كيف سيطر القطريون على 80% من مشروع أعلى مبنى في لندن وأوروبا؟

«شارد».. ناطحة السحاب العملاقة توصف بـ«المدينة الرأسية»

TT

أحدث ناطحة سحاب بريطانية تقام في قلب لندن سوف تكون الأعلى في أوروبا عندما تكتمل في العام المقبل، ولكنها حققت بالفعل الرقم القياسي لأعلى مبنى بريطاني من قبل أن تكتمل، بعد أن تخطت ارتفاع 244 مترا وبلوغها الطابق رقم 72. وسوف تكون هذه الناطحة التي تشبه قطعة الزجاج المدببة، وتكتسب منها اسمها «شارد» (Shard) أحد معالم العاصمة البريطانية في المستقبل مثل مبنى «كناري وارف» أو ساعة «بيغ بن». وسوف تضم الناطحة الجديدة فندقا بدرجة خمسة نجوم وشققا خاصة ومكاتب ومطاعم ومقاهي و15 طابقا علويا لأغراض التكييف تقع فوق طابق الزيارة ومشاهدة معالم لندن من أعلى مبنى فيها.

المشروع الذي بدأ في عام 2009 لن يقتصر على المبنى؛ بل سيعود بالتجديد الشامل على الحي الذي يقع فيه ويشمل تحديث محطة القطارات وتطوير شبكة مواصلات حديثة وبناء عشرات المنافذ التجارية والترفيهية التي توفر بنية تحتية تخدم هذا العقار الشامخ وتوفر وظائف لنحو 13 ألف عامل. وتعتقد أوساط عقار لندنية أن هذا المبنى سوف يكون له تأثير إيجابي على العاصمة كلها، بينما يصفه البعض بأنه «مدينة رأسية».

بدأ المبنى حياته باسم «لندن بريدج تاور» ولكنه سرعان ما اكتسب اسم التدليل «شارد» نسبة إلى تصميمه الذي يشبه قطعة الزجاج المدببة. ويقع المبنى في حي ساذورك جنوب نهر التيمس بالقرب من محطة «لندن بريدج» للقطارات. وعندما يكتمل البناء في العام المقبل سوف يصل ارتفاع الناطحة إلى 1017 قدما (310 أمتار) ويتكون من 72 طابقا بالإضافة إلى 15 طابقا إضافيا للخدمة في أعلاه. صممه المعماري الإيطالي رينزو بيانو على شكل هرمي مدبب مغطى تماما بالزجاج. وسوف يخصص الطابق الأعلى لمشاهدة لندن من أعلى نقطة فيها. وبدأت قصة «شارد» عندما قرر رجل الأعمال إيرفن سيلر تطوير البناء القديم الذي كان يضم مكاتب يعود تاريخها إلى السبعينات. وذهب إلى برلين في عام 2000 للقاء المصمم بيانو الذي ساهم في بناء مركز «بومبيدو» في باريس. وأثناء اللقاء على الغداء رسم بيانو تصميم المبنى على هذا الشكل الذي استوحاه من خطوط السكك الحديدية المجاورة للمبنى ومن لوحة تاريخية للندن من عصر النهضة وأيضا من شراع السفن التي كانت تجوب النهر في القرنين السابع عشر والثامن عشر.

ولكن كالعادة في لندن، اعترض المجلس المحلي على التصميم وعلى الارتفاع خوفا على ملامح العاصمة وتراثها. وأجرت الحكومة تحقيقا في المشروع عام 2002 ثم صدرت الموافقة عليه من مكتب نائب رئيس الوزراء في عام 2003 بفضل «تصميمه غير العادي الذي يرفع من قيمة العاصمة». ولم يكن أحدا يتوقع هذه الموافقة نظرا لأن مطور المشروع إيرفن سيلر لم تكن لديه خبرة بالعقارات التي يزيد ارتفاعها على ثلاثة طوابق، كما كان يفتقر إلى التمويل.

هكذا دخل الاستثمار القطري على الخط وبعد الموافقة على المشروع جاء دور التمويل الذي ساهمت فيه مجموعة «سيلر» العقارية وصندوق عائلة رجل الأعمال السوري سيمون حلبي لتدبير مبلغ 196 مليون جنيه إسترليني لشراء الأرض ودفع تعويضات لبعض مستأجري المكاتب في الموقع.

وفي سبتمبر (أيلول) عام 2007 بدأت أعمال إزالة المبنى القديم، ولكن الأزمة المالية سرعان ما غيرت المعادلات واضطر «صندوق حلبي» للانسحاب من المشروع الذي توقف تماما لعدة شهور حتى يتم تدبير التمويل. وهنا دخل الاستثمار القطري إلى المعادلة وساهم بمبلغ 180 مليون جنيه إسترليني للحصول على 80 في المائة من المشروع مقابل المساهمة في التمويل الذي كان مطلوبا من أجل بداية الإنشاءات. وشارك في تمويل المشروع بنك قطر الوطني و«كيوإنفست» للاستثمار، وبنك قطر الإسلامي وشركة «بروة» القطرية للتعمير. واشترى الاستثمار القطري حصة حلبي وجزءا من حصة «سيلر». واستؤنفت أعمال هدم المبنى القديم في عام 2008. ثم تم توقيع التعاقد مع شركة «ميس» في عام 2009 لكي تبدأ أعمال البناء في صفقة بلغ حجمها 435 مليون جنيه إسترليني.

من ناحيته، أكمل رينزو بيانو تصميمه وقال إن الزجاج سوف يعكس الضوء وحالة الطقس على نحو متغير بحيث تتغير ملامح المبنى الجديد وفقا لحالة الطقس. وتعد الناطحة أول مشروع عالمي بهذا الحجم يأخذ في الاعتبار توصيات المعهد الأميركي للمقاييس والتكنولوجيا الذي أصدر توصيات لمنع تكرار انهيار ناطحات السحاب على غرار ما وقع لبرجي التجارة في نيويورك بعد الهجمات الإرهابية.

ومن المتوقع أن تجذب شرفات المشاهدة في الطابق الأعلى للناطحة نحو مليوني زائر سنويا. وسوف تقام العديد من المنشآت الأخرى في المنطقة لتطويرها كما يعاد بناء محطة السكك الحديدية والمنطقة المحيطة بها التي تضم متحفا والعديد من المنافذ التسويقية والترفيهية.

وتعمل خمس روافع في عمليات البناء حاليا، ويتكون المبنى من قلب من الإسمنت المسلح يرتفع ثلاثة أمتار يوميا. وبلغ ارتفاع هذا القلب الإسمنتي المسلح نحو 245 مترا حتى الآن، وهو ما يعتبر أعلى نقطة في لندن. ويتم الآن بناء الأرضيات للطوابق المختلفة وكسوة المبنى بالزجاج المزدوج. وانتهى الرقم القياسي الذي ظل مبنى «كناري وارف» المعروف باسم «وان كندا سكوير» يحمله لمدة 18 عاما، كأعلى مبنى بريطاني على الإطلاق. ويستطيع زائر لندن الآن أن يرى «شارد» من أي مكان في لندن، خصوصا من المواقع العالية في الـ«سيتي» أو من فوق عجلة لندن «لندن آي».

ومنذ بداية عمليات البناء حقق «شارد» العديد من الأرقام القياسية بالفعل، فهو مثلا أول مشروع للمصمم الإيطالي بيانو في بريطانيا، وهو أول بناء يتم العمل فيه بالتوازي بين قلب المبنى وقشرته الزجاجية الخارجية في الوقت نفسه. وهو المبنى الوحيد الذي استمر فيه صب الإسمنت المسلح بلا توقف لمدة 36 ساعة ثم خلالها صب 5500 متر مكعب من الإسمنت الجاهز. وتقف على قمة المبنى حاليا أعلى رافعة في بريطانيا على ارتفاع 255 مترا.

ومن المهم إدراك أن المشروع لا يقتصر على الناطحة وحدها؛ وإنما يشمل استثمارات قيمتها ملياري جنيه إسترليني لتطوير الموقع والمنطقة المحيطة. وسوف تتحول محطة القطارات إلى مركز حديث للمواصلات يستخدمه يوميا قرابة 400 ألف شخص.

وتبدو أهمية «شارد» أيضا في موقعه جنوب نهر التيمس على الجانب الآخر من الحي المالي، أو الـ«سيتي»، وهي منطقة لم تحظ بالأولوية في الماضي في جوانب التطوير والاستثمار العقاري. وتحاول السلطات المحلية في المنطقة تسويقها على أساس أنها المركز المالي الثاني في لندن. ويصف مصمم «شارد» المبنى بأنه ينبع من الخيال حيث يرتبط بالأرض ويعكس الطقس ويعانق السماء.

والى جوار الناطحة سوف يبنى مجمع آخر صممه أيضا بيانو بتكلفة 120 مليون جنيه إسترليني لتوفير مكاتب وبلازا تضم محطة للمواصلات العامة إلى جانب محطة القطارات بالإضافة إلى العديد من منافذ البيع. وتسهم مؤسسة السكك الحديدة في تطوير محطة القطارات نفسها بمبلغ 700 مليون جنيه إسترليني. وتقام أيضا عشرات المشروعات القريبة على أمل أن تساهم الناطحة في تشجيع الاقتصاد المحلي في المنطقة وترفع أسعار الإيجارات فيه بالإضافة إلى رفع الطلب على السلع والخدمات.

ويقول جيمس سيلر، الرئيس التنفيذي لمجموعة «سيلر» التي تبني الناطحة إن التأثير الجانبي للمبنى العملاق سوف ينعكس على المنطقة بأسرها. وهو يؤكد أن الجهود التي تبذلها مجموعة «سيلر» الآن تنصب على الحفاظ على الشخصية الاعتبارية للموقع والحفاظ على تراث المنطقة.

ويعتقد مشجعو المشروع من السكان المحليين أن المنطقة مقبلة على مرحلة تحول هائلة خلال السنوات الخمس المقبلة. من معالم هذا التغير ارتفاع قيمة العقار وزيادة موارد الدخل من العاملين في المبنى وزيادة الخدمات المتاحة لهم من المشاريع الجديدة التي تفتتح قرب الموقع. كما أن توسيع محطة القطارات سوف يشجع على الحضور إلى المنطقة إن لم يكن بغرض العمل أو المعيشة فسوف يكون كنقطة سياحية للاطلاع على معالم لندن من أعلى ناطحة سحاب فيها.

وسوف تتوفر مساحة مائة ألف قدم مربع من مساحات مخصصة للمنافذ التجارية على عدة طوابق ترتبط بمحطة القطارات. كما تظهر في الشوارع المحيطة عدة بنايات للاستخدام المختلط بين مكاتب ومساكن، بعضها حصل بالفعل على تراخيص بناء والآخر ينتظر دوره.

ولكن هناك أيضا من يعترض على المشروع. من هؤلاء العديد من هيئات الدعم الاجتماعي والجمعيات الفنية والثقافية التي اضطرت للرحيل من مواقعها القديمة بالقرب من محطة القطارات والتوجه لمواقع بعيدة تناسب إمكاناتها المحدودة. وتثير هذه الجمعيات المخاوف من أن أهل المنطقة الأصليين لن يستفيدوا من عمليات التطوير الجارية وقد يضطرون لمغادرة المكان إلى أحياء أخرى. ويشكو بعض السكان المحليين من أن المنطقة سوف تتوجه لخدمة السياح وأن ذلك سوف يكون على حساب أهل المنطقة. ويعبر أهل المنطقة عبر منتدى على الإنترنت عن هذه المشاعر السلبية بالعديد من المداخلات حول المشروع. أحدهم عبر عن مشاعره بالقول إن هذه الناطحة التي تشبه الزجاج المدبب ليست إلا طعنة في قلب لندن! ويعترف المهندس المعماري المحلي هاري فيليبس، وهو أحد الأعضاء الناشطين في المنتدى، بأن أهل المنطقة يعرفون تفاصيل المشروع ويدركون فوائده على المنطقة ولكن يخالجهم شعور أن المشروع تم فرضه عليهم بلا استشارة، وأنهم فقدوا رأيهم في التحولات التي تحدث في حيهم. وأشار إلى أن الشرط القانوني الذي يفرض على المشاريع المعمارية الكبيرة في بريطانيا أن تدعم مشروعات تفيد المجتمع المحلي تم تطبيقه في حالة «شارد» ولكن لتطوير محطة السكك الحديدية التي تعد جزءا من المشروع بينما كان السكان يتوقعون مشروعا للإسكان الشعبي. وهو يعتقد أن المنطقة خسرت الكثير من البنايات التاريخية التي أزيلت من موقع المشروع.

والشيء المؤكد هو أن «شارد» سوف يغير معالم لندن وسوف يضع كل البنايات الأخرى في حجمها الطبيعي. وهي لا تتبع أي منطق عمراني ولا انسجام بما حولها. فالبعض يعتقد أنها على الجانب الخطأ من النهر وأنها تقع في منطقة فقيرة نسبيا. والبعض الآخر يتساءل عن سر حصولها على ترخيص البناء في وقت رفضت فيه تراخيص ناطحات أقل ارتفاعا في مواقع أخرى. ولكن في لندن لا تبدو قوانين البناء واضحة، وإنما تعتمد على الكثير من المناقشات واللجان، ليس على قواعد البناء وأصوله، وإنما على جمال التصميم وتأثيره في المنطقة المحيطة. والناطحة الجديدة هي في النهاية نتاج لفكرة بريطانية وتصميم إيطالي وتمويل قطري.

وفي العام المقبل سوف تكون الناطحة «شارد» هي أكبر مبنى في أوروبا، وتنتزع بذلك اللقب من بنك «كوميرز» الألماني في فرانكفورت الذي يصل ارتفاعه إلى 259 مترا، وكان البنك قد حقق اللقب في عام 1997. ومنذ ذلك التاريخ تفوقت ثلاث ناطحات سحاب أخرى في موسكو على البنك الألماني، ولكن ناطحة لندن سوف تتفوق على الجميع.

ولكن هذا الانتصار قد لا يدوم طويلا، حيث تخطط باريس لبناء ناطحة في حي لاديفانس اسمها «آرميتاج بلازا» سوف تكون هي الأعلى في أوروبا بارتفاع 323 مترا!