلى تراجع أسواقها بنسب كبيرة. ويقول المعهد الملكي البريطاني لمهندسي العقار إن توقعات الإيجارات التي هي أكبر مؤشر على قيمة النمو الاستثماري العقاري ما زالت هي الأعلى في هونغ كونغ وسنغافورة وبولندا والبرازيل. ويتوقع المعهد المزيد من التراجع في كل من إسبانيا واليونان وآيرلندا واليابان.

أما السوق الأميركية التي كانت من أكبر الأسواق معاناة أثناء فترة الأزمة، فقد ظهرت فيها مؤشرات تحسن بزيادة في معدل إنجاز الصفقات وفي الطلب العقاري بوجه عام، وإن كان معدل الإيجارات لم يتحسن بعد. وأشار سايمون روبنسون كبير الاقتصاديين في المعهد الملكي إلى أن النمو القوي حاليا في آسيا وأميركا اللاتينية وبعض أنحاء شرق أوروبا يدعم النمو القوي في الوقت الحاضر في أسواق العقار الدولية.

ووفقا لأبحاث شركة «ريال كابيتال» للأبحاث فإن معدلات إنجاز الصفقات العقارية على المستوى العالمي زاد بنسبة 53% خلال عام 2010 بالمقارنة مع العام الأسبق. وتضاعفت النسبة في السوق الأميركية، بينما زادت في أوروبا وآسيا بالنسبة نفسها.

وفي القطاع التجاري زادت العوائد عن معدلاتها القياسية التي كانت سائدة في عام 2007 قبل الانهيار في منطقة الاتحاد الأوروبي. وكانت أفضل الإنجازات في العواصم الأوروبية مثل لندن وباريس وبون. وبلغ إجمالي قيمة صفقات الاستثمار العقاري الأوروبية في عام 2010 نحو 100 مليار يورو، بزيادة 35% عن معدلها في العام الأسبق. وتقول شركة «ريتشارد إيليس» العقارية إن معدلات هذا الاستثمار متوقع لها أن تستمر في الزيادة بنسبة 10 إلى 15% سنويا.

ومع ذلك فالكثير من كبار المستثمرين الذين يعدون من بين الخبراء في هذا المجال ما زالوا يتمسكون بالحرص الشديد ولا يعبرون على الحماسة لدخول الأسواق بقوة. والسبب هو أن المرحلة الحالية في الأسواق لها سابقة في بداية التسعينات. وتشرح شركة «إيليس» الوضع بالقول إن دورات العقار تميل إلى المبالغة في تصحيح الأسعار، بمعنى أن التراجع يحدث بأكبر من النسبة المطلوبة لاستعادة توازن الأسواق، وما أن يتوقف الانهيار ويعرف المستثمرون أن قاع السوق قد اتضح، حتى يندفعون لدخول السوق بقوة إلى درجة تحدث معها موجة انتعاش مفاجئ. ولكن لأن أساسيات السوق ما زالت تعاني من آثار موجة التراجع، يستمر تخبط الأسعار بين الهبوط والارتفاع بلا اتجاه واضح لعدة سنوات بعد ذلك. وهذا التوجه هو ما يخشاه المستثمرون في الوقت الحاضر.

ولكن يبدو أن الاستثناء حتى الآن هو العقارات الفاخرة في العواصم، فهي تجذب كافة أنواع كبار المستثمرين من مديري صناديق الاستثمار السيادية إلى أثرياء الشرق الأقصى، ولذلك فهي تخالف التيار وتستمر في الارتفاع. وما يبغيه هؤلاء المستثمرون ليس توليد الثروة وإنما المحافظة عليها، وهم يرون قطاع العقار الفاخر في المدن الكبرى أكثر المجالات أمانا للحفاظ على رؤوس الأموال من التآكل. ومن المتوقع أن يستمر هذا التوجه في المدى المنظور. وهو بالضرورة ينعكس سلبيا على بقية قطاعات السوق، خصوصا خارج المدن الكبرى.

ويعزز الشعور بأن المرحلة الحالية ليست عودة إلى الانتعاش هو أن العوائد الإيجارية لم تبارح مكانها. وتقول شركة «دي تي زد» الاستشارية إن المستأجرين يركزون على العقارات الفاخرة ويزداد عددهم كلما ارتفع النشاط الاقتصادي في الموقع. ولهذا يرتبط الانتعاش العقاري كثيرا بالإنجاز الاقتصادي العام في أي دولة. ويوضح هذا نشاط القطاعات العقارية في الدول الآسيوية وفي شرق أوروبا وهي المناطق التي يزداد فيها النمو الاقتصادي عن أوروبا التي ما زالت فيها نسب النمو متدنية للغاية.

وتقول شركة «دي تي زد» إن هناك 6800 مليار دولار من الديون المستحقة عالميا في القطاع التجاري وحده، وأغلبية هذه الديون تقع في أوروبا وأميركا الشمالية. وتقدر الشركة أن ثلث هذه الديون مستحق خلال العامين المقبلين مما يعني المزيد من الضغوط على مستثمري العقار لتدبير المزيد من إعادة التمويل، وأيضا المزيد من الفرص لدخول السوق لالتقاط العقارات التي يتعثر أصحابها.

من ناحية البنوك، ما زال الكثير منها يخفي الديون الرديئة والمتعثرة ويساعدهم في ذلك تدني أسعار الفائدة التي تخفف من حجم الأزمة، وكذلك جهود البنوك المركزية التي تضخ المزيد من النقد في الأسواق لتسهيل السيولة. ولكن الوضع يتغير بالتدريج مع محاولات البنوك إصلاح ميزانياتها والتخلص من رواسب الماضي.

وإحدى المشكلات التي تعترض الأسواق حاليا هي عدم رغبة البنوك في الإقراض وتركيزها فقط على القطاع المضمون. وهناك مطالب رأسمالية جديدة لشروط الملاءة المطلوبة من البنوك كما أن البنوك تنظر بطريقة مختلفة لمستويات المخاطر السائدة وتبتعد عن أي إقراض قد يعرضها لمتاعب.

السوق الأميركية

* منذ عامين كانت سوق العقار الأميركية التجارية في أسوأ حالاتها في انعكاس لما كان عليه القطاع الإسكاني. ولكن الحال تغير في الشهور الأخيرة، مع ارتفاع الأسعار ونسبة الإشغال من الشركات. وساهمت عدة عوامل في تحسين أوضاع هذه السوق منها شبه التوقف التام لعمليات البناء الجديدة التي حدت من إمدادات العقار إلى السوق، ومرونة البنوك في التعامل مع الديون وقواعد المحاسبة، خصوصا مع تراجع أسعار الفائدة.

وزاد أيضا اهتمام البنوك بالتمويل في هذا القطاع بعد تحسن الأوضاع فيه. وتتوقع شركة خدمات العقار «جونز لانغ لاسال» أن يرتفع إجمالي الاستثمار في القطاع العقاري التجاري الأميركي بنسبة 40% خلال عام 2011 إلى 135 مليار دولار. وتعتقد الشركة أن أوضاع السوق الأميركية تختلف تماما الآن عما كانت عليه منذ عامين.

ويشير سام شاندن كبير الاقتصاديين في شركة «ريال كابيتال» إلى صفقة عقارية كبيرة جرت مؤخرا بالمزاد وبيع فيها برج جون هانكوك في بوسطن، ويؤكد أن الصفقة إشارة إلى تحسن أوضاع السوق. وكان البرج قد بيع في عام 2009 بمبلغ 660 مليون دولار، أي بنصف القيمة التي دفعت فيه قبل ذلك بثلاثة أعوام. ولكن على نهاية عام 2010 اشترت مؤسسة «بوسطن بروبرتيز» هذا البرج في المزاد بمبلغ 930 مليون دولار بعد مضاربة شرسة. ويضيف شاندن أن هناك رغبة متزايدة بين المستثمرين لاقتناء العقارات المتميزة، وأضاف أن حجم الصفقات التي تم التعاقد عليها في شهر ديسمبر (كانون الأول) الماضي كان الأعلى منذ عام 2007.

أما أكبر صفقة تحققت هذا العام فكانت شراء شركة «غوغل» لمقرها الرئيسي في مانهاتن بمبلغ 1.8 مليار دولار. وهي صفقة تدل على مدى تحسن السوق، خصوصا أنها لم تكن بغرض الاستثمار وإنما بغرض الإقامة في المبنى. وتقول شركة عقار تعمل في مانهاتن اسمها «كوشمان اند ويكفيلد» إن الربع الأخير من العام الماضي كان الأفضل طوال السنوات الأربع الأخيرة، مع ارتفاع في الطلب على المكاتب بنسبة 60%. ويرى جوزيف هربرت المدير التنفيذي للشركة أن هذا النشاط أعاد الأوضاع إلى نصابها الصحيح في الأسواق وأثبت أن أساسيات الانتعاش العقاري أصبحت في مكانها الصحيح، خصوصا فيما يتعلق بتحسن أوضاع أسواق التوظيف أيضا.

ولاحظت شركات العقار الأميركية أن معظم التحسن وقع في المدن الكبرى، بينما بقيت الضواحي على حالها. وفي نيويورك زادت القيمة ولكن بنسب أقل من واشنطن العاصمة التي شهدت تحسنا بلغ 15% في الربع الأخير من العام الماضي بسبب الإقبال الحكومي على العقار التجاري، وأيضا منع البناء على ارتفاعات شاهقة.

وتقول إحصاءات وزارة التجارة الأميركية إن نشاط البناء في المجمعات السكنية زاد بنسبة 82% في شهر يناير (كانون الثاني) الماضي بسبب ارتفاع الطلب على استئجار العقار. ومن المتوقع أن يستمر الارتفاع في الإقبال على استئجار العقارات بدلا من شرائها، خصوصا بعد إعلان الرئيس أوباما في شهر فبراير (شباط) الماضي عن تصفية مؤسستي الإقراض العقاري المدعم «فاني ماي» و«فريدي ماك». ومن شأن هذه الخطوة أن ترفع معدلات القروض العقارية وتدفع المزيد من الطلب نحو الشقق والعقارات الصغيرة.

وفي القطاع الإسكاني، تعتقد مصادر السوق أن قاع السوق سوف يتحقق هذا العام لكي يؤسس لمرحلة استقرار بعد الانهيارات والإفلاسات المتلاحقة. ويواجه قطاع العقارات الأميركي بوجه عام مشكلات متعلقة بحالة الاقتصاد واحتمالات رفع أسعار الفائدة. ولكن مؤشر عودة الانتعاش سوف يرتبط في نهاية المطاف بارتفاع معدلات التشغيل وخلق الوظائف.

السوق الأوروبية

* تتركز أكثر المعاناة في سوق العقار الأوروبية حاليا في إسبانيا والبرتغال. وتعاني البرتغال من مشكلات اقتصادية اقتضت تدخل الدول الأوروبية الأخرى لإنقاذها. أما إسبانيا فمشكلتها تتعلق بزيادة إمدادات السوق من العقارات الجديدة وبمعدل 900 ألف عقار سنويا في الوقت الذي يعاني فيه الإسبان من نسبة بطالة تصل إلى 20%. وإلى أن يستعيد الاقتصاد الإسباني توازنه، فلن تنصلح أحوال قطاع العقار فيه.

وفي الوقت الذي ينعدم فيه الطلب الإسباني والبرتغالي على العقار يرى بعض المستثمرين الأجانب فرصا سانحة في أسعار مقومة بأقل من قيمتها. وتحاول البنوك الإسبانية التي تملك كما هائلا من العقارات ذات القروض المتعثرة تقديم الكثير من الحوافز من أجل إنجاز صفقات بيع، خصوصا في القطاع التجاري. من ناحية أخرى يتردد أصحاب العقارات في بيعها لأنهم يعرفون أن الوقت الحاضر هو أسوأ توقيت في الدورة العقارية، وهم لا يريدون البيع بالحد الأدنى من الأسعار.

ويمكن القول إن الأسواق مهيأة في الوقت الحاضر لدخول مرحلة استقرار سوف يعززها عدم وجود مشاريع بناء جديدة نظرا لحالة السوق، ودخول الاستثمار الأجنبي من ناحية أخرى.

أما في بريطانيا وفرنسا، فالصورة العامة هي أن مؤشرات الانتعاش بدأت في الظهور في المدن الرئيسية ولكن الضواحي والمدن الصغيرة والمناطق الريفية ما زالت على حالها. ولا يتميز في الوقت الحاضر سوى السوق الألمانية التي تنعم باستقرار الأسعار وثبات القيمة.