«الأولمبياد» يعزز عقارات لندن وإيجاراتها

«استدامة» الانتعاش رهن نمو الاقتصاد

جانب من أولمبياد لندن
TT

تعيش لندن هذه الأيام أجواء الدورة الأولمبية التي تنظمها المدينة للمرة الأولى منذ عام 1948، وتنتشر الكثير من المنشآت الجديدة والعقارات التي تكون فيما بينها ما يعرف باسم «قرية الملكة إليزابيث الثانية الأولمبية»، على مساحة تقترب من 500 فدان. وشاركت الحكومة البريطانية بنحو 9.3 مليار إسترليني من أجل تجديد البنية التحتية في مناطق الأولمبياد، خصوصا في مناطق شرق لندن التي ظلت طوال العقود الماضية مهملة. ولكن هل هذه الأموال مفيدة على المدى الطويل؟ وهل سيستمر هذا التجديد بعد الدورة الأولمبية التي تستمر مجرد 17 يوما؟

ما تريد لندن أن تتجنبه هو اكتشاف أن لديها منشآت غير مرغوب فيها بعد الدورة، وهو ما يعرف باصطلاح «الفيل الأبيض» باللغة الإنجليزية. ولهذا تتطلع الكثير من شركات العقار للاستفادة من الفرصة بالاستمرار في تطوير المنطقة وتوسيعها بعد الأولمبياد. ويقول ماثيو بلاك الخبير العقاري في شرق لندن إن تطوير المنطقة سوف يستغرق 25 عاما مقبلة على الأقل، مثلما كان الحال مع المشاريع الكبيرة السابقة مثل كناري وارف. وهو يعتقد أن الموقع الأولمبي في لندن سوف يتطور بأسرع مما حدث في المدن الأخرى، حيث لم تحقق مدينة سيدني الأسترالية أي تقدم يذكر في خطة التطوير الخاصة بموقع الدورة الأولمبية في المدينة التي انعقدت عام 2000 إلا في عام 2009.

وفي لندن تشرف شركة جديدة على تطوير الموقع الأولمبي على المدى الطويل، وهي شركة «أو بي إل سي». وتعتزم هذه الشركة إضافة 11 ألف منزل، منها 40 في المائة منازل عائلية، كلها بالطراز التقليدي تبنى على عدة سنوات. وقد بيعت بالفعل منازل القرية الأولمبية التي تحتوي على 2800 عقار تكون في ما بينها القرية الأولمبية التي يسكنها المتسابقون أثناء الدورة. واشترت هذه المنازل شركات تطوير وجمعيات إسكان ودفعت فيها مبالغ يصل إجمالي حجمها إلى 268 مليون إسترليني. وساهمت الحكومة في تسهيل هذه الصفقة بدعم الأسعار فيها. وهناك عدة عقارات أخرى بالقرية الأولمبية يتم تقييم قيمتها حاليا، وتصل هذه القيمة في المتوسط إلى 500 مليون إسترليني.

ولكن الحكومة البريطانية لن تخرج من صفقات بيع المنشآت بأي مكسب لأنها دفعت بالفعل مبالغ ممولة من دافعي الضرائب حجمها 650 مليون إسترليني، لن تعود منها أي منفعة على مموليها.

وتحاول الشركة المشرفة على المشروع اختبار السوق بالإعلان عن افتتاح مركز إعلامي في المنطقة، ولكن الإقبال على المشروع لم يجذب الكثير من الاهتمام نظرا لصعوبة المواصلات إلى المنطقة وتعارض ذلك مع حاجات الإعلام للتحرك السريع. وتحاول الحكومة من ناحيتها تشجيع فكرة المركز الإعلامي ضمن خطة أكبر لتحويل شرق لندن إلى مركز تقني. أما المنشآت الرياضية الكبرى مثل المركز المائي فسوف يكون من الصعب التصرف فيها بعد الدورة الأولمبية، بينما الاستاد الكبير الذي سوف يكون مركز الأحدث في الدورة الأولمبية سوف يكون من نصيب أحد أندية لندن لكرة القدم كبديل لموقعها الحالي، ومنها أندية توتنهام ووستهام وتشيلسي وآرسنال.

ومن الملاحظ أيضا أن الدورة الأولمبية جذبت إلى لندن المزيد من الاستثمارات الأجنبية في العقار. وتؤكد تقارير من شركة «سافيل» أن نصف المستثمرين في المشاريع العقارية الجديدة في لندن، سواء في شرق المدينة أو في مناطق أخرى، هم من الأجانب، وأكثر من نصف هؤلاء صينيون. ويأتي الصينيون إلى لندن لعدة أسباب، أهمها توقع استمرار ارتفاع الأسعار بعد الدورة الأولمبية ولأن العملة الصينية «اليوان» تتمتع بسعر صرف جيد إزاء العملات الحرة الغربية، وأيضا بسبب الإجراءات التي اتخذتها الحكومة الصينية لتضييق مجال المضاربات على العقارات الصينية، الأمر الذي دفع بالاستثمار العقاري الصيني إلى الخروج عبر الحدود.

وفي شرق لندن المتاخمة لمنشآت الدورة الأولمبية ما زالت المنطقة تعاني في الوقت الحاضر من فجوة أسعار تبلغ نحو 20 في المائة بالمقارنة مع متوسط أسعار غرب لندن. وينصح الباحث في شركة «سافيل» لوسيان كوك بأن الاستراتيجية المضمونة هي في اختيار التوقيت الجيد للشراء والبيع. والبديل هو الشراء والانتظار حتى يتم استيعاب كل العقارات والمشاريع الجديدة التي يجري العمل فيها حاليا. ولكن لا يجب الانتظار طويلا بعد الدورة الأولمبية لأن التأثير بعيد المدى غير معروف بعد.

وتشير أبحاث قامت بها شركة «نايت فرانك» أيضا إلى أن 42 في المائة من كل العقارات الجديدة في لندن تقام في منطقة شرق لندن ولها علاقة بالدورة الأولمبية، حيث تراهن شركات العقار على تأثير هذه الدورة في تشجيع الأسعار والمبيعات. وتترجم هذه النسبة إلى نحو 76 ألف عقار سكني. هذا بالإضافة إلى 130 ألف ترخيص عقاري بالبناء صدرت في المنطقة حتى الآن. وقد لا يتم بناء بعض هذه الوحدات نظرا للوضع المالي المتأزم وصعوبة الحصول على التمويل اللازم.

ويشير تشارلي هارت من شركة «نايت فرانك» إلى أن منطقة ستراتفورد تعتبر نقطة أولمبية ساخنة لأنها في مركز الحدث، أما المناطق البعيدة نسبيا فإن التأثير الإيجابي فيها قد يكون هامشيا. وتستقبل هذه المدينة «الحديقة الأولمبية» والقرية الأولمبية التي ستضم آلاف العقارات الشعبية التي تباع بعد ذلك لأهل المنطقة.

ويقول مدير التخطيط في المعهد الملكي لمهندسي المساحة جيريمي إيدج إن استضافة لندن للدورة الأولمبية لن ينعكس بالضرورة إيجابيا على أسعار العقار في لندن في المدى الطويل. ولكنه يعترف بأن المناطق القريبة من الحدث سوف ترتفع سعريا وإيجاريا بكل تأكيد. ويضيف إيدج أن نقطة الجاذبية العقارية في لندن سوف تتحرك باتجاه الشرق، وسوف تتغير ملامح منطقة شرق لندن، خصوصا لو وفرت معيشة جيدة للسكان الجدد الذين يستقرون فيها بعد الدورة الأولمبية. وهو يريد أن يرى المزيد من الاستثمار في البنية التحتية والمواصلات في المنطقة ويدعو الحكومة لأن تساهم في ذلك الجهد أيضا بتوجيه استثمارات القطاع الخاص شرقا.

وبغض النظر عن تحولات أسعار العقار التي تخضع لعوامل العرض والطلب وحالة السوق، فإن المنشآت الأولمبية التي أقيمت في شرق لندن سوف تنعكس إيجابيا على أحوال المنطقة معيشيا واقتصاديا في المستقبل، فالمنطقة الأولمبية أقيمت على أراضٍ قاحلة كانت مقرا لمصانع ومخازن مهجورة في شرق العاصمة. وأقيمت «الحديقة الأولمبية» على مساحة 2.5 كيلومتر مربع لتكون أكبر حديقة داخل مدينة من نوعها تقام في أوروبا منذ القرن التاسع عشر.

وكشف تقرير عقاري آخر صادر من بنك باركليز عن صورة مختلطة في شرق لندن ما بين مناطق زادت زيادة ملحوظة في الشهور الأخيرة ومناطق أخرى لم تتحرك الأسعار فيها إلا بنسب ضئيلة. ولكن البحث يستنتج مع ذلك أن المستقبل سوف يوفر فرصة جيدة لعقارات شرق لندن لكي تتحسن وترتفع بنفس النسب التي تعم بقية أنحاء العاصمة. ويرى التقرير أن السبب الأكبر في استمرار هذا التحسن بعد انقضاء فترة الدورة الأولمبية هو تحسن البنية التحتية والمنشآت الأولمبية التي سوف تفيد المجتمع المحلي في المنطقة.

«الشرق الأوسط» استعرضت أيضا مجموعة من آراء خبراء العقار حول هذا الموضوع. وكانت الآراء متضاربة بين مؤيد للتأثير الإيجابي المستدام وآخر يعتبر أن التأثير سوف يكون مؤقتا، وفئة ثالثة تعتبر أنه إذا كان هناك تأثير للدورة الأولمبية فهو قد دخل في الاعتبار بالفعل نظرا لأن جميع المهتمين بمجال العقار عرفوا خلال السنوات الخمس الماضية بموعد الدورة الأولمبية واتخذ قراراته بالفعل سواء بالاستثمار أو الابتعاد عن الموقع. والاستنتاج النهائي من مجموع الآراء هو أن تأثير الدورة الأولمبية سوف يتراوح بين منطقة وأخرى، ولكن العامل الأكثر تأثيرا في سوق العقار البريطاني بشكل عام الآن هو الأزمة المالية الخانقة وصعوبة التمويل وتراجع الأسواق بشكل عام.

وتشير الأرقام إلى أن نسبة زيادة الأسعار في شرق لندن منذ بداية عام 2000 كانت في حدود 130 في المائة في المتوسط. وبعض الأحياء ارتفع بنسبة 150 في المائة. ولكن معظم هذه الزيادة جاءت في السنوات الخمس الأولى من العقد الماضي، أي من قبل إعلان فوز لندن بتنظيم الدورة الأولمبية المقبلة. ويقول ماركوس ديكسون من شركة «سافيل» العقارية إن التحدي القائم هو جذب مشترين من خارج المنطقة وتأسيس قواعد جديدة في المنطقة تجعل العائلات تريد الاستقرار فيها، خصوصا العائلات ذات الدخل المرتفع.

وهناك جوانب من هذا الرأي حدثت بالفعل نظرا لتحسن شبكة المواصلات بشرق لندن ومد خطوط مترو وسكك حديدية جديدة. كما أن المشاريع الجديدة سوف تربط المنطقة مباشرة بمطار هيثرو وبالقطار السريع الذاهب إلى أوروبا والمسمى «يوروستار». وإضافة إلى ذلك ساهم إنشاء مطار لندن سيتي الصغير في تعزيز القيمة العقارية أيضا في المنطقة. وتجري الآن اللمسات الأخيرة على مشروع أكبر مجمع تجاري في أوروبا يقام في المنطقة باسم «ويستفيلد ستراتفورد سيتي» الذي سيتم افتتاحه في العام المقبل.

خبيرة بيع العقار في شركة «فوكستون» كيت دودكين قالت إن سكان الحي الغربي في لندن الذين كانوا يحتقرون في الماضي حي شرق لندن، يشاركون الآن مع مستثمرين أجانب في الشراء في شرق لندن إن لم يكن بغرض السكن فللاستثمار. ويؤكد رأيها خبير العقار في شركة «نايت فرانك» جون كينيدي الذي أشار إلى أن نصف الاستفسارات الأجنبية عن الاستثمار في شرق لندن تأتي من الخارج. والسبب هو أن هؤلاء المستثمرين يعرفون بالخبرة كيفية تحول السوق العقارية بفضل الدورة الأولمبية.

وشاركت هيئة السياحة البريطانية في التسويق للحدث الأولمبي، وتعتقد متحدثة من الهيئة أن الاستفادة السياحية سوف تعم أيضا على قطاع الفنادق والعقارات في جميع أنحاء لندن، حيث يستفيد أصحاب العقارات من الطلب الهائل على الإقامة في لندن خلال فترة انعقاد الدورة الأولمبية. وتريد الهيئة أن تشجع سياحة المؤتمرات أثناء فترة الدورة الأولمبية لرغبتها في جذب رجال الأعمال إلى لندن خلال هذه الفترة.

من ناحية أخرى أكدت تقارير السوق أن التأثير الواضح للدورة الأولمبية حاليا هو في ارتفاع الإيجارات بنسب قياسية، وبنسبة واحد في المائة في الشهر الأخير. ويبلغ متوسط الإيجار في لندن حاليا أكثر من ألف جنيه شهريا لشقة استوديو. وهناك بعض الممارسات الانتهازية من مالكي العقارات الذين أنهوا تعاقدات سكان مستقرين في عقاراتهم المؤجرة لكي يستفيدوا من إيجارات خيالية في عقود سريعة تنتهي مع الدورة الأولمبية.

وتضيف هذه الزيادات الإيجارية من متاعب سكان لندن الذين يحاولون شراء العقارات بدلا من تأجيرها، لأنها تستنفد مدخراتهم وتمنعهم من تكوين نسبة 20 في المائة مطلوبة من البنوك حاليا كمقدم للعقارات قبل تقديم القروض العقارية عليها. وتحاول البنوك بدعم حكومي أن تسهل عملية الاقتراض العقاري مرة أخرى، ولكنها تطلب المزيد من الضمانات في وقت تعاني فيه المصارف من أخطار ائتمانية متعددة.