أسواق العقار الأميركية بين التسويق والواقع

فيها مزايا متعددة ولكن دخولها في الوقت الحاضر يحمل الكثير من المخاطر

أسواق العقار الأميركية ما زالت تعاني آثار أزمة الائتمان
TT

عشرات المواقع العقارية على الإنترنت ما زالت تسوق مزايا الاستثمار في السوق الأميركية، وتدعو المستثمر الأجنبي إليها للاستفادة من الفرص الجيدة المتاحة، خصوصا مع توجه الدولار إلى المزيد من الانخفاض. وترسم هذه المواقع صورة وردية للمزايا والفوائد الاستثمارية، ولكنها تغفل واقع الحال وهو أن أسواق العقار الأميركية ما زالت في طور المعاناة من توابع أزمة الائتمان، خصوصا في المناطق السياحية التي تضخمت أثناء فترة الاقتراض السهل وأضحت معاناتها هي الأكبر بين الولايات المختلفة.

وليس هناك بديل للمستثمر سوى دراسة المواقع الأميركية جيدا قبل الاستثمار فيها والاعتراف بحقيقة واضحة وهي أن الأسعار باقية على حالها في المدى المنظور، ولن تعاود انتعاشها إلا بعد عودة الاقتصاد الأميركي إلى النمو القوي، وهذا ليس واردا بعد.

ودخول الأسواق الأميركية في الوقت الحاضر يحمل الكثير من المخاطر، وربما تراجع الأسعار أيضا، قبل عودة التوازن، ولذلك فهو استثمار طويل الأجل ولا يصلح لتحقيق أرباح سريعة. والباحث عن صفقات مربحة في غضون عام أو عامين عليه الابتعاد عن هذه السوق في الوقت الحاضر.

والنظر إلى المناطق السياحية الأميركية يوضح الكثير من الحقائق.

من ناحية يشير موقع «بروبرتي شو روم» إلى أن المزايا في السوق الأميركية تغري المستثمر بدخوله فورا. ويعدد الموقع هذه المزايا مثل سعر الصرف المنخفض للدولار، والعوائد الإيجارية المرتفعة، والمناخات المتعددة في الولايات المختلفة، والطبيعة التي تناسب كل الحاجات، والسفر الجوي السهل والرخيص وأحيانا المباشر إلى مواقع العقار، وارتفاع عدد السياح الذين يزورون الولايات المتحدة، وأسعار العقار الرخيصة، وارتفاع نوعية البناء في معظم العقارات، والاستقرار السياسي والاقتصادي، والعديد من التسهيلات السياحية، واستخدام اللغة الإنجليزية في التعامل.

ولكن تقارير أخرى، منها ما نشر في الـ«إيكونوميست» البريطانية، ترسم صورة مغايرة تماما لوضع السوق، وتشير إلى أن السوق الأميركية ما زالت منطلقة على طريق الخسائر.

ومن النماذج التي توضحها هذه التقارير المتشائمة ولاية لاس فيغاس، التي تعتبر مع ولاية فلوريدا من أسخن النقاط السياحية الأميركية. ويصف تقرير الـ«إيكونوميست» لاس فيغاس بأنها «عاصمة الإفلاس العقاري» في أميركا. فمعدل العقارات المصادرة من أصحابها بإجراءات قانونية اسمها (Foreclosure) يصل إلى نسبة عقار واحد من كل عشرة عقارات في المتوسط، ويرتفع إلى عقار من كل خمسة في أحياء لاس فيغاس الفقيرة. ولا يتعدى مستوى الأسعار في المدينة الآن نسبة 60 في المائة مما كانت عليه في عام 2006. وتصل نسبة سكان المدينة الذين يملكون عقارات تقل في قيمتها عن قيمة القروض التي مولوا بها شراء عقاراتهم نحو 70 في المائة. كما تصل نسبة هذه العقارات «الغارقة» تحت معدل الديون العقارية عليها نسبة 23 في المائة على مستوى أميركا بشكل عام.

ويقول تقرير من موقع «ريالتي تراك» الأميركي إن أسوأ الولايات التي تعاني مشاكل الديون الرديئة هي أريزونا وكاليفورنيا ونيفادا وميتشغان. ولكل منها أسبابه الخاصة، ففي ميتشغان كان التأثير السلبي الأكبر هو من انهيار صناعة السيارات في الولاية.

ويرى الزائر آثار الأزمة واضحة في عقارات مهجورة وأخرى معروضة للإيجار بأسعار زهيدة لا تتعدى 150 دولارا في الشهر. ويشكوا أهالي هذه الولايات من أن سقوط عقار واحد في براثن الديون والإخلاء يؤثر سلبيا على أسعار بقية العقارات القريبة منه. وينتج عن هذا التأثير حلقة مفرغة من عقارات تتراجع في قيمتها وسقوط المزيد من أصحاب هذه العقارات في فخ الديون التي تزيد على قيمة عقاراتهم. وبالطبع، تتأثر اقتصادات الولايات، وينعكس فقدان الوظائف على المزيد من المتاعب لقطاع العقار الذي ما زالت الحكومة الأميركية تحاول أن تتعامل معه بطريقة جدية لإنهاء المشكلة أو تقليص مخاطرها.

وتريد الحكومة إعادة هيكلة سوق الإقراض العقاري، ولكن خبراء السوق يحذرون من المساس بشركات تدعم سوق الإقراض العقاري الذي يتوكأ على أسس هشة حاليا، فلا أحد يريد أن «يهز القارب» على حد تعبير خبير في واشنطن. ولكن ترك الوضع على ما هو عليه ليس خيارا مطلوبا أيضا، حيث يقول بارني فرانك رئيس لجنة الخدمات المالية في الكونغرس الذي يرأس الجلسات إن إصلاح القطاع المالي يبدأ من إصلاح قطاع التمويل العقاري الذي كان سبب الأزمة أصلا.

وعدم التعامل بحكمة مع الوضع الحالي من شأنه أن يؤثر على المقترضين لتمويل العقار من المواطنين الأميركيين وأيضا من المستثمرين الأجانب. وإحدى نقاط الخلاف هي مدى الضمان الحكومي الأميركي لمؤسسات الإقراض العقاري في حالة إقبال الحكومة على إعادة الهيكلة. ويعتقد العديد من أعضاء لجنة الخدمات المالية في الكونغرس أن الحكومة لا يجب أن تضمن هذه الشركات، وأن على المستثمرين تحمل مخاطر إعادة الهيكلة على أساس أنها السبيل الوحيد للمحافظة على استمرار هذه المؤسسات في السوق.

ويتشدد الجمهوريون في لجنة الكونغرس حول هذه المسألة، ومنهم النائب سكوت غاريت الذي يقول إن دافعي الضرائب الأميركيين لا يجب عليهم دعم المستثمرين الأجانب في شركات التمويل العقاري، وخصوصا أنها مؤسسات لا تحمل ضمانات حكومية صريحة. ولكن هذا التصريح، الذي من شأنه إزعاج الأجانب المستثمرين في المؤسسات المالية الأميركية المدعومة حكوميا، ليس هو الرأي السائد بين أعضاء لجنة الخدمات المالية. بل إن وزير الخزانة الأميركي تيم غيثنر أوضح أنه لا شكوك هناك حول الضمانات الممنوحة إلى المؤسسات المالية التي تعمل بدعم حكومي.

ويبلغ حجم الدعم الحكومي الأميركي لمؤسسات التمويل العقاري التي كانت قد اشرفت على الافلاس مبلغ هائل لا يقل عن 177 مليار دولار، وهو أكبر حجما من الدعم الذي قدمته الحكومة منذ ثلاثة أعوام لبنوك التمويل العقاري من أجل إنقاذها، وكان حجمه 153 مليار دولار، وكذلك حجم الدعم الذي قدمته الحكومة الأميركية لصناعة السيارات بمبلغ 117 مليار دولار. ويشرح أستاذ التمويل العقاري في جامعة جورج ماسون، أنطوني ساندرز أن من الضروري تخليص قطاع التمويل العقاري من الدعم الحكومي وإلا فالاقتصاد الأميركي سوف يعاني المزيد من المتاعب. وقد أدلي ساندرز برأيه هذا أمام لجنة الكونغرس. ولكنه يعترف بأن منع التمويل الحكومي لقطاع الإقراض الإسكاني من شأنه أن يجعل هذه القروض صعبة. فالسوق الخاصة في قطاع التمويل العقاري متغيرة ولا يمكن الاعتماد عليها. وكما حدث في العامين الأخيرين، فهي سوق يمكن أن تنضب تماما من السيولة.

وفي قطاع القروض الكبيرة التي تسمى «جامبو» وتزيد في قيمتها على 417 ألف دولار، تتجنب شركات التمويل العقاري تقديمها في الوقت الحاضر إلا في حالات خاصة، ولذلك يصعب الحصول عليها في الأسواق الأميركية في الوقت الحاضر. وتطالب البنوك المستثمر الذي يطلب قروضا تزيد على هذا الحد ألا يقل المقدم الذي يدفعه في العقار عن 50 في المائة من قيمة العقار. كما تزيد أسعار الفائدة على القروض الكبيرة لاعتبارها تحمل المزيد من المخاطر.

من الصعوبات الأخرى التي قد تواجه مشتري العقار الأميركي احتمال نهاية القروض ثابتة الفائدة التي اعتادتها السوق الأميركية. فعلى خلاف أسواق أخرى مثل كندا وبريطانيا وفرنسا التي تعتمد فيها القروض العقارية على أسعار فائدة متغيرة أو ثابتة لفترات بسيطة لا تتعدى عدة سنوات، فإن معظم القروض الأميركية ثابتة الفائدة لفترات تتراوح بين 15 و30 عاما. ومع نهاية الدعم الحكومي المؤسسي للسوق، قد تنتهي القروض ذات الفوائد الثابتة، وبالتالي تزداد مصاعب المشتري الأميركي خصوصا في الفترات الصعبة.

هناك أيضا مسألة تكلفة الإصلاح لدافعي الضرائب الأميركيين، فشركات التمويل العقاري التي تم إنقاذها من الإفلاس تدفع للخزانة الأميركية حاليا 10 في المائة من الفوائد الثابتة على القروض الهائلة التي دفعتها الحكومة. ولكن عودة قيمة هذه القروض للحكومة هو أمر غير محتمل وفقا لمصادر السوق التي تعتبر أن هذه الأموال قد ذهبت إلى غير رجعة لتعويض خسائر السوق.

وقد ينتهي أيضا تمويل الإسكان العقاري لمحدودي الدخل بعد إعادة هيكلة قطاع التمويل العقاري الأميركي، فلم يكن مطلوبا من المشتري في السابق دفع أكثر من ثلاثة في المائة من مقدم الثمن لشراء عقار، وهذا غير وارد حاليا. وأخيرا، إذا تم تخصيص شركات تمويل العقار الأميركية لكي تعمل، مثل جمعيات البناء البريطانية مثلا، فسوف يتعين عليها أن تعيد بناء رأسمالها، وهو تمويل غير متاح حاليا. ويتعين على شركات الإقراض العقاري الاحتفاظ بنسبة رأسمال تصل إلى 5 في المائة من قيمة القروض التي تقدمها. ويصل إجمالي القروض المقدمة فعلا من هذه الشركات حاليا إلى 5500 مليار دولار، أي إن عليها أن تحتفظ بمبلغ 250 مليار دولار كرأسمال احتياطي، وهو مبلغ غير متاح لها في الوقت الحاضر.

ولهذه الأسباب، سوف تكون عملية إعادة هيكلة شركات الإقراض العقاري الأميركية عملية طويلة الأجل ومعقدة. ولم تتضمن الميزانية الأميركية الأخيرة أي تفاصيل عن توجهات الإصلاح في هذا المجال. ولكن كلما استمر قطاع العقار الأميركي في التراجع، جرى تأجيل المشكلة إلى المستقبل. ولكن على الرغم من مناخ عدم وضوح الرؤية، فإن الأمر الواضح هو أن الموديل السابق لم يعد يصلح للمستقبل. وبينما يختلف الجميع على توجهات المستقبل، فهم على الأقل يتفقون على أن العودة إلى ما كان عليه الوضع في الماضي عملية غير مجدية. وهذا في حد ذاته تغيير كبير. وبينما تتبلور هذه المتغيرات للمستثمر المحلي، فإن المستثمر الدولي يمكنه أن يستند إلى إحصاءات من مصادر عديدة محايدة تؤكد أن أسواق العقار الأميركي لم تصل إلى بداية طريق الانتعاش بعد. وإذا كانت هذه التوقعات صحيحة، فهي تبرر إقبال بعض المستثمرين الأجانب على السوق الأميركية في العام الحالي، على أساس أن الأسعار السائدة الآن تمثل قاع السوق. ويقبل الأثرياء على الاستثمار العقاري في أوقات عدم الثقة في الأسواق المالية، لأنها توفر المزيد من الاستقرار وتحافظ على القيمة. ويحتفظ العديد من المستثمرين حول العالم بنسب كبيرة من السيولة استعدادا لظهور فرص استثمار جيدة، ويتركز بحثهم في الوقت الحاضر على الأسواق الأميركية كموضع آمن للاستثمار طويل المدى.

ويقول ليام بيلي، مدير الاستثمار في القطاع الإسكاني في شركة «نايت فرانك» العقارية، إن توقيت الاستثمار العقاري حاليا له جدوى كبير، لأن العديد من المواقع الجغرافية، ومنها السوق الأميركية، لم تشهد استثمارات كبيرة في الإمدادات العقارية بينما يزداد الطلب فيها على العقار باضطراد. وهو يلاحظ أن العديد من المدن الرئيسية، مثل لندن ونيويورك، زادت في قيمتها العقارية في الشهور الأخيرة مخالفة تيار استقرار الأسعار السائد في الأسواق الدولية حاليا.

وهو يضيف أن معدلات الإيجارات في المدن الكبرى أخذ أيضا في الارتفاع التدريجي هذا العام. ومع ذلك، فهو لا يؤكد أن التحولات الواقعة في المدن العالمية الآن تشير إلى بداية انتعاش عقاري مستديم فيها، فالأفق ما زال يتسم بنسبة كبيرة من عدم الوضوح مع أخطار متعددة تتراوح بين ارتفاع نسب البطالة وأسعار الفائدة إلى عدم وجود مصادر التمويل المتاحة للمستثمر.

والخلاصة هي أن فرص الاستثمار العقاري في الأسواق الأميركية متاحة، ولكن لا يجب توقع عوائد سريعة أو ارتفاع قريب في الأسعار.