«شارد».. أكبر ناطحة سحاب بلندن تكتمل في مايو المقبل

البعض يهاجمها ويصفها بأنها «طعنة في قلب لندن»

تصور لشكل الناطحة «شارد» عند اكتمالها في العام المقبل («الشرق الأوسط»)
TT

أكملت شركة مقاولات «ميس» بناء برج حديدي يشبه أبراج كهرباء الضغط العالي في مطار عسكري مهجور في مقاطعة يوركشاير البريطانية. ولكن التركيب الحديدي المعقد لم يكن إلا القمة المدببة التي سوف تكسو ذروة أعلى ناطحة سحاب في لندن، التي تسمى «شارد»، ورأت الشركة أن تجري «بروفة» لتركيب القطع الحديدية على سطح الأرض أولا والتقاط صور ثلاثية الأبعاد لها قبل أن تعيد تفكيكها ورفعها للتركيب على قمة «شارد» خلال الأسابيع المقبلة. ومن المقرر أن ينتهي بناء الناطحة «شارد» في شهر مايو (أيار) 2012، لكي تكون الأعلى في أوروبا. وهي من تصميم أحد أشهر مصممي العقارات في العالم حاليا، واسمه رينزو بيانو.

وقد حققت «شارد» الرقم القياسي لأعلى مبنى بريطاني حتى من قبل أن تكتمل، بعد أن تخطت ارتفاع 280 مترا وبلوغها الطابق رقم 72. وسوف تكون هذه الناطحة التي تشبه قطعة الزجاج المدببة، وتكتسب منها اسمها (Shard)، أحد معالم العاصمة البريطانية في المستقبل مثل مبنى «كناري وارف» أو ساعة «بيغ بن». وسوف تضم الناطحة الجديدة فندقا بدرجة «5 نجوم» وشققا خاصة ومكاتب ومطاعم ومقاهي. ويخصص الطابق 72 للمشاهدة، ويعلوه 15 طابقا أخرى لأغراض الصيانة والتكييف. ويتكلف المشروع نحو 450 مليون إسترليني. وسوف يكون الارتفاع النهائي للناطحة أعلى من ألف قدم.

وكان المبنى قد بدأ حياته باسم «لندن بريدج تاور»، نسبة إلى محطة السكك الحديدية المجاورة له، ولكنه سرعان ما اكتسب اسم التدليل «شارد» تيمنا بتصميمه الذي يشبه قطعة الزجاج المدببة. ويقع المبنى في حي ساذرك جنوب نهر التيمس بأقرب من محطة «لندن بريدج» للقطارات. وعندما يكتمل البناء في صيف 2012 سوف يصل ارتفاع الناطحة إلى 1017 قدما (310 أمتار) ويتكون من 72 طابقا بالإضافة إلى 15 طابقا إضافيا أعلاها للخدمة والصيانة. وجرى التصميم على شكل هرمي مدبب مغطى تماما بالزجاج. وسوف يخصص الطابق الأعلى لمشاهدة لندن من أعلى نقطة فيها. وقد اكتمل الآن تقريبا تركيب الغلاف الزجاجي للمبنى. ويمكن مشاهدة هذا المبنى من أي بقعة داخل لندن الآن، ويراقب ساكنو لندن ارتفاع البرج يوميا وتركيب لوحات الجسم الخارجي الزجاجية التي كادت تصل إلى قمته الآن.

ولن يقتصر المشروع الذي بدأ في عام 2009 على المبنى وحده بل سيعود بالتجديد الشامل على الحي الذي يقع فيه ويشمل تحديث محطة القطارات وتطوير شبكة مواصلات حديثة وبناء عشرات المنافذ التجارية والترفيهية التي توفر بنية تحتية تخدم هذا العقار الشامخ وتوفر وظائف لنحو 13 ألف عامل. وتعتقد أوساط عقار لندنية أن هذا المبنى سوف يكون له تأثير إيجابي على العاصمة كلها، بينما يصفه البعض بأنه «مدينة أفقية».

وتعد الناطحة أول مشروع عالمي بهذا الحجم يأخذ في الاعتبار توصيات المعهد الأميركي للمقاييس والتكنولوجيا الذي أصدر توصيات لمنع تكرار انهيار ناطحات السحاب على غرار ما وقع لبرجي التجارة في نيويورك بعد الهجمات الإرهابية في عام 2001.

ولكن المبنى لا يتمتع بإعجاب كل سكان لندن أو إعلامها. فقد كتب كثيرون في هجاء المبنى على أساس أنه يشوه وجه العاصمة ولا يتناسب مع العقارات التي تقع حوله. وكتب الصحافي جوناثان جونز في صحيفة «الغارديان» أن «(شارد) ليس إلا مأساة عقارية»! وأضاف أن المبنى يبدو وكأنه خنجر طعنت به المدينة. وعلل الكاتب هجومه على المبنى بأن لندن تعاني من الفوارق الطبقية والمظاهرات المخربة التي وقعت في الصيف الماضي في الوقت الذي تقول فيه هذه الناطحة إن الثروة هي عنوان النجاح والقوة في لندن، وإن سكان الناطحات يعيشون في عالم عاجي أو زجاجي آخر غير عالم الشوارع التي يقع فيها التخريب.

ولكن قصة «شارد» هي أبعد ما تكون عن تحكم الثروة، فالمستثمر وراء الفكرة هو رجل الأعمال ايرفن سيللر الذي قرر تطوير البناء القديم الذي كان يضم مكاتب يعود تاريخها إلى السبعينات من القرن الماضي. وذهب سيللر إلى برلين في عام 2000 للقاء المصمم بيانو الذي أسهم في بناء مركز بومبيدو في باريس. وأثناء اللقاء على الغداء رسم بيانو تصميم المبنى على هذا الشكل الذي استوحاه من خطوط السكك الحديدية المجاورة للمبنى ومن لوحة تاريخية للندن من عصر النهضة وأيضا من شراع السفن التي كانت تجوب النهر في القرنين السابع والثامن عشر.

ولكن كالعادة في لندن، اعترض المجلس المحلي على التصميم وعلى الارتفاع خوفا على ملامح العاصمة وتراثها. وأجرت الحكومة تحقيقا في المشروع عام 2002 ثم صدرت الموافقة عليه من مكتب نائب رئيس الوزراء في عام 2003 بفضل «تصميمه غير العادي الذي يرفع من قيمة العاصمة». ولم يكن أحد يتوقع هذه الموافقة نظرا لأن مطور المشروع، ايرفن سيللر، لم تكن لديه خبرة بالعقارات التي يزيد ارتفاعها على 3 طوابق، كما كان يفتقر إلى التمويل.

وبعد الموافقة على المشروع جاء دور التمويل الذي أسهمت فيه مجموعة سيللر العقارية و«صندوق عائلة حلبي» لتدبير مبلغ 196 مليون إسترليني لشراء الأرض ودفع تعويضات لبعض مستأجري المكاتب في الموقع.

وفي سبتمبر (أيلول) عام 2007 بدأت أعمال إزالة المبنى القديم، ولكن الأزمة المالية سرعان ما غيرت المعادلات واضطر «صندوق حلبي» للانسحاب من المشروع الذي توقف تماما لعدة شهور حتى يتم تدبير التمويل. وهنا دخل الاستثمار القطري إلى المعادلة وأسهم بمبلغ 180 مليون جنيه إسترليني للحصول على 80 في المائة من المشروع مقابل الإسهام في التمويل الذي كان مطلوبا من أجل بداية الإنشاءات. وشارك في تمويل المشروع بنك قطر الوطني و«كيوانفست» للاستثمار، وبنك قطر الإسلامي وشركة «بروة» القطرية للتعمير. واشترى الاستثمار القطري حصة حلبي وجزء من حصة سيللر. واستؤنفت أعمال هدم المبنى القديم في عام 2008. ثم تم توقيع التعاقد مع شركة «ميس» في عام 2009 لكي تبدأ أعمال البناء في صفقة بلغ حجمها 435 مليون جنيه إسترليني.

من ناحيته أكمل رينزو بيانو تصميمه، وقال إن الزجاج سوف يعكس الضوء وحالة الطقس على نحو متغير بحيث تتغير ملامح المبنى الجديد وفقا لحالة الطقس. ومن المتوقع أن تجذب شرفات المشاهدة في الطابق الأعلى للناطحة نحو مليوني زائر سنويا. وسوف تقام العديد من المنشآت الأخرى في المنطقة لتطويرها كما يعاد بناء محطة السكك الحديدية والمنطقة المحيطة بها التي تضم متحفا والعديد من المنافذ التسويقية والترفيهية.

وتعمل عدة روافع في عمليات البناء حاليا، حيث يتكون المبنى من قلب من الإسمنت المسلح. بلغ ارتفاعه حتى الآن نحو 280 مترا، وهو ما يعتبر أعلى نقطة في لندن. ويتم الآن بناء الأرضيات للطوابق المختلفة وكسوة المبنى بالزجاج المزدوج. وحطم «شارد» الرقم القياسي الذي ظل مبنى «كناري وارف» المعروف باسم «وان كندا سكوير» يحمله لمدة 18 عاما، كأعلى مبنى بريطاني. ويستطيع زائر لندن الآن أن يرى «شارد» من أي مكان في لندن، خصوصا من المواقع العالية في «السيتي»، أو من فوق عجلة لندن «لندن آي».

ومنذ بداية عمليات البناء حققت الناطحة «شارد» العديد من الأرقام القياسية بالفعل، فهي مثلا أول مشروع للمصمم الإيطالي بيانو في بريطانيا، وهو أول بناء يتم العمل فيه بالتوازي بين قلب المبنى وقشرته الزجاجية الخارجية في الوقت نفسه. وهو المبنى الوحيد الذي استمر فيه صب الإسمنت المسلح بلا توقف لمدة 36 ساعة ثم خلالها صب 5500 متر مكعب من الإسمنت الجاهز. وتقف على قمة المبنى حاليا أعلى رافعة في بريطانيا على ارتفاع 1017 قدما.

وتبدو أهمية «شارد» أيضا في موقعه جنوب نهر التيمس على الجانب الآخر من الحي المالي، أو «السيتي»، وفي الماضي لم يحظ جنوب النهر بالأولوية في جوانب التطوير والاستثمار العقاري. وتحاول السلطات المحلية في المنطقة تسويق الناطحة على أساس أنها المركز المالي الجديد في لندن. ويصف مصمم «شارد» المبنى بأنه ينبع من الخيال حيث يرتبط بالأرض ويعكس الطقس ويعانق السماء.

ويقول جيمس سيللر، الرئيس التنفيذي لمجموعة «سيللر»، التي تبني الناطحة، إن التأثير الجانبي للمبنى العملاق سوف ينعكس على المنطقة بأسرها، مؤكدا أن الجهود التي تبذلها مجموعة «سيللر» الآن تنصب على الحفاظ على شخصية الموقع والحفاظ على تراث المنطقة.

ويعتقد مشجعو المشروع من السكان المحليين أن المنطقة مقبلة على مرحلة تحول هائل خلال السنوات الـ5 المقبلة. من معالم هذا التغير ارتفاع قيمة العقار وزيادة موارد الدخل من إنفاق العاملين في المبنى في السلع والخدمات المحلية، وزيادة الخدمات المتاحة لهم من المشاريع الجديدة التي تفتتح قرب الموقع. كما أن توسيع محطة القطارات سوف يشجع على الحضور إلى المنطقة أن لم يكن بغرض العمل أو المعيشة فسوف يكون كنقطة سياحية للاطلاع على معالم لندن من أعلى ناطحة سحاب فيها.

وسوف تتوفر مساحة 100 ألف قدم مربع من مساحات مخصصة للمنافذ التجارية على عدة طوابق ترتبط بمحطة القطارات. كما تظهر في الشوارع المحيطة عدة بنايات للاستخدام المختلط بين مكاتب ومساكن، بعضها حصل بالفعل على تراخيص بناء والبعض الآخر ينتظر دوره.

ولكن هناك أيضا من يعترض على المشروع. من هؤلاء العديد من هيئات الدعم الاجتماعي والجمعيات الفنية والثقافية التي اضطرت للرحيل من مواقعها القديمة بالقرب من محطة القطارات والتوجه لمواقع بعيدة تناسب إمكانياتها المحدودة. وتثير هذه الجمعيات المخاوف من أن أهل المنطقة الأصليين لن يستفيدوا من عمليات التطوير الجارية، وقد يضطرون لمغادرة المكان إلى أحياء أخرى. ويشكو بعض السكان المحليين أن المنطقة سوف تتوجه لخدمة السياح، وأن ذلك سوف يكون على حساب أهل المنطقة. ويعبر أهل المنطقة عبر منتدى على الإنترنت عن هذه المشاعر السلبية بالعديد من المداخلات حول المشروع.

ويعترف المهندس المعماري المحلي هاري فيليبس، وهو أحد الأعضاء الناشطين في المنتدى، أن أهل المنطقة يعرفون تفاصيل المشروع ويدركون فوائده على المنطقة ولكن يخالهم شعور أن المشروع تم فرضه عليهم بلا استشارة، وأنهم فقدوا رأيهم في التحولات التي تحدث في حيهم. وأشار إلى أن الشرط القانوني الذي يفرض على المشاريع المعمارية الكبيرة في بريطانيا أن تدعم مشاريع تفيد المجتمع المحلي تم تطبيقه في حالة «شارد»، ولكن لتطوير محطة السكك الحديدية التي تعد جزءا من المشروع بينما كان السكان يتوقعون مشروعا للإسكان الشعبي. وهو يعتقد أن المنطقة خسرت الكثير من البنايات التاريخية التي أزيلت من موقع المشروع.

والشيء المؤكد هو أن «شارد» سوف تغير معالم لندن وسوف تضع كل البنايات الأخرى في حجمها الطبيعي. وهي لا تتبع أي منطق عمراني ولا انسجام بما حولها. فالبعض يعتقد أنها على الجانب الخطأ من النهر، وأنها تقع في منطقة فقيرة نسبيا. والبعض الآخر يتساءل عن سر حصولها على ترخيص البناء في وقت رفضت فيه تراخيص ناطحات أقل ارتفاعا في مواقع أخرى. ولكن في لندن لا تبدو قوانين البناء واضحة بل تعتمد على الكثير من المناقشات واللجان، ليس على قواعد البناء وأصوله، وإنما على جمال التصميم وتأثيره في المنطقة المحيطة. والناطحة الجديدة هي في النهاية نتاج لفكرة بريطانية وتصميم إيطالي وتمويل قطري.

وفي شهر مايو (أيار) المقبل سوف تحتفل الناطحة «شارد» بلقب أكبر مبنى في الاتحاد الأوروبي، وتنتزع بذلك اللقب الذي ظل يحمله بنك «كوميرز» الألماني في فرانكفورت منذ عام 1997، ويصل ارتفاعه إلى 259 مترا.

* الناطحة «شارد» بالأرقام - الارتفاع: 1017 قدما (310 أمتار) - عدد الطوابق: 72 طابقا، أعلاها لمشاهدة معالم لندن - المساحة الداخلية: 600 ألف قدم مربع - بدأ المشروع في عام 2009 وينتهي في عام 2012 - يحمل المبني أعلى رافعة بناء في بريطانيا حاليا على ارتفاع 280 مترا - يملك الاستثمار القطري 80 في المائة من المشروع - توفر الناطحة وملحقاتها وظائف لنحو 13 ألف عامل