الاحتيال العقاري في عمليات التمويل يتصدر الجرائم الأميركية

يعكف المحققون على دراسة قضايا بحجم كتب دليل الهاتف

سوق العقار الأميركية ما زالت تعاني من آثار مرحلة الفقاعة
TT

منذ العام الماضي، بدأ مكتب التحقيقات الفيدرالي تحويل بعض الموارد البشرية والمالية إلى مكتب الاحتيال التجاري التابع له، من أجل متابعة وضبط عمليات الاحتيال الخاصة بالتمويل العقاري التي بلغ حجمها مليارات الدولارات، وتسببت في أزمة ائتمانية ما زالت آثارها فاعلة في السوق إلى الآن. وبلغ عدد المحتجزين في قضايا احتيال وفساد مالي 2100 شخص حتى الآن، منهم 200 شخص في ولاية نيفادا وحدها. ويعكف المحققون على دراسة قضايا بحجم كتب دليل الهاتف، وسجلوا أقوال آلاف الشهود، ثم أعلنت وزارة العدل في مؤتمر صحافي عقد مؤخرا القبض على أكثر من ألفي شخص في قضايا احتيال عقاري قيمتها الإجمالية 2.3 مليار دولار.

واحدة فقط من حالات الاحتيال توضح حالة سوق الإقراض العقاري الأميركي وما أصابه منذ عام 2008؛ فقد تقدم ضابط متقاعد إلى شركة تمويل عقاري لشراء منزل بنصف مليون دولار، وذكر في طلبه حجم دخله الصافي ومجال عمله ورغبته في الإقامة في العقار المذكور. وكانت هذه المعلومات كافية في عصر الطفرة لمنحه كامل ثمن العقار ومن دون مقدم يدفعه المشتري. وكرر الضابط المتقاعد هذه الحيلة ثلاث مرات متتالية في غضون أسابيع لكي يشتري ثلاثة منازل جديدة بثمن يقارب النصف مليون دولار لكل منها. ولكنه عندما عجز عن دفع أقساط القروض العقارية، استولت البنوك على العقارات وباعتها بالمزاد بأسعار أقل كثيرا من الثمن الأصلي. والآن يواجه الضابط المتقاعد وآخرون تهمة الاحتيال العقاري، واعترف في محاكمته قبل شهور بالتهم الموجهة إليه، وهي تشمل مؤامرة الاحتيال لخداع شركات الإقراض والاستيلاء على مبلغ 3.4 مليون دولار لشراء عقارات بغرض إعادة بيعها بربح.

وتشمل قائمة المتهمين موظفي شركات تمويل وشركات بيع عقارات، ومعظمها لحالات بيع مزيف بغرض إعادة البيع السريع بربح، وهو أسلوب يعرف عقاريا باسم «Flipping»، وهي تشمل معظم القضايا التي تتابعها وزارة العدل ومكتب التحقيقات الفيدرالي الأميركي منذ أربع سنوات، بعد أسوأ أزمة اقتصادية تواجه الولايات المتحدة منذ الكساد العظيم في الثلاثينات من القرن الماضي.

ولكن الإعلام الأميركي يشبه هذه القضايا بحالات القبض على صغار المهربين في جرائم المخدرات وترك زعماء العصابات طلقاء. فما زالت أصابع الاتهام توجه إلى كبار البنوك والشركات في «وول ستريت»، وهي التي أعادت بيع القروض الرديئة في شكل صكوك استثمارية بلا أصول، قوامها مليارات الدولارات. وتدافع وزارة العدل عن موقفها بالقول إنها أجرت تحقيقات في أوساط «وول ستريت»، ولكنها لم تجد ما يكفي من الدلائل لتوجيه المزيد من الموارد للتحقيق في هذا الاتجاه.

وقد حاول محققو وزارة العدل الأميركية توجيه التهم إلى بنوك «وول ستريت» لدورها في فقاعة سوق العقار الأميركي، ولكنهم وجدوا صعوبات في إثبات سوء النية. وفتحت الوزارة تحقيقات فعلية مع شركات مالية مثل «غولدمان ساكس» و«واشنطن ميوتيوال» و«كانتروايد»، وهي الأكبر في إصدار الصكوك العقارية الرديئة التي يسميها الأميركيون «Toxic Securities» ولكن التحقيقات وصلت إلى طريق مسدود لانعدام الدافع الإجرامي وصعوبة إثبات التهم. ولذلك أغلق ملف هذه القضايا بلا توجيه تهم لأحد.

ويصف مساعد المدعي العام الأميركي لاني بروير الوضع بأن الإجراءات والممارسات التي أقدمت عليها البنوك والشركات الكبرى، وكان لها الأثر الأكبر على الفقاعة التي حدثت في السوق، لم تكن ممارسات إجرامية؛ لأن كل الأطراف فيها كانت تستخدم المحامين في كل خطوة للتأكد من شرعية الخطوات وتوافقها مع القانون؛ ولذلك تعذر إثبات أي تهم، وكان لا بد من التعامل بأساليب أخرى، مثل تغيير القوانين أو تشديدها، بدلا من استخدام القانون الجنائي لحل هذه القضايا.

وبدلا من ذلك لجأت وزارة العدل إلى رفع قضايا على عدة بنوك، منها دعوى ضد «بنك أوف أميركا» قيمتها مليار دولار لبيع صكوك مشكوك في قيمتها لمؤسسات تمويل عقاري شبه حكومية مثل «فاني ماي» و«فريدي ماك». وهي قضية بدأت مرافعاتها قبل أسابيع. وتعد قضية واحدة ضمن سلسلة من القضايا التي نجح بعضها وحققت منها وزارة العدل الأميركية ولجنة تحقيقات البورصة عدة مليارات من الدولارات في صيغة غرامات من البنوك والشركات الأميركية من أجل إغلاق ملفات قضايا احتيال في عمليات قروض عقارية ومنتجاتها تسببت في خسائر لمستثمرين.

ويعتقد لاني بروير أن سجل وزارة العدل كان جيدا في تحقيقات الفساد المرتبطة بالقروض العقارية؛ فقد نجحت الوزارة في مئات القضايا التي صدرت فيها أحكام بما في ذلك المضاربون الذين اشتروا عقارات للمضاربة بها وتحقيق أرباح. وهو يؤكد أن أحوال السوق أثناء فترة الذروة ساهمت في مناخ الفساد السائد، حيث كانت الأسعار في ارتفاع مستمر والإقراض سهل، ويقدم لمن يطلبه بلا تحقق من مصادر الدخل. وكان بعض المشترين يعملون لصالح شركات العقار مقابل رشى لمجرد تمثيل دور المشتري مقابل عمولة، حتى تعيد شركة العقارات بيع العقار لمشتر آخر بربح، وتقتسم الربح مع المشتري المزيف.

وكانت البنوك تعتمد على أسلوب الإقراض من دون التحقق من مصادر الدخل. كما لم تشترط البنوك أن يدفع المشتري أي مقدم على شرط أن يتعهد بأنه سوف يعيش في المنزل الذي يعتزم شراءه. ونجح الاحتيال في الكثير من الحالات التي ارتفع فيها الثمن على العقار وتم بيعه قبل أن تستحق أقساط العقار، ولكن عندما بدأت السوق في التراجع وجد المشترون المزيفون أنفسهم مع عقارات لا يستطيعون دفع أقساط قروضها، ولا يستطيعون بيعها أيضا بنفس الثمن. وكانت النتيجة هي إعلان إفلاسهم، لكي تجد البنوك أنها مكبلة بعقارات أقل من قيمة القروض عليها، وهي عقارات كان يصعب بيعها في سوق متهاوية.

وتكرر هذا السيناريو في معظم الولايات الأميركية أثناء سنوات الطفرة. وكان من ضمن القضايا، القبض على 11 شخصا في عمليات احتيال خاصة بعقارات تطل على المحيط في فلوريدا ونيوجيرسي وصلت قيمتها إلى 15 مليون دولار. وفي قضية أخرى تم القبض على 30 شخصا في عمليات تتعلق بمشروع فاخر في فلوريدا اسمه مشروع «فرساي». وعندما علم صاحب شركة عقارية في فلوريدا بالتحقيقات الفيدرالية في الاحتيال العقاري استأجر قاتلا محترفا لقتل أحد المشترين المزيفين لإخفاء أهم دليل في القضية. ولكن رغم إصابته بعدة رصاصات نجا المشتري من الموت واعترف بتفاصيل الاحتيال.

ولعل أسوأ الولايات على الإطلاق في عمليات الاحتيال كانت ولاية نيفادا. وكانت مدينة لاس فيغاس أرضا خصبة لعمليات الاحتيال العقاري بإعادة البيع فوريا بأرباح. وكانت معظم الأرباح التي تحققت في السوق نتيجة لعمليات احتيال بعد رفع المشترين المزيفين للأسعار لآفاق غير مسبوقة. ونتج عن ذلك أن المشترين الفعليين اضطروا إلى دفع مبالغ أكبر من المعدل الحقيقي لشراء عقاراتهم. ووصف محقق الوضع في نيفادا بأن بعض المحتالين استخدموا العقارات وكأنها أجهزة صرف آلي لصرف الأموال مقابل بعض الوثائق المزورة.

وفور ارتفاع عدد قضايا الإفلاس العقاري في لاس فيغاس، شكلت إدارة مكتب التحقيقات الفيدرالي فريقا لتقصي حالات الاحتيال العقاري. وما إن تم فتح خط هاتفي ساخن للإبلاغ عن المخالفات حتى انهمرت المعلومات، ويكتشف المكتب أن لديه مشكلة احتيال هائلة الأبعاد. وطلب مكتب لاس فيغاس من مدير مكتب التحقيقات الفيدرالي تزويده بالمزيد من المحققين. وزاد عدد المحققين من واحد إلى عشرين شخصا. وعلى المستوى الأميركي زاد عدد المحققين المختصين بعمليات الاحتيال العقاري من 120 محققا في عام 2007 إلى 325 محققا في عام 2011.

ولكن الكثير من المتضررين من أعمال الاحتيال العقاري يرون أن المجرم الحقيقي هو إهمال شركات الإقراض كبيرة الحجم مثل شركة «كانتريوايد» التي يملكها «بنك أوف أميركا»، ولكن البنك ينفي الإهمال. ويقول بعض المحامين عن المتهمين بالاحتيال إن التهم وجهت لأشخاص في قاع سلسلة الاحتيال مثل المشترين وشركات العقار الصغيرة، ولكن الدائرة تختفي مع الوصول إلى الذين قدموا القروض العقارية السهلة التي ساهمت في عمليات الاحتيال. ولا يرى بعضهم عدلا في دفع كبار البنوك والشركات تعويضات عن خسائر بينما يتعرض الصغار من المحتالين إلى السجن والتشرد.

وهناك الكثير من ضحايا هذا النوع من الاحتيال، وهم المشترون الذين دفعوا مبالغ أكثر من قيمة عقاراتهم أثناء فترة الذروة بسبب نشاط المضاربة. من هؤلاء مهندس كهرباء دفع مقدما 70 ألف دولار لشراء عقار في لاس فيغاس قيمته 300 ألف دولار. ولكن مع تراجع حالة الاقتصاد، فقد وظيفته، وتراكمت عليه ديون القرض العقاري إلى أن استولى البنك على المنزل وباعه بالمزاد بسعر 252 ألف دولار لسداد الديون العقارية. واكتشف المهندس بعد ذلك أن السعر الذي دفعه كان أغلى من معدل السوق بنحو 50 ألف دولار، لأنه اشترى العقار بعد عدة مضاربات من غيره، بينما كانت عقارات مجاورة له شاغرة تنتظر مشترين.

ويصل عدد قضايا الاحتيال العقاري حاليا إلى نحو 18 ألف قضية هبوطا من 30 ألف قضية في عام 2011. ولم يكن هناك أي أثر لمثل هذه القضايا في عام 2005. وتصل نسبة المتهمين في القضايا سواء كانوا أشخاصا طبيعيين أو اعتباريين إلى نحو 61 لكل مليون نسمة في ولاية كاليفورنيا، تليها في النسب ولايات نيفادا وفلوريدا وأريزونا، وهي أعلى الولايات في حالات الاحتيال. وتصل نسبة القروض العقارية الأميركية المتعثرة في الوقت الحاضر إلى نحو 7.8 في المائة من إجمالي القروض العقارية. ومن هذه القروض المتعثرة تتم مصادرة نصف العقارات تقريبا. وهو الثمن الباهظ للخلل الذي أصاب أسواق العقار الأميركية أثناء فترة الفقاعة التي مولتها القروض السهلة واستغلها المضاربون، ووقع ضحيتها الكثير من الكادحين الذين فقدوا وظائفهم ومن ثم بيوتهم أيضا.

وفي الظروف الحالية لا يستطيع الأفراد بيع عقاراتهم أحيانا حتى ولو بالخسارة، خصوصا في المناطق التي تتعدد فيها حالات الاستيلاء على العقارات لسداد ديون رديئة. حيث تقول شركة «لونغ آند فوستر» العقارية في بلدة كيترينغ، القريبة من واشنطن، إن الأسعار في المنطقة تتراوح بين 220 ألف دولار و299 ألف دولار لمنازل متطابقة بثلاث غرف نوم في منطقة لا يفصل بينها غير عدة شوارع فقط. والسبب أن منطقة تحتوي على عقارات مصادرة وأخرى تباع بالمزاد وثالثة يريد أصحابها التخلص منها، بينما المنطقة الأخرى تعرض فيها العقارات للبيع العادي. وتجد شركات العقار صعوبة جمة في تقدير قيمة العقارات المعروضة للبيع في المنطقة مع أن تقدير القيمة هو من صميم عملها.

ويقول مدير شركة «فوستر» ألن ووكر، إن أحد العملاء اشترى منزلا في المنطقة منذ عام واحد بمبلغ 245 ألف دولار، ويريد بيعه حاليا بمبلغ 235 ألف دولار لكي يتخلص من القرض العقاري ويدفع المستحقات عليه، ويخرج من العملية بلا أرباح. ولكن نصيحة الشركة العقارية له أن السوق في هذه الظروف لن تتيح له فرصة بيع منزله بالمبلغ المطلوب، وأن عليه أن يتحمل المزيد من الخسائر.