هل يثير تدفق الأثرياء على عقارات المدن موجة إحباط؟

آراء متضاربة لخبراء العقار

العقارات الفاخرة تتوجه في معظمها للأجانب وكاميلا ديل
TT

بدأت معالم موجة إحباط تظهر في العواصم العالمية ومراكز المال التي تعاني من ارتفاع جنوني في أسعار العقارات الفاخرة على الرغم من الكساد الذي يعم قطاعات العقار في الدول الصناعية بوجه عام. ولا يتعلق الإحباط فقط بالأسعار، وإنما أيضا بتغيير معالم وطبيعة المدن التي تستقبل الاستثمار الأجنبي بكثافة، مما يزعج الكثير من الأطراف المحلية التي تنظر إلى هذه المدن بعين عاطفية، وليس فقط من زاوية استثمارية. ومع ذلك اختلفت خبيرة عقارية في لندن على هذا التحليل في تعليق لـ«الشرق الأوسط»، وقالت إن الأثرياء يفيدون المدن واقتصاد الدول التي يستثمرون فيها.

ويقول المستشار ديفيد آدامز، الذي يعمل في لندن، إن نجاح العولمة في بعض المدن الرئيسية كان له الكثير من الانعكاسات على السكان المحليين. وأضاف أن التحدي في المستقبل سوف يكون في كيفية استفادة الاقتصادات المحلية من هذه الاستثمارات بدلا من تركها خاوية لصالح حفنة من الأثرياء الغائبين عن عقاراتهم معظم فترات العام.

ويعترض بعض الأثرياء المحليين على تغيير طبيعة المناطق التي يسكنونها بسبب الاستثمار الأجنبي المكثف فيها والتغييرات المعمارية التي تحدث في المنطقة بسبب كثافة الاستثمار الأجنبي. فحتى كبار المعماريين ينفذون أحيانا تصميمات ومشاريع هم غير راضين عنها لأنها تخضع لمطالب العميل. ويصف أحد الأثرياء البريطانيين هذه الظاهرة بأنها بمثابة تشويه لشخصية المناطق العقارية التقليدية وتحويلها إلى مناطق مهجورة مثل وسط المدن المليئة بالمكاتب الشاغرة بعد نهاية الدوام.

وبسبب طبيعة حياة كبار الأثرياء الذين يقضون أوقاتهم في تنقل دائم بين المدن المختلفة، فإن العقارات تظل شاغرة معظم فترات العام. ويفضل الأثرياء سويسرا في الصيف، ولندن أثناء المناسبات الاجتماعية والرياضية، والبحر الكاريبي أثناء العطلات. وتتهم بعض المصادر المحلية هؤلاء الأثرياء بأنهم السبب في ندرة وجود العقارات الملائمة داخل المدن وغلاء أسعار عقارات القطاع الفاخر، وعدم استفادة المدن من العقارات الشاغرة لأن أصحابها ينفقون أموالهم في المواقع التي يتنقلون بينها ويحرمون منها الاقتصاد المحلي. وبدأ الأثرياء القدامى وأفراد من الطبقات المتوسطة يعبرون عن احتجاجهم في الكثير من المناسبات من تأثير وجود كبار الأثرياء في مدنهم والتأثير السلبي الذي تسبب فيه هؤلاء، خصوصا أنهم لا يدفعون ضرائب ولا يفيدون الأعمال والشركات المحلية.

وهناك مظاهر أخرى لسلبيات الاستثمار الأجنبي الغائب في المدن العالمية، وهو أن المجالس المحلية تواصل خفض الخدمات وتقليص منافذها، مثل مكاتب البريد، لأنها تفيض عن الحاجة المحلية بعد هجرة الكثير من المقيمين الدائمين من المنطقة وبيع عقاراتهم للمستثمرين الأجانب.

ومن الناحية الاجتماعية لا يوجد أي احتكاك بين المستثمرين الأجانب والمواطنين المقيمين بصفة دائمة في مناطق الاستثمار الأجنبي. ويقبل المستثمرون الأجانب أحيانا على مدن مثل لندن أو نيويورك لمجرد أن أصدقاء لهم اشتروا في هذه المدن. وفي الوقت نفسه ليس لدى هؤلاء أي استعداد للتعرف على المجتمعات المحلية أو التعامل معها، فحتى طاقم الخدمة في العقارات الفاخرة يسافر مع الأثرياء إلى المدن المختلفة.

وإذا كان أطفال الأثرياء يتعلمون في المدارس المحلية فالآباء والأمهات لا يصطحبونهم مثل بقية الأسر المحلية، وإنما يقوم السائق بتوصيل الأطفال إلى أبواب المدارس في سيارات فاخرة ومصفحة.

وتجتمع كل هذه العوامل في تكوين رأي عام مضاد للاستثمار الأجنبي المكثف في المدن التي تسمي نفسها «مدن استثمار عالمية». وحتى في مدينة مفتوحة مثل هونغ كونغ زاد الاحتجاج فيها على زيادة الاستثمار من الصين الشعبية في عقاراتها الفاخرة وارتفاع هذه النسبة من 12 في المائة عام 2007 إلى 35 في المائة هذا العام.

وحتى الآن تقتصر هذه الظاهرة على مدن الأعمال العالمية التي تستقطب المزيد من الاستثمار الأجنبي على حساب الطلب المحلي الذي اضطر للخروج من السوق والبحث عن مواقع أخرى. وحتى الأثرياء القدامى من الأرستقراطيين المقيمين في هذه المدن أغراهم ارتفاع الأسعار فبدأوا موجة بيع وهجرة من المدن إلى مدن أصغر أو مناطق ريفية، حيث توفر لهم أموالهم مستويات معيشة أفضل.

وفي تحقيق خاص بها أشارت صحيفة «فاينانشيال تايمز» إلى نسب الطلب الأجنبي في قمة قطاع العقار في هذه المدن، الذي بلغ في حالة إمارة موناكو نسبة 100 في المائة للعقارات التي تزيد أسعارها على 18.9 مليون دولار. ويقبل على الإمارة الأثرياء الأوروبيون أحيانا لتجنب دفع الضرائب الباهظة في دول المنشأ التي ولدوا فيها.

وتأتي باريس في الترتيب الثاني من حيث نسبة الاستثمار الأجنبي فيها في القطاع الفاخر الذي تزيد فيه القيمة على 8.8 مليون دولار. وكانت نسبة المستثمرين الأجانب في العاصمة الفرنسية 90 في المائة في عام 2007 وارتفعت إلى 95 في المائة هذا العام. وتشمل الاستثمارات في باريس نسبة كبيرة من الاستثمار العربي.

أما في لندن فإن قيمة القطاع الفاخر تبدأ من 15.9 مليون دولار، وكانت نسبة الاستثمار الأجنبي في العاصمة البريطانية تصل إلى 75 في المائة في عام 2007 ولكنها ارتفعت إلى 85 في المائة هذا العام. ويتركز معظم الاستثمار الأجنبي، ومنه الاستثمار العربي، في مناطق مايفير ونايتسبريدج وكنسنغتون.

وتحل دبي رابعا في تصنيف «فاينانشيال تايمز» بنسبة استثمار أجنبي بلغت هذا العام 60 في المائة في قطاع العقار الفاخر الذي تزيد قيمته على 8 ملايين دولار. وكانت نسبة الاستثمار الأجنبي في المدينة لا تزيد على 45 في المائة في عام 2007. وتشمل مناطق الاستثمار الرئيسية في دبي كل من جزيرة بالم جميرة (نخيل) ويقبل عليها الروس والهنود، ومنطقة تلال الإمارات ويفضلها السعوديون والإيرانيون والهنود، ومنطقة وسط دبي وهي مطلوبة من الهنود والأوروبيين.

وفي نيويورك يشتري الأجانب نصف العقارات الفاخرة التي تزيد قيمتها على 10 ملايين دولار هذا العام، وهي نفس النسبة السائدة منذ عام 2007. ويقبل على الاستثمار في عقارات نيويورك الفاخرة كل من الصينيين والكنديين والبرازيليين وبعض الأوروبيين.

وفي شنغهاي، حيث كانت نسبة الاستثمار الأجنبي لا تزيد على 10 في المائة في عام 2007، ارتفعت هذه النسبة إلى 34 في المائة في عام 2012. وتفوق قيمة عقارات شنغهاي الفاخرة مبلغ 6.4 مليون دولار. ويقبل على الاستثمار في المدينة الصينية جنسيات متعددة تشمل مستثمرين من تايوان والولايات المتحدة وأستراليا وسنغافورة وهونغ كونغ وكوريا الجنوبية.

خبراء يعترضون

* ولكن نتائج هذا البحث لا تتفق مع ما تراه خبيرة العقار البريطانية كاميلا ديل، مديرة شركة «بلاك بريك» العقارية التي تتعامل في القطاع الفاخر حيث قالت لـ«الشرق الأوسط» إن الجانب الإيجابي لهذا الاستثمار أفاد المستثمرين المحليين وأفاد اقتصاد لندن. وأضافت أن «40 في المائة من المشترين في القطاع الذي يزيد على مليوني جنيه إسترليني هم من المستثمرين المحليين».

وترى ديل أن بعض المستثمرين المحليين هم من مطوري العقار الذين يعرضون عقارات للبيع وبعضهم الآخر يملك عقارات بغرض التأجير أو بيعها لمستثمرين أجانب. وكل هؤلاء يستفيدون من ارتفاع أسعار العقار.

وأضافت ديل أن أكبر شركات تطوير العقار البريطانية، مثل مجموعة «باركلي»، تعتمد على بيع العقارات للأجانب، وبالتالي تفيد الاقتصاد البريطاني. وتؤكد ديل أن الأثرياء الأجانب عندما يزورون بريطانيا ينفقون في المطاعم وسيارات الأجرة والمنافذ التجارية، وهذا أيضا يفيد الاقتصاد البريطاني. وتستنتج ديل أن لكل قصة جانبيها السلبي والإيجابي، وأن في حالة لندن فإن ارتفاع أسعار العقار له جوانب إيجابية أكثر من الجوانب السلبية بكثير.

من ناحيته قال غاري هيرشام، الخبير العقاري ورئيس شركة «بيتشام» العقارية في لندن، إنه لا يمكن توجيه اللوم إلى المستثمرين الأجانب في هذا الشأن لأنهم اشتروا عقاراتهم بسعر السوق السائد، ولم يسع أي منهم إلى رفع هذه الأسعار. وأكد هيرشام أيضا أن العوائد الإيجابية على اقتصاد الدول التي يقع فيها الاستثمار العقاري أكبر من السلبيات، خصوصا في ما يتعلق بالضرائب العقارية وزيادة القيمة الرأسمالية بغض النظر عن جنسية المستثمر.

واعترف هيرشام بأن الأسرة البريطانية متوسطة الدخل لا يمكنها السكن في وسط لندن الآن، وعليها النزوح إلى الضواحي، حيث الأسعار أرخص، وإن كان ذلك يضيف من الأعباء المالية الدورية مثل المواصلات. ويعاني هؤلاء من ظاهرة «الدومينو» في ارتفاع أسعار العقار في مختلف القطاعات داخل لندن، بداية من فئة القمة وحتى الفئات المتوسطة. وهو يعتقد أن تقدير الأوضاع في السوق يعتمد على موقف المستثمر من سوق العقار، فهؤلاء الذين باعوا عقاراتهم في مرحلة مبكرة فاتتهم فرصة الاستفادة من ارتفاع الأسعار، وهؤلاء يعتبرون أن التحولات في الأسواق سلبية. أما هؤلاء الذين احتفظوا بعقاراتهم في لندن فإنهم يجلسون الآن على ثروات تقدر بملايين الجنيهات الإسترلينية. وهم يعتبرون أن التحولات السعرية في لندن إيجابية للغاية لأنها تأتي في صالحهم.

ويعترف خبراء آخرون بأن سوق النخبة العقارية في القطاع السوبر ما كان لها أن تتطور على هذا النحو من دون وجود سوق العقار الدولية الذي تبلور في العقدين الأخيرين، خصوصا بعد خروج الأموال الروسية للاستثمار في موناكو ولندن. وأشار هيرشام إلى أن المستثمرين من دول الاتحاد السوفياتي سابقا يبحثون في المقام الأول عن الأمان لهم ولأموالهم.

وقال سايمون بارنز، الذي يعمل مستشارا في قطاع العقارات الفاخرة في لندن: «إن شراء الأجانب للعقارات في لندن ليست ظاهرة جديدة»، فلندن ظلت تستقبل المشترين الأجانب لسنوات طويلة، وهم في الغالب يشترون فقط في القطاع الفاخر. وأشار سايمون في اتصال مع «الشرق الأوسط» إلى أن «الشيء الوحيد الذي تغير هو أن المشترين الآن من جنسيات مختلفة». ويعدد بارنز هذه الجنسيات الآن بأنها تشمل أثرياء من نيجيريا ودول عربية، وأوروبيين وروس وشرق أوروبيين. وهو يعتبر أن هذا إيجابيا، وأن هذه الطبقة من المشترين لا تتنافس مع الذين يدخلون قطاع السوق للمرة الأولى من المشترين الشباب.

وبدلا من إخراج المستثمرين المحليين من السوق، يعتقد بارنز أن الاستثمار الأجنبي أفاد المستثمر المحلي برفع الأسعار. فالبائعون المحليون يبيعون للأجانب ويستفيدون من ارتفاع الأسعار. وهم لا يمكنهم الشكوى بعد ذلك من أن الأجانب رفعوا الأسعار في السوق.