عبد الكريم المدرس: مسيرة نجاح تبدأ من شط العرب وتنتهي في «بلغرافيا» بلندن

TT

من المشتغلين في عالم المال والأعمال من يعمل لذاته، ولذاته فقط. يصنع ثروة تظهر «مجده» الشخصي ومجد من يأتي بعده من الأبناء والأحفاد. ومنهم من هو مثل «الجندي المجهول»، يشيد صرحا ويتقاعد، فتخفيه الأيام خلف نقاب داكن فلا يسأل الناس بعدها عنه، لا لشيء إلا لأنه قدم ذاته إلى درجة الذوبان، وبنى معلما عاماً، من دون أن يبتغي من وراء ذلك أجرا أو شكورا.

والبشر بأطباعهم كسالى، فإذا مروا امام مبنى تاريخي، أو قلعة أثرية أبدوا إعجابهم بما رأوا، لكن ما أقل الذين يسألون عن صاحب اليد التي شيدت هذا المبنى أو تلك القلعة، أو الأنامل التي حاكت هذا الثوب الفتان أو صممت تلك اللوحة البهية.

الديبلوماسي والاقتصادي العراقي الأمين العام السابق لغرفة التجارة العربية البريطانية عبد الكريم عبد القادر المدرس، هو من شريحة الناس الذين عملوا وقدموا ثم انزووا خلف الستار.

ولولا كتاب وضعه وأذيع في الناس أخيراً، لما تذكرناه الآن في هذه الزاوية. ولعل في هذا التذكر شيئا من الوفاء للرجل الذي جاء إلى لندن أواخر الستينات وأسس عام 1975 أكبر غرفة تجارية عربية أجنبية مشتركة، هي «غرفة التجارة العربية البريطانية»، التي عملت ولا تزال تعمل بوحي شعارها المعروف «التجارة طريق الصداقة».

«أحداث لها تتمة» هو عنوان كتاب المدرس الذي يحكي فيه قصة بدايات غرفة التجارة العربية البريطانية، وما تخللها من أحداث وخطوب، تكشف كم كان المخاض عسيرا والولادة شاقة، ولا غرابة في ذلك على أي حال، لأن المدرس كان المحرك الأول في مسيرة الغرفة وتثبيت دعائمها، وصاحب الفضل الاكبر في حشد الدعم المطلوب لها من بريطانيا والعالم العربي.

إلا أن المدرس لا ينسى وهو يسرد الذكريات بأسلوبه النضر، الأقرب إلى الأدب منه إلى لغة الاقتصاديين، ومن وقف إلى جانبه ماديا ومعنويا في أثناء عملية التأسيس، حتى ليبدو وكأنه وضع الكتاب الذي نشره على نفقته الخاصة، ليرد للناس حقوقها كما يقال، أو ليعطي كل ذي صاحب حق منزلته التي يستحقها من التقدير.

وليست غرفة التجارة العربية البريطانية في المقام الأخير غير عينة، أو قل مظهرا من مظاهر العمل العربي المشترك. ولعل في إدراكنا هذه الحقيقة ما يجعلنا نتحسس الصعاب التي واجهها المدرس للوصول إلى مبتغاه في عالم عربي صاخب كما يقول «وبين مسؤولين يأخذون القول عنتا، تتنازعهم المصالح فلا يأهاتف على كلمة سواء، يتناحرون ويتفرقون من دون أن تجمعهم إرادة سياسية واحدة، تؤسس لمنظمة قوية تقدم الكثير على طريق التوحد الاقتصادي، في حين شهدنا كيف اجتمع الأوروبيون على إرادة واحدة مهدت لقيام الاتحاد الأوروبي».

ولد عبد الكريم المدرس في البصرة عام 1954 نال شهادة الحقوق من جامعة بغداد ثم سافر إلى القاهرة، فعمل ملحقا ديبلوماسيا في الأمانة العامة للجامعة العربية ونال الماجستير من إحدى مؤسسات التعليم التابعة لها. انتقل إلى لندن في عام 1969 وعمل مستشاراً اقتصادياً للجامعة، ثم رئيساً لبعثتها في العاصمة البريطانية. إلا أن«الخبطة» الرئيسية في حياته كانت تأسيسه غرفة التجارة العربية البريطانية التي يحكي في كتابه تفصيل نشأتها وتطورها «من دون وجل أو مجاملة» كما يقول في المقدمة.

ولم تكن غرفة التجارة العربية البريطانية كغيرها من الغرف العربية الأجنبية المشتركة. تشهد ذلك مسيرتها الطويلة منذ تأسيسها. يكفي أنها أقامت في لندن 20 معرضا للصناعات العربية. منها معرض «صنع في السعودية»، ومعرض «الخليج» في بريطانيا، أقيما في ردهات مباني أولمبيا في أواخر التسعينات. كما وصلت درجة اهتمامها بتنمية الصادرات العربية إلى حد أنها أنشأت في مقر الغرفة مركزا خاصا لهذا الغرض، هذا إلى جانب عشرات الندوات المختلفة المواضيع والتي كان المدرس فيها هو الراعي وهو الساهر وهو صاحب الفكرة.

ومما لا شك فيه أنه ورث الكثير من صفات والده الراحل الذي كان فقيهاً في اللغة والدين، كذلك من والدته، ومن شيوع «الكتاب» أو «الملا» كما يسمونه في العراق، حيث درس الطفل الصغير القرآن وحفظه تلاوة وتجويداً.

في طفولة كل منا محطات بعضها عزيز وبعضها مؤلم، وأكثر الحوادث إيلاماً في حياة عبد الكريم المدرس هي وفاة والده وهو في الخامسة من عمره، ثم وفاة أخيه الأكبر الذي كان بمثابة والده، لكن في حافظة ماضيه ذكريات عزيزة على قلبه، يذكر منها يوما خرجت البصرة الناعسة فيه عن طورها وأقفلت مدارسها ونزل الناس إلى الشوارع. كان هو في المدرسة الابتدائية ووجد نفسه في مظاهرة مع الطلبة الثانويين وهم يهتفون «شط العرب ما ننطيه سبع سنين نحارب فيه» لم يكن الصبي البريء يعرف السبب الذي من أجله تظاهر الناس، ومن الذي كان يطالب بشط العرب. لكنه كان يدرك في أعماق وجدانه الطري، أن شط العرب بقعة غالية من وطنه، وفسحة من مكان يتعانق فيه النهران الخالدان.

كانت هذه مرحلة الخيالات الحالمة كما يقول ومن هذه المرحلة يذكر أيضاً يوم فاز بجائزة في الشعر عن استظهاره والقائه في محفل عام. قصيدة حافظ ابراهيم الخالدة التي مطلعها «بيض صنائعنا». كانت الجائزة 12 كتابا، لم يصدق الولد الفقير اليتيم انه سيحملها الى البيت ويعيش معها ساعات طويلة خصبة لم ينسها قط.

محبة الوطن وحب الادب هما اللذان يميزان شخصيته ويوسمانها بطابع خاص يعرفه كل من عرف عبد الكريم المدرس طفلا وشابا ورجلا. غير ان هذه الخصال التي ما زالت ماثلة فيه تشوبها هذه الايام لوعة وحسرة مكبوتة سببها حال العرب والعراق.