بريطانيا: أسعار العقارات الأرخص منذ عامين

وسط أجواء عدم ثقة بسبب الأوضاع الاقتصادية .. وتوقعات باستمرار تراجعها خلال السنوات الـ5 المقبلة

على الرغم من الأرقام السلبية فإن تراجع الأسعار سيشهد بعض الاستقرار ولن ينحدر إلى مستويات خطيرة (تصوير: حاتم عويضة)
TT

أكدت التقارير العقارية الأخيرة في بريطانيا أن أسواق العقارات السكنية تشهد تراجعا ملحوظا ومهما في الأسعار، بعد فترة من الركود وبعض الاستقرار المحفوف بالمخاوف. وذكر التقرير الأخير لبنك «هاليفاكس» الذي يعتبر من أهم البنوك البريطانية على صعيد الإقراض العقاري، أن أسعار العقارات السكنية سجلت أكبر تراجع لها منذ يوليو (تموز) عام 2009، بسبب تراجع الثقة مؤخرا في الأسواق. وقد تراجعت أسعار العقارات بنسبة 1.4 في المائة خلال أبريل (نيسان) الماضي نسبة إلى ما كانت عليه في مارس (آذار) الماضي. وعلى هذا الأساس، يصل معدل سعر العقار السكني حاليا إلى نحو 160.5 ألف جنيه إسترليني، أي أقل بنسبة 3.7 في المائة عما كان عليه في الفترة نفسها من العام الماضي (2010)، وتساوي هذه النسبة ما لا يقل عن 8 آلاف جنيه (12 ألف دولار تقريبا). والتراجع لم يتوقف على النسب الشهرية بل تعداه إلى النسبة الفصلية أو الربعية، حيث وصلت نسبة التراجع الربعي إلى 1.2 في المائة خلال الأشهر الثلاثة الماضية حتى نهاية أبريل نسبة إلى ما كانت عليه بين نوفمبر (تشرين الثاني) العام الماضي وفبراير (شباط) هذا العام. وهي نسبة مضاعفة عما تراجعت عليه الأسعار من يناير (كانون الثاني) إلى مارس هذا العام. وهذه أكبر نسبة تراجع فصلية منذ أكتوبر (تشرين الأول) العام الماضي. وتواصل الأسعار تقلباتها كما يبدو منذ أكثر من عام، حيث شهدت تراجعا خلال العام الماضي في سبعة أشهر ولم ترتفع إلا في أربعة أشهر وركدت لمدة شهر واحد فقط. ورغم أن الأسعار لا تزال أعلى بنسبة 4 في المائة عما كانت عليه في الفترة الحرجة في أبريل عام 2009، فإنها لا تزال أقل بنسبة عشرين في المائة عما كانت عليه في ذروة الطفرة العقارية في أغسطس (آب) عام 2007، أي قبل أزمة الائتمان الدولية وما تبعها لاحقا من أزمات مالية دولية أدت إلى الركود في معظم الدول الغربية ودول العالم.

ويؤكد الخبير العقاري والاقتصادي المعروف في «هاليفاكس» مارتين أليس، أن هذا التراجع الملحوظ يعود في معظمه إلى تراجع الثقة في الأسواق العقارية بشكل عام بسبب عدم استقرار الأوضاع الاقتصادية في البلاد بعد الخطوات التقشفية التي اتخذتها الحكومة الائتلافية الجديدة لتخفيض العجز في الميزانية. وبسبب هذه الأوضاع الاقتصادية غير مستقرة والمتقلبة، يتردد الناس والمشترون في دخول أسواق العقار، إذ يفضلون الانتظار لجلاء الصورة بشكل عام.

وعلى الرغم من هذه الأسباب، والأرقام السلبية، فإن مارتين أليس يؤكد أن تراجع الأسعار سيشهد بعض الاستقرار ولن ينحدر إلى مستويات خطيرة؛ إذ يتوقع أن تؤدي بعض البوادر الجيدة في عالم القروض العقارية وخدماتها، وزيادة عدد الوظائف في الفترة المقبلة، واستقرار عدد الصفقات العقارية (رغم تدنيها تاريخيا)، إلى حماية الأسعار ومنعها من التراجع بشكل كبير.

وبالطبع، لا يشارك كثير من المحللين والاقتصاديين والعقاريين في هذا التفاؤل على منطقيته، ويؤكد هيوارد آرشار من «آي إتش إس غلوبال إنسايت»، أن مؤسسته تعتقد أن الأسعار، خصوصا أسعار العقارات السكنية، ستسجل تراجعا بنسبة لا تقل عن 10 في المائة بين عام 2010 وعام 2012. أي إنها ستتراجع بنسبة تتراوح بين 5 و7 في المائة من الآن حتى بداية العام المقبل.

وستعتمد هذه الرؤية وهذه التوقعات على عدد من الأمور أهمها، عدد المنازل المعروضة للبيع خلال الفترة المقبلة، ونسبة القروض العقارية المتوفرة والممنوحة أيضا، أضف إلى ذلك الأوضاع الاقتصادية بشكل عام في البلاد، خصوصا عالم الوظائف وفرص العمل ومعدل الفائدة العام.

وفي حين توافق هيئة تسجيل الأراضي الوطنية على تراجع أسعار العقارات، على ما يؤكد «هاليفاكس» وتقول إن الأسعار بين مارس وأبريل هذا العام تراجعت بنسبة لا تقل عن 1.1 في المائة، يخالف تقرير «نيشن وايد» كالعادة تقرير «هاليفاكس»، ويقول إن الأسعار بين مارس وأبريل لم تتغير فعلا ولم تتعد نسبة 0.2 في المائة. أي إن سعر العقار لم يتراجع إلا بنسبة 1.3 في المائة عما كان عليه في أبريل عقب عامين (2010). وهو فرق كبير، يعكس التقلبات وعدم الاستقرار الذي تمر به سوق العقار السكني وعالم إحصاءاته.

لكن تقرير الهيئة الملكية للمساحين (آر آي سي إس) الأخير بهذا الخصوص، يدعم ما جاء في تقرير «هاليفاكس»؛ إذ أكد أن عدد المنازل المعروضة للبيع والتي نزلت إلى الأسواق ارتفع الشهر الماضي، دون أن يترجم ذلك إلى ارتفاع في عدد الصفقات العقارية بسبب عجز المشترين للمرة الأولى عن دخول الأسواق. ومن شأن ارتفاع عدد المنازل المعروضة للبيع عادة أن يؤدي إلى تراجع الأسعار، بناء على نظرية العرض والطلب.

ويشير التقرير إلى هذا العامل، مؤكدا أن عدد الصفقات العقارية ارتفع الشهر الماضي لكن ليس بالنسبة الكافية والمطلوبة لتغيير الوضع ولجم تراجع الأسعار، وأنه لا يتوقع أن يتحسن عدد الصفقات خلال الفترة المقبلة وحتى نهاية العام الحالي، مما يزيد من تشاؤم المحللين بالنسبة للأسعار وأحوال الأسواق العقارية بشكل عام. ورغم أن كثيرا من المؤسسات المالية والعقارية بدأت بتخفيض شروطها وتحسينها لمساعدة المشترين للمرة الأولى على دخول الأسواق ومساعدة ودفع النشاط العقاري بشكل عام، فإن ذلك لم يترجم إلى شيء ملموس حتى الآن وسيستغرق الأمر وقتا طويلا حتى يأخذ مفعوله ويساهم إيجابيا في تحريك ودعم الأسواق. وعلى هذا الصعيد تراجعت نسبة الفائدة على القروض الممنوحة التي يدفع منها عشرة في المائة من سعر القرض كدفعة أولى، إلى أقل من ستة في المائة ولأول مرة منذ مارس عام 2008.

وعلى صعيد التقلبات والتباين في التوقعات، يتوقع بعض المحللين والعارفين بعالم الأسواق وأحوالها أن تواصل أسعار العقارات السكنية تراجعها خلال السنوات الخمس المقبلة، أي حتى عام 2015، وهو أمر تؤكده أيضا المؤسسة الوطنية للأبحاث الاقتصادية والاجتماعية «إن آي أي إس آر)، معيدة ذلك إلى ضغوط التضخم الاقتصادي الذي من شأنه أن يؤدي إلى تآكل أي ارتفاع على الأسعار وإن كان بسيطا. كما سبق لمؤسسة «ستاندارد آند بورز» للتصنيفات الائتمانية، قبل تقرير مؤسسة الأبحاث بتوقع تراجع أسعار العقار السكني هذا العام في بريطانيا إلى 5 في المائة، بسبب الخطط التقشفية التي تتبعها الحكومة الحالية وتراجع العدد المتوقع للمشترين نتيجة تلك الخطط.

بأية حال، فإن مؤسسة الأبحاث الوطنية، تتوقع نتيجة السياسات التقشفية الحكومية أن تواصل الأسعار تراجعها حتى عام 2014 أي لمدة لا تقل عن 3 سنوات. وتعلل المؤسسة توقعها، قائلة إن أسعار العقارات خلال العقد كانت مضخمة وغير واقعية، وأن التراجع الحالي على الأسعار طبيعي نتيجة تراجع عدد القروض العقارية الممنوحة، وأن معدل الفائدة العام سيواصل ارتفاعه من الآن إلى عام 2015 ولن يبقى على حاله المتدني، أي أنه سيترفع من نصف في المائة إلى 5 في المائة كما كان في السابق. ومن شأن ذلك حسب الإحصاءات الأخيرة أن يساهم في تراجع أسعار العقارات السكنية بنسبة لا تقل عن 2 في المائة كل عام خلال السنوات الخمس المقبلة.

ويؤكد «بنك إنجلترا» أيضا التراجع على الأسعار وضعف الأسواق العقارية بشكل عام هذا العام ويؤكد أن نسبة القروض خلال شهر مارس الماضي قد تراجعت بنسبة كبيرة ومهمة لا تقل عن 60 في المائة.

وما زاد الطين بلة أيضا في الفترة الأخيرة، أن النشاط التطويري وعالم البناء قد شهد تراجعا ملحوظا منذ أبريل العام الماضي حتى أبريل هذا العام.

وتقول مؤسسة «إس آند بي» الأوروبية، إن السياسة الحكومية التقشفية ستردع المشترين للمرة الأولى عن دخول الأسواق خلال الفترة المقبلة، وبالتالي إضعاف أسواق العقار وتراجع الأسعار، لا في بريطانيا وحدها بل في فرنسا وإسبانيا أيضا. وتعاني إسبانيا اقتصاديا وعقاريا بشكل لم يسبق له مثيل منذ عامين وتواجه خطر الإفلاس، رغم إصرارها على اتباع طريق البرتغال وطلب النجدة من الاتحاد الأوروبي.

وتتوقع المؤسسة أن تواصل الأسعار تراجعها خلال السنة والنصف المقبلة وأن تخسر 5 في المائة من قيمتها هذا العام وحده قبل أن تركد العام المقبل على خلفية استضافة لندن دورة الألعاب الأولمبية.

ويبدو أن تراجع عدد القروض العقارية فعلا وبنسب كبيرة وراء التوقعات المتشائمة بشأن الأسعار والنسب العالية لتراجعها في المستقبل حقا، وقد أشارت الأرقام الأخيرة إلى أن قيمة القروض الممنوحة تراجعت من 1.7 مليار جنيه إسترليني في يناير هذا العام إلى 950 مليون جنيه (مليار دولار تقريبا) في فبراير (شباط) ثم إلى 374 مليون جنيه في مارس هذا العام.. وتعتبر هذه الأرقام مأساوية وخطيرة نسبة إلى ما كانت عليه قبل نهاية الطفرة العقارية أي في شهر أكتوبر عام 2006 حيث سجل «بنك إنجلترا» قروضا بقيمة 10 مليارات جنيه (15 مليار دولار تقريبا).

ويشير «بنك إنجلترا» إلى أن عدد القروض العقارية لا يزال أقل من النصف المفترض أن يكون عليه، ولم يتعد شهريا ومنذ نوفمبر الماضي الـ47 ألف قرض، ويعتبر الرقم العادي 100 ألف قرض شهريا.

والأسوأ من هذا أن بنك «رويال بنك أوف أسكوتلند»، يؤكد أن عدد القروض الممنوحة يواصل تراجعه منذ أكثر من 27 شهرا على التوالي، أي لأكثر من عامين. وأن الناس بدأوا هذا العام اللجوء إلى مدخراتهم وسحب كثير من أموالهم من البنوك للتعايش مع التضخم والأوضاع الاقتصادية الصعبة، مما يحد من قدرة البنوك على الإقراض، وبالتالي تقليل عدد القروض الممنوحة للزبائن. وقد سجل البنك سحب الزبائن أكثر من ملياري جنيه من مدخراتهم خلال السنة المالية الحالية وحدها.

بأية حال، فإن أسواق العقار السكني، على خلفية الأوضاع الاقتصادية الحالية وعدم استقرارها وحالة الترقب الذي تعيشها وربما ستعيشها لفترة طويلة، ستبقي على تقلباتها وتراجعاتها خلال السنوات القليلة المقبلة بغض النظر عن النسب المتوقعة، وستتواصل عملية التصحيح، حتى تعود الأسعار لتعكس الواقع الاقتصادي العام.

لكن مع هذا، يصر كثيرون، على أن الأسواق العقارية في بريطانيا قوية على الرغم من التراجع بسبب قلة المنازل الجديدة وأن الألعاب الأولمبية العام المقبلة ستساهم بانتشالها من وهنها الحالي؛ إذ أصبحت تعتمد أكثر على الزبائن الأجانب.