لندن «ملجأ آمن» للاستثمارات العقارية وسط تراجع اقتصادات أوروبا

أزمة اليورو وأسواق العقار في 2012

جانب من حي المال في لندن حيث تتدفق الاستثمارات العقارية
TT

القول المأثور بين خبراء العقار في مطلع عام 2012 هو أن «ثبات الأسعار هو النمو الجديد»، ويعني هذا أن استقرار الأسعار وعدم تدهورها هو مكسب في حد ذاته خلال عام 2012 الذي لا يتوقع له أحد أن يكون أفضل من سابقه، وربما يكون أسوأ. والسحابة السوداء التي تحيط بأسواق العقار الأوروبية هي بالطبع أزمة اليورو والديون السيادية الأوروبية التي لم يجد لها ساسة أوروبا بعد حلولا مقنعة. وتنعكس هذه الأزمة سلبيا على العقارات الأوروبية، خصوصا في إسبانيا وإيطاليا، بينما يحاول الأوروبيون الهروب منها باللجوء إلى لندن التي يعتبرونها ملجأ أمنا في العام الحالي.

وكانت أسعار العقار قد حافظت على تماسكها في بريطانيا وإلى حد ما في الدول الغربية بوجه عام خلال عام 2011 الأخير، وتأمل الأسواق أن يستمر هذا التماسك في العام الحالي، فهناك الكثير من العوامل الضاغطة على كل الأسواق، بما فيها بريطانيا أيضا، وهي صعوبة الحصول على القروض العقارية وانخفاض الثقة بين المستهلكين بسبب ارتفاع معدلات البطالة وتراجع الإنفاق الحكومي. وفي بريطانيا تشير إحصاءات تسجيل الأراضي إلى تراجع طفيف في أسعار العقارات. وتتأرجح التقديرات بين 1% من بنك هاليفاكس إلى 3.2% من مكتب تسجيل العقارات.

ولكن مع أخذ عقارات لندن في الحسبان فإن متوسط أسعار العقار البريطاني زادت بنسبة 1.6% في العام الماضي، مع اختلافات متباينة بين المناطق المختلفة. وكانت توقعات الخبراء صحيحة في ما يتعلق بتوقعات عام 2011 التي كان الرأي السائد في بداية العام الماضي أن التراجع الذي وقع في النصف الثاني من عام 2010 سوف يستمر وبنسبة تتراوح بين اثنين وثلاثة في المائة. وقد عكس ذلك صورة مقاربة لما حدث فعلا.

فماذا يقول هؤلاء عن عام 2012؟

في نهاية عام 2011 عقدت جمعية مهندسي العقار البريطانية مسحا بين أعضائها لسؤالهم عن آرائهم في أهم العوامل التي يعتقدون أنها تمنع انتعاش أسواق العقار في الوقت الحاضر. وأجابت نسبة 89% منهم بأن عدم الثقة في توجهات الاقتصاد البريطاني هو أهم العوامل. وهي نتيجة تزيد بنسبة 10% عن مخاوف العام الأسبق. وكان العامل الثاني هو صعوبة التمويل العقاري، وجاء بنسبة 70%، كما قالت نسبة 42% إن المشترين والمستثمرين يخشون من استمرار تراجع أسعار العقار، ولذلك يؤجلون قرارات الشراء. وليس من المتوقع أن تتغير أي من هذه العوامل في العام الجديد، خصوصا إذا ما استمرت المشكلات الأوروبية.

ووفقا لهيئة شركات بيع العقار البريطانية فإن أسعار العقار في عام 2012 سوف تكون مماثلة لما كانت عليه في عام 2011. وتواجه فئة المشترين الجدد أصعب التحديات في دخول سوق العقار. ويتوقع رئيس الهيئة بيتر بولتون كنغ أن ترى أسواق العقار تحسنا طفيفا في الأسعار خلال العام. ولا يخالف الرأي القائل إن الأسعار سوف تواجه انخفاضا، كما يستبعد تماما انتعاشا قويا في الأسعار. ويعلق بأن الأرجح هو أن تبقى الأسعار على حالها.

وفي بريطانيا يتوقع مجلس مقرضي العقار أن يتراجع عدد القروض العقارية في العام الحالي من 852 ألف قرض إلى 825 ألف قرض. أما القروض المتعثرة فسوف يرتفع عددها في العام الجديد من 166 ألفا في الوقت الحاضر إلى 180 ألفا. وسوف يتم الحجز على 45 ألف منزل في عام 2012 مقابل 37 ألفا في عام 2011. وتبدو هذه الأرقام ضخمة ولكنها في الواقع صغيرة مقارنة بحجم السوق البريطانية التي تضم نحو 11 مليون قرض عقاري.

ولكن هذه التوقعات لا تأخذ في الحسبان عوامل غير محسوبة مثل إمكانية انهيار اليورو ودخول البنوك في دوامة أزمة أكبر من تلك التي عصفت بها من قبل بسبب قروض «صب برايم» الأميركية التي تبلورت إلى أزمة مالية عالمية. ولو حدث ذلك، واضطرت إحدى الدول الأوروبية إلى إعلان عجزها عن سداد ديونها، فالانعكاسات سوف تكون شديدة السلبية على أسواق العقار، ربما على مستوى عالمي.

والسؤال الذي يراود الكثير من المشترين، سواء كانوا مستثمرين أو راغبين في الشراء من أجل السكن، هو: هل من الأفضل الشراء الآن أم الانتظار حتى تتراجع الأسعار أكثر، على اعتبار أن التمويل سوف يظل متاحا حينذاك؟ ويشير موقع العقار «رايت موف» إلى أن الأسعار لن تتحرك كثيرا في عام 2012 سواء للبائعين أو المشترين، وسوف تستمر السوق صعبة في عام 2012 مع زيادة طفيفة قدرها 2%.

ولكن رئيس شركة «رايت موف» مايلز شيبسايد يحذر من أن السوق ظلت لفترة طويلة تختبر قاع السوق بتراجع مرحلي للأسعار، وأن الوضع في عام 2012 يعتمد إلى حد كبير على وضع منطقة اليورو التي لو انهارت فيها العملة الأوروبية لانهارت معها جميع توقعات أسواق العقار.

وفي بنك هاليفاكس يقول الاقتصادي مارتن إيليس، الذي يتمتع بخبرة عقود في مجال العقار، إنه يتوقع عاما خاملا آخر في مجال العقار مع استقرار الأسعار على ما هي عليه خلال العام وعدم وجود توجه واضح للأسعار. ويعتقد آخرون في السوق، مثل جيرمين غيلمور من شركة «نايت فرانك» أن تتراجع الأسعار خلال العام الحالي بنسبة 5% عما كانت عليه في عام 2011. وهو يشير إلى أن تراجع الإنفاق الحكومي وتأثيراته السلبية على التوظيف والشركات سوف ينعكس سلبا أيضا على أسواق العقار.

ولكن من ناحية أخرى، تبدو متاعب أوروبا وكأنها دعوة جيدة للمستثمرين الأجانب لدخول الأسواق، خصوصا في القطاع الفاخر الذي تراجعت الأسعار فيه بشدة، وهناك بالفعل تزاحم بين الروس والصينيين، في ما يعتبرونه أفضل استثمار عقاري في الوقت الحاضر، فأسعار القصور الريفية الفرنسية مثلا تراجعت إلى مستويات أسعار متدنية لدرجة أن بعضها تراجع سعره من مليوني يورو إلى ما يقارب 900 ألف يورو. وهي قصور تاريخية يعود بعضها إلى القرون الوسطى، وهي تنتشر في أنحاء الريف الفرنسي وملحق بها مزارع كروم والكثير من الإسطبلات وحمامات السباحة والقاعات الرياضية.

هذه القصور ما زالت تقتصر على الأثرياء، وبعضهم لا يسعى إلى الربح، بل إلى «البرستيج»، فهي تضفي على مشتريها هالة ارستقراطية تفوق ما يمكن أن يحققه من أرباح استثمارية، لأنها تقول عنه إنه خرج من الأزمة العقارية السابقة في حال جيد وسيولة عالية ولم يتأثر بموجة الكساد العالمية.

ويضيف من جاذبية هذه القصور، والعقارات الفرنسية بوجه عام، تدني معدلات الفائدة على القروض العقارية الفرنسية التي لا تزيد في الوقت الحاضر عن 3% لكبار المستثمرين. ولا تمانع البنوك الفرنسية في إقراض الأجانب بضمان أصولهم والعقارات نفسها، وتقرض في العادة إلى نسبة 80% من قيمة العقارات.

ويفضل المستثمرون الأجانب المنطقة الواقعة بين مدينتي بوردو غربا وسارلانس شرقا. ويقول رئيس قسم العقارات الفرنسية في شركة «نايت فرانك»، ماثيو هودر ويليامز، إن البريطانيين يفضلون جنوب غربي فرنسا، ومن ضمنها منطقة غاسكوني بالقرب من جبال البيرانيز. أما بقية المستثمرين فلا يسعون نحو منطقة بعينها وإنما ينظرون إلى قيمة العقار نفسه وفائدته الاقتصادية.

ويركز الصينيون في استثماراتهم على القصور التي تضم مزارع كروم، وبغرض تصدير إنتاجها إلى الصين التي خفضت الضرائب على النبيذ المستورد مما يجعله استثمارا جيدا لهم. وهم يدخلون السوق على نطاق واسع، حيث يقول مندوب شراء عقاري فرنسي إن لديه عميلا من الصين ميزانيته 25 مليون يورو ويريد أن يشتري «شاتو» فرنسيا بمزارع كروم واسعة المساحة.

ولكن المخاوف من انهيار اليورو تدفع البعض الآخر لتجنب أوروبا في الوقت الحاضر والتوجه إلى لندن كملاذ آمن. وتؤكد شركة «نايت فرانك» على أهمية الاستثمار الأجنبي في لندن كمحرك لقطاع العقار فيها، وتقول إن هذا العامل ما زال فاعلا بقوة في السوق مع دخول أكثر من 60 جنسية سوق العقار اللندني في العام الأخير. ولكنها لا تهمل الاستثمار المحلي الذي ما زال يمثل نحو 45% من جملة الصفقات، خصوصا من المشترين في فئة المليون إلى خمسة ملايين إسترليني من قطاع الأعمال والبنوك. وهو يتوقع أن يستمر معدل الزيادة خلال هذا العام لأن سوق التوظيف في لندن ما زالت نشيطة حتى ولو تراجع الاستثمار الأجنبي في لندن.

وكان تقرير آخر من الشركة نفسها قد أشار إلى ارتفاع في أسعار عقارات لندن بنسبة 8.3% خلال العام الماضي. وأكد التقرير أن الاحياء الفاخرة في لندن زادت في قيمتها بنسبة 31.2% منذ شهر مارس (آذار) عام 2009. وتقود قمة النشاط في الأسواق اللندنية الآن عقارات في فئة المليون إلى خمسة ملايين إسترليني (1.5 إلى 7.5 مليون دولار)، وهو قطاع ارتفع بنسبة 4% خلال الربع الأخير من العام الماضي.

وينشط في سوق لندن حاليا قطاع جديد من المستثمرين الذين يدخلون السوق بحثا عن العقارات ذات القيمة الإيجارية العالية. ويحصل هؤلاء على شروط جيدة من البنوك، بعد أن كان الوضع مختلفا في الماضي. فحتى وقت قريب كانت البنوك تفرض رسوما إضافية على قروض شراء العقارات بغرض التأجير تزيد بنسبة 1% على الأقل عن القروض الإسكانية للمشترين الجدد أو المنتقلين من عقار سكني لآخر. وكان تعليل هذه التفرقة في المعاملة هو أن مخاطر الاستثمار العقاري أكبر من الاستخدام للسكن بسبب توسع بعض المقترضين عشوائيا وامتلاكهم لعدد كبير من العقارات، ولأن أسواق الإيجار عالية المخاطر مع احتمالات متزايدة لإفلاس هذا النوع من المستثمرين.

ويبدو أن المناخ تغير الآن حيث تفضل البنوك هذا النوع من المستثمرين عن المشترين الجدد وتقدم لهم امتيازات أفضل من صغار المشترين، فهي لا تشترط مثلا دفع ربع الثمن مقدما لشراء عقار، كما لا تفرض أي زيادات على فوائد القروض، بل تطرح لهم نسبا أقل لإغرائهم.