مراكز المال في العالم تزدهر عقاريا كـ«جزر معزولة عن بلدانها»

بسبب تنافس الأثرياء على المواقع الاستراتيجية والمساكن الفاخرة

عقارات المدن الرئيسية تحتفظ بقيمتها
TT

يبدو أن توليد الثروات من مدن الأعمال الرئيسية التي تعمل فيها بورصات العالم؛ أدى إلى تحول هذه المدن إلى مراكز نمو عقاري دولية منفصلة بذاتها، فيما يمكن تسميته «مدن سوبر». في هذه المدن يتحرك الاستثمار المالي الدولي بحرية، بينما تبقى الاقتصادات والمدن المحلية في إطارها المحدود والخامل. وتعزز هذا الانفصال في السنوات القليلة الماضية، مع ارتفاع عقاري هائل في المدن الرئيسية في العالم، وتراجع في بقية أنحاء البلاد التي تقع فيها هذه المدن.

وتقارن شركات العقار الدولية أسعار هذه المدن بعضها ببعض وليس ببقية أنحاء البلاد التي تقع فيها، فهي تعتبر أن مراكز المال والأعمال في العالم تنتمي إلى اقتصاد دولي له أدواته وعوامله المؤثرة التي لا يخضع لها الريف أو المدن الصغرى. وينطبق هذا القول خصوصا على الفئة العليا من العقار في هذه المدن التي يختار المستثمرون الإقامة في واحدة أو أكثر منها.

ويؤكد ليام بيلي، مدير الأبحاث العقارية في شركة «نايت فرنك»، أن تبلور هذه المدن يمثل دورة العقار الجديدة في العالم التي بدأت بالفعل في صيغة طبقة عقارية جديدة على مستوى العالم يتصارع عليها الأثرياء، خصوصا على المناطق الراقية والعناوين المبهرة في هذه المدن. وينظر كبار المستثمرين إلى هذه المدن على أنها أعلى فئات الاستثمار وأكثرها أمانا وحفاظا على القيمة. وترى يولاند باريز، من شركة «سافيلز»، أن هذه المدن تمثل قارة افتراضية يحرك منها الأثرياء أسواق العالم.

أما بقية أسواق العقار، خصوصا في الغرب، فما زالت تعاني من الكساد بسبب تراجع النمو الاقتصادي ونهاية فترة الحوافز التي كانت الحكومات قد قدمتها لدعم الاقتصادات المحلية. وفي كثير من المدن الصغرى لم تتعافَ العقارات بعد من صدمة عام 2008. وتتراوح درجات الانهيار بين دولة وأخرى وفقا لمدى التوسع العشوائي الذي جرى أثناء فترة الانتعاش. وكانت أسوأ الحالات الأوروبية للتوسع العقاري العشوائي أثناء فترة الانتعاش في إسبانيا، التي حاولت سفارتها في لندن، خلال صيف العام الماضي، أن تشجع المستثمرين على شراء العقار الإسباني وسط استخفاف أوساط العقار في لندن بهذا الجهد اليائس. واعتمدت إسبانيا في توسعها على صناعة السياحة التي ما إن تراجعت حتى اكتشف مطورو العقار أن ثلث العقارات بقيت غير مبيعة، وهي نسبة تمثل نسبة كبيرة من حجم العقارات السياحية في البلاد.

وما زالت الفوائض العقارية تمثل عقبة أمام نمو الكثير من أسواق العقار في العالم. وفي الصين، توجد أحياء كاملة أنشئت في فترة الطفرة على توقعات هجرة مكثفة من الريف إلى أطراف المدن، ولم تتحقق التوقعات وبقيت هذه العقارات شاغرة.

وحتى في الولايات المتحدة ما زال الكثير من المدن الصغيرة تعاني من الكساد وتبقى فيها عقارات بنيت في مواقع غير مناسبة شاغرة بلا مشترين. ويزداد الموقف سوءا مع ضغوط البنوك لاستعادة قروضها ومحاولات يائسة من مستثمري العقار للبيع تحت ضغوط الديون. ولا يختلف الأمر كثيرا في مدن آيرلندا التي ما زالت ترزح تحت وطأة الكساد وتستقر الأسعار فيها عند أدنى حدود وصلتها خلال الأزمة. كذلك تعاني دول الشمال الإنجليزي من مشكلة تراجع الأسعار بلا هوادة منذ عام 2008.

وفي مراجعة لما حدث في أسواق العالم وجدت شركة «نايت فرنك» أن سنوات الطفرة أدت إلى أعمال بناء مكثفة في مناطق خطأ ولا تراعي الظروف المحلية. وكانت الزيادة العشوائية واضحة للعيان في القطاع الفاخر الذي توسع بشدة من دون وجود الطلب المحلي الذي يوفر له الاستمرارية. وفي حين يمكن لهذه الفوائض العقارية أن تعرقل نمو الأسواق لسنوات مقبلة، فإن نقص العقارات المناسبة في المدن الرئيسية هو الذي يعزز من القيمة في المدن الكبرى.

ويشرح بيلي وضع العقار في مدينة مثل لندن بالقول إن من المستحيل إيجاد المزيد من العقارات الفاخرة في مناطق مثل ايتون سكوير أو نايتس برديج أو مايفير. ويتكرر الوضع في باريس في المثلث الذهبي الذي يحده الشانزليزيه وشارع جورج الخامس وشارع مونتاني.

ولكن هذه الإمدادات المحدودة من العقارات الفاخرة المتميزة قابلها طلب متصاعد من رجال المال الذين توسعوا في أنشطتهم وكونوا ثروات طائلة على مر السنين.

وتنتعش المدن العالمية أيضا لأن أسباب انحطاط أسواق العقار الدولية لا تؤثر فيها بالدرجة نفسها. من هذه الأسباب: سوق إقراض عقارية بها الكثير من الخلل، نهاية فترة ضخ الأموال في الاقتصاد الغربي لتشجيع السيولة، وارتفاع نسبة البطالة، مع توجه تصاعدي لأسعار الفائدة، فإن المدن الرئيسية تعتمد على رجال الأعمال الدوليين والمحليين الذين لا يعانون من ندرة السيولة.

وفي هونغ كونغ مثلا ظلت الأسعار قوية بفضل الطلب المتزايد من قطاع الأعمال في الصين الذي يبحث عن موقع مضمون للثروات الجديدة التي حققها. ومنذ عام 2008 الذي تراجعت فيه الأسعار، عاودت الأسعار ارتفاعها بنسبة 80 في المائة منذ ذلك الوقت. وهناك أيضا ارتباط بين الثروة الصينية وأسعار العقار في لندن وباريس، حيث يبحث كبار المستثمرين الصينيين عن موقع قدم لهم في أوروبا، ويبحث الصينيون دوما عن ملجأ آمن للاستثمار في المدن الكبرى في العالم.

ويؤكد روبرت بارتليت، من شركة «تشسترتون» العقارية، أن هناك طلبا هائلا من الشرق الأقصى والشرق الأوسط على العقارات في مدن الغرب، للحفاظ على القيمة الاستثمارية وتأمينها. وتقع لندن في المركز الأول لاختيار المستثمرين، تليها باريس ثم نيويورك. ويمثل الاستثمار الأجنبي نسبة 60 في المائة من العقارات الفاخرة في وسط لندن. وتضيف شركة «سافيلز» أن نسبة 70 في المائة من عقارات لندن التي يزيد سعرها على 10 ملايين إسترليني تباع إلى أجانب. وترى الشركة أن هناك علاقة طردية بين أسعار العقار في لندن وأسعار الذهب وإنجاز البورصات العالمية.

وتضيف الشركة أنها وجدت علاقة مماثلة بين أسعار النفط وأسعار العقار في وسط مدينة موسكو. وكلما ارتفع ثمن برميل النفط دولارا واحدا زاد سعر المتر المربع في موسكو نحو 200 دولار. وعندما تراجع الطلب العالمي على المواد الأولية والطاقة في عام 2008 أثناء فترة الأزمة المالية، سقطت أسعار العقار في موسكو بنسبة 40 في المائة من ذروتها في عام 2007. ويصل سعر المتر المربع في وسط موسكو خلال الربع الأول من عام 2012 إلى نحو 5700 دولار، أي ما يفوق معدل الأسعار في روسيا بثلاثة أضعاف.

ويقول ألكسندر شاتالوف، مدير فرع شركة «سافيلز» في العاصمة الروسية، إن موسكو بالنسبة للروس هي لندن بالنسبة لبقية أنحاء العالم. فالروس يستثمرون في العاصمة من أجل البحث عن موقع أفضل لأموالهم وضمان نمو هذه الاستثمارات. أما الأثرياء منهم فيتوجهون إلى مواقع الاستثمارات العالمية، ويفضلون على وجه الخصوص جنوب فرنسا. وهو ينصح مالكي العقار في موناكو بمتابعة أسعار الذهب والنفط لمعرفة توجهات الاستثمار في إمارتهم.

وتؤكد الإحصاءات أن الأسعار في المدن الكبرى زادت في السنوات الخمس الأخيرة بنسب أعلى من المتوسط السائد في الدول التي تقع فيها هذه المدن. وتقول إحصاءات شركة «سافيلز» إن أسعار لندن زادت بنسبة 26 في المائة مقابل متوسط بريطاني لا يزيد على ستة في المائة. وفي هونغ كونغ زادت الأسعار في السنوات الخمس الأخيرة بنسبة 95 في المائة مقابل نسبة 59 في المائة في أنحاء الصين. أما نيويورك فقد ثبتت الأسعار فيما تراجعت الأسعار الأميركية خلال الفترة نفسها بنحو 26 في المائة.

وتثبت هذه التوجهات أبحاث من شركة «نايت فرنك»، حيث إن أسعار المدن الرئيسية تنفصل في تسعيرها الآن عن معدل أسعار العقار السائدة بسبب التفاوت الحاصل بين العرض المحدود والطلب العالمي المتصاعد على العقارات. وينطبق هذا المبدأ خصوصا على مدن مثل لندن وباريس وزيوريخ ومانهاتن (نيويورك) وجنيف وهونغ كونغ. والعقار الفاخر في هذه المدن يجذب المشتري الدولي بقدر ما يجذب الأثرياء المحليين؛ ولذلك فإن أسعار هذه المدن لا يحدها الطلب المحلي، بل مدى الإقبال الدولي عليها، وهي ليست متطابقة في ارتفاعاتها السعرية، وإنما تتبع مسارا متقاربا.

وهناك عوامل مؤثرة في هذا الطلب العالمي على مدن الأعمال، أحدها هو العملة.. لندن مثلا استفادت من تدني قيمة الجنيه الإسترليني أمام الدولار فجذبت نسب عالية من الاستثمار العالمي المقوم بالدولار، سواء من دول الخليج أو روسيا والصين. وبالمقابل فإن حي مانهاتن المالي في نيويورك والمدن الأميركية الكبرى لم تجذب سوى نسبة 15 في المائة فقط من الاستثمار الأجنبي.

وتحذر شركة «نايت فرنك» من أن الاستثمار في مدن المال والأعمال الدولية ليس محصنا من الصدمات الاقتصادية، وهناك الكثير من المخاطر المصاحبة لمثل هذا النوع من الاستثمار، مثل صدمات تراجع البورصات أو النفط. وكان أحد الأمثلة القريبة تراجعا نسبيا في قيمة العقارات بعد كارثة تسونامي اليابانية في ربيع العام الماضي. من المخاطر الأخرى ارتفاع أسعار الفائدة أو تشدد البنوك في الإقراض، فحتى الطبقات الثرية تلجأ إلى الاقتراض أحيانا لتمويل الاستثمارات، ولا تدفع نقدا بالكامل إذا لم تكن مضطرة لذلك. وهناك بالطبع مخاطر أخرى مثل حجم الديون الحكومية في الغرب وأزمة اليورو وتفاعلاتها، واحتمال انفجار الفقاعة العقارية في الشرق الأقصى بعد فترة انتعاش طويلة.

ولكن كل هذه العوامل ساهمت في تحديد نسب النمو وليس في عكس النمو إلى خسائر، وسوف يستمر الطلب المتصاعد في دفع أسعار المدن إلى آفاق أعلى. ويعتقد بيلي أن سعر القدم المربع الواحد في لندن سوف يصل إلى عشرة آلاف إسترليني قبل نهاية العقد الحالي، بعدما وصلت الأسعار إلى ستة آلاف إسترليني، أو ما يعادلها، في كل من لندن وهونغ كونغ. وسوف يستمر الارتفاع في قيمة مدن الأعمال الدولية، خصوصا مع تألق إنجاز بورصات الدول الناشئة الذي سوف ينعكس إيجابيا على أسعار مدن الأعمال في العالم.

من العوامل المؤثرة أيضا ما يتعلق بالقرارات الحكومية أو الضرائب.. في الصين اتخذت الحكومة الصينية بعض إجراءات الحد من المضاربة على أسعار العقار من أجل تهدئة السوق التي كانت الأسعار فيها ترتفع بنسبة 54 في المائة سنويا حتى عام 2010. وبعد تطبيق هذه الإجراءات انخفضت نسبة النمو إلى 11.5 في المائة، ليس فقط في مدن الصين، وإنما أيضا في سنغافورة بالإضافة إلى هونغ كونغ ذات الإدارة الذاتية. واتسعت تداعيات هذا التراجع الآسيوي إلى مدن العالم الأخرى، وفقا لإحصاءات «نايت فرنك» لعام 2011. وفي الشهور الأخيرة من العام الماضي تراجعت نسب النمو كثيرا في كل من موسكو ونيويورك. واستمر التراجع هذا العام في مدن آسيا بفعل كارثة تسونامي اليابانية مع ارتفاع تكاليف الإقراض المحلي. كما تراجع حجم الصفقات في مدن الصين بسبب إجراءات حكومية أخرى تقضي برفض طلبات الاستثمار العقاري لأكثر من عقار في المدينة نفسها.

من العوامل الضريبية المؤثرة، التراجع في الإقبال على العقارات السويسرية بعد انتشار تكهنات بأن الحكومة السويسرية بصدد رفع الضرائب العقارية على الأجانب. ووفقا لجدول زيادة الأسعار خلال الربع الأول من عام 2011، في دراسة من شركة «نايت فرنك»، جاءت باريس في المركز الأول بنسبة نمو سعري بلغت 22.2 في المائة، تليها هونغ كونغ بنسبة 15 في المائة، وهلسنكي بنسبة 12.2 في المائة، ثم شنغهاي (11 في المائة) وبكين (10 في المائة) ولندن (8.6 في المائة). وكانت أقل مدن الأعمال نموا في الفترة نفسها نيويورك التي ارتفعت بنسبة واحد في المائة فقط.