عقارات فيينا تتألق.. ووسط المدينة «نقطة ساخنة»

مشروع «الركن الذهبي» يجذب الطلب قبل انتهائه بعام

مشروع «الركن الذهبي» في وسط فيينا الذي افتتح هذا العام
TT

في الوقت الذي تعاني فيه العديد من المدن الأوروبية موجات من الارتفاع والانخفاض في أسعار العقار، وفقا لمتغيرات حالة الاقتصاد والعرض والطلب، فإن مدينة فيينا النمساوية تختلف في أن عقاراتها ظلت طوال السنوات الثماني الماضية متألقة بزيادات مطردة في الأسعار والإيجارات. وفي آخر 12 شهرا حتى نهاية الربع الأول من العام الحالي ارتفع مؤشر أسعار عقارات فيينا بنسبة 9.6 في المائة. ومن المتوقع أن تكون الزيادة خلال العام الحالي نحو ستة في المائة، بعد حساب نسب التضخم.

وهناك العديد من الأسباب التي تبرر هذا الارتفاع سواء في القطاع الإسكاني أو القطاع التجاري، فمدينة فيينا هي بحق من أجمل المدن الأوروبية، وبها سياحة مزدهرة ترفع الطلب على الإسكان السياحي والفندقي من ناحية وعلى التسوق من المنافذ التجارية من ناحية أخرى. كما تتميز المدينة بالعديد من المشاريع العملاقة لتطوير مركزها التجاري مثل مشروع «الركن الذهبي» (Golden Quarters) في وسط المدينة ويشمل العديد من المنافذ التجارية والعقارات الإسكانية. وحقق المشروع نجاحا إلى درجة أنه اجتذب إقبالا على المنافذ التجارية من أسماء معروفة قبل انتهاء المشروع بعام كامل.

وانعكس نجاح فيينا أيضا على عقارات النمسا بوجه عام التي سجلت نسبة زيادة خلال آخر 12 شهرا قدرها 8.3 في المائة. وفي الوقت الذي تأرجحت فيه أسعار العقار في بقية أنحاء النمسا، فإن أسعار عقارات فيينا ظلت في ارتفاع مطرد منذ الربع الثالث من عام 2004. وفي منطقة وسط المدينة، التي تسمى الحي الأول وهو القلب التاريخي للمدينة، تضاعفت الأسعار خلال آخر عشر سنوات. ويعود الفضل في ذلك إلى جاذبية فيينا للاستثمار الأجنبي، ونالت المدينة حصة كبيرة من الاستثمار الروسي والعربي الذي توجه إلى مراكز المال القديمة في أوروبا مثل لندن وباريس وفيينا. وتعد فيينا جزءا أساسيا، وإن كان محدود الحجم، في تيار الاستثمار العقاري الدولي الذي يركز على المدن الرئيسية في العالم من نيويورك إلى هونغ كونغ مرورا بالمدن الأوروبية.

وهي صغيرة الحجم نسبيا بالقياس إلى العواصم الأوروبية الأخرى، لكنها تتمتع بسمعة جيدة إلى درجة أن شراء شقة في فيينا يحمل من الثقة والاحترام أكثر من معاني شراء شقق في باريس أو أمستردام. واستطاعت المدينة التعامل بكفاءة مع أزمة اليورو عن طريق التركيز على السياحة كمخرج من الأزمة الاقتصادية وزيادة مداخليها. وعلى الرغم من توقعات تراجع سوق العقار فيها، فإن الانخفاض الذي وقع حتى الآن كان هامشيا.

وكان من أهم العوامل التي أسهمت في استقرار سوق العقار في وسط فيينا، بالمقارنة مع بقية أنحاء النمسا، نمط الملكية السائد في العاصمة النمساوية. فالملكية تؤول في معظمها إلى البنوك ومؤسسات الاستثمار بنسبة 70 في المائة من إجمالي منشآت وسط المدينة. كما أن ارتفاع الأسعار كان لأسباب متعلقة بزيادة الطلب على الوحدات العقارية الأكبر حجما، مع عدم قدرة الإمدادات من المشاريع الجديدة على مواصلة تلبية هذا الطلب المتزايد. وبالتالي ارتفعت أسعار الشقق والوحدات التجارية كبيرة الحجم بنسبة أكبر من تلك التي حققتها العقارات الصغيرة.

كذلك تتميز فيينا بأكبر نسبة من العقارات المؤجرة بين مدن أوروبا بنسبة 77.2 في المائة، وهي تعاني بعض الشيء من انخفاض العوائد الإيجارية بسبب طفرة بناء جرت في التسعينات وأدت إلى زيادة العقارات المعروضة للإيجار عن الطلب. وتتراوح العوائد الإيجارية في الوقت الحاضر ما بين 2.6 في المائة و4.8 في المائة.

وبسبب ارتفاع أسعار العقار، لا تحقق عقارات وسط المدينة عوائد إيجارية أكثر من واحد في المائة، ترتفع من اثنين إلى أربعة في المائة لبقية أنحاء فيينا، بعد خصم التكاليف. وتتوجه كل المشروعات الجديدة إلى العقارات التجارية أو العقارات متعددة الاستخدامات، بينما تقل العقارات المخصصة لقطاع الإسكان وحده خصوصا في وسط فيينا. وتعتمد كل المشروعات الجديدة على التمويل بقروض متغيرة الفائدة، مما يجعل السوق حساسة لتغير أسعار الفوائد. وقد تأثر السوق سلبا بأزمة اليورو، لكن قطاع التمويل العقاري استفاد من تراجع أسعار الفائدة السائدة من 4.5 في المائة عام 2006 إلى 2.9 في المائة عام 2012.

ونتج عن التوجه إلى الإيجار بدلا من الملكية أن سوق الإقراض العقارية النمساوية صغيرة نسبيا بالمقارنة مع أسواق أوروبا الأخرى. وفيما يصل حجم سوق القروض العقارية إلى 50 في المائة في المتوسط في دول اليورو، فهو لا يزيد على 34.4 في المائة في النمسا. وليس من المتوقع أن يتغير هذا المعدل كثيرا نظرا لأن الاقتصاد النمساوي مستقر ولن ينمو هذا العام بأكثر من 0.7 في المائة. وكانت نسبة النمو أفضل في العامين السابقين، حيث حقق اقتصاد النمسا نموا بلغ 2.3 في المائة في عام 2010، ونسبة نمو جيدة هي 3.1 في المائة في عام 2011.

وتنقسم فيينا إلى 23 حيا، أهمها هو الحي الأول الذي يقع في وسط المدينة ويزوره معظم السياح، وهو أيضا مركز إدارة المدينة سياسيا واقتصاديا. ويمثل هذا الحي فيينا التاريخية، وتتبع حدوده آثار السور القديم الذي كان يحيط بالمدينة. وهو من أقدم أحياء المدينة ويتميز بالكثير من المباني التاريخية والمتاحف والقصور. وهو يضم مبنى البرلمان ومجلس المدينة ومعظم السفارات ومقار الشركات الدولية.

أما الحي الثاني فيسكنه المهاجرون والطلاب لانخفاض إيجارات المنطقة، وهو يقع على نهر الدانوب ويتخلله عدد من الحدائق العامة التي تضم العديد من مظاهر التسلية للعائلات. وتتبع ذلك سلسلة الأحياء الأخرى بالأرقام التي يتميز كل منها بصفة غالبة تميزه عن غيره. فالحي الثالث والخامس يغلب عليهما الطابع الشعبي، بينما الحي الرابع أرستقراطي في معظمه ويتميز بسوق مفتوحة للأطعمة، وبه أيضا قلعة تعود للقرن الثامن عشر ومتحف فني وحدائق بلفيدير.

ويقع الحيان السادس والسابع في جنوب المدينة، ويتميزان بالشقق الصغيرة وحياة الليل الحافلة بالمسارح وشوارع التسوق. وتتفرع في ما بعد الأحياء الأخرى التي تحتوي على البيوت المستقلة للعائلات وتعد من ضواحي فيينا. وفي العادة يسكن المهاجرون في الأحياء الخارجية ويقع فيها مبنى الأمم المتحدة. وتلاصق الأحياء الخارجية ضواحي الريف النمساوي.

هناك العديد من المشروعات كبيرة الحجم التي تقام في وسط فيينا حاليا، ويمثل مشروع «الركن الذهبي» أهمها كنموذج لهيكلية المشروعات متعددة الاستخدامات. ويقع هذا المشروع في وسط المدينة القديمة التي تصنفها اليونيسكو ضمن التراث الإنساني. لكن المشروع يتبع أحدث خطوط التصميم المعماري خلف واجهات تراثية تقليدية. ويضم المشروع فندقا من فئة الخمس نجوم ضمن مجموعة فنادق «بارك حياة»، ومنافذ تجارية فاخرة ومجموعة مكاتب، و12 شقة من الفئة السوبر بمشاهد خلابة لقلب فيينا. ويقع المشروع في منطقة تم تحويلها مؤخرا لكي تكون منطقة للمشاة فقط. وحجزت العديد من الشركات مثل «أرماني» و«لوي فيتون» و«برادا» والعديد من الشركات الإيطالية منافذ تجارية في المشروع. وبدأ بعض هذه المنافذ أعماله بداية من شهر أكتوبر (تشرين الأول) 2012.

وتبلغ المساحة الإجمالية للمشروع نحو 21 ألفا و700 متر مربع، يقع منها الفندق على مساحة 18 ألف متر مربع والمنافذ التجارية على ثلاثة آلاف متر مربع. وتتراوح مساحات الشقق السكنية ما بين 200 متر و374 مترا. وتنفذ مشروع الركن الذهبي شركة «سيغنا» النمساوية باستثمار يبلغ حجمه 4.5 مليار يورو، وهي شركة استثمار عقاري ناجحة على المستوى الأوروبي. وتتخصص الشركة عبر بعض أقسامها في تطوير العقار الفاخر في المواقع الجيدة في عواصم أوروبية. وكان المبنى التاريخي الأصلي في موقع مشروع «الركن الذهبي»، واسمه «آم هوف»، قد بني في أوائل القرن العشرين وكان مقرا للبنك النمساوي. واشترته شركة «سيغنا» للتطوير العقاري في عام 2008 لتطوير الموقع.

ويقول تقرير لشركة «إي إتش إل» العقارية إن الأوضاع الاقتصادية الصعبة ما زالت تمثل تحديات لمطوري العقار والمستثمرين والمستأجرين على السواء. ويشير رئيس الشركة مايكل ايلماير إلى أن مطوري العقار التجاري الذين يتسمون بالتجديد والابتكار في عام 2012 سوف ينجحون لوجود الطلب العقاري أكثر من أي وقت مضى.

ويجري الآن العمل على 17 مشروعا على الأقل لتطوير مشاريع عقارية في قلب فيينا وضواحيها، وترى شركة «إي إتش إل» أن التيار السائد هو للمجمعات الحديثة كبيرة المساحة في مواقع متميزة. وضمن سلسلة المشاريع في المدينة يعد مشروع «جي 3» في منطقة جيراسدورف أكبرها حجما بنحو 70 ألف متر مربع، بينما أصغرها حجما هو «الركن الذهبي» بمساحة تجارية لا تزيد على 11.5 ألف متر مربع. وتتمتع هذه المشروعات بوجود الطلب عليها وارتفاع نسب الإيجارات إلى ما بين 240 و340 يورو للمتر المربع. ولاحظ تقرير الشركة نجاح المشروعات القائمة بالقرب من محطات المواصلات العامة، كما أن المشروعات الحديثة زادت من الضغوط على المجمعات التجارية القديمة التي تقع في مناطق هامشية. ومن الملامح الأخرى لسوق فيينا العقارية أن فترة الأزمة الاقتصادية الأوروبية قلصت إمدادات العقار الجديد بسبب نقص السيولة وقلة المشاريع الجديدة.

وترسم المشاريع الجديدة حاليا صورة لفيينا كعاصمة تسوق أوروبية حديثة، حيث تضاف المساحات الجديدة إلى مشروعات قائمة بالفعل تعتبر عملاقة بالمقاييس الأوروبية. فضمن أكبر عشرة مجمعات تجارية في فيينا تبلغ مساحة أكبرها، وهو «إس سي إس»، نحو 173 ألف متر مربع، ويحتوي على 296 منفذا تجاريا. ويبلغ إجمالي عدد المنافذ التجارية في أكبر عشرة منافذ تجارية في فيينا 1560 منفذا، وأصغرها حجما في الترتيب العاشر مركز «ميلينيوم سيتي» بعدد 99 منفذا تجاريا.

وتضم فيينا أيضا أشهر شارع تجاري اسمه «انمير مارياهيفر»، ويضم مساحة 178 ألف متر مربع من المحلات التجارية. وكانت أهم أحداث العام في وسط فيينا افتتاح مركزي «بيك آند كلوبينبرغ» و«الركن الذهبي». وتعتقد مصادر السوق أن «الركن الذهبي» سيكون له التأثير الأكبر نظرا لموقعه ونوعية الأسماء التي اختارته لمنافذها التجارية. ويسهم في شهرة المشروع قرار تحويل المنطقة المحيطة بها إلى منطقة مشاة فقط ومنع السيارات منها. ويقع المركز أيضا بين أهم شوارع التسوق في فيينا.

ويرى تقرير «إي إتش إل» أن ندرة المساحات وفرص الاستثمار المتاحة في وسط فيينا من أهم العوامل التي تحد من التوجه لمزيد من الاستثمار في قلب فيينا. وينتظر المستثمرون فرص تطوير مراكز حديثة متنوعة الاستخدامات معدة للإيجار بتعاقدات طويلة الأجل. ولا توجد عقارات مناسبة لمثل هذا التوجه الاستثماري حاليا في وسط فيينا.

وتتوقع أوساط التجارة في المدينة أن يعود الانتعاش في عام 2013 مع بداية دخول العديد من المشروعات الضخمة إلى السوق. وتبدو أوساط العقار التجاري في فيينا وكأنها مهيأة تماما لاستقبال هذا الانتعاش المتوقع، بينما يقنع المستثمرون في هذا المجال بعوائد إيجارية مستقرة في حدود ستة في المائة من المستأجرين. وسوف تتضح أبعاد هذه التوقعات في بدايات العام الجديد 2013.