باولو كويليو : دخولي السجن والمصح العقلي علمني أن أحارب باكراً

المثقفون المصريون يحتفون بصاحب « الخيميائي»

TT

فعاليات عدة كانت بانتظار الروائي البرازيلي العالمي باولو كويليو في القاهرة، منذ وصوله مساء الجمعة الفائت ولمدة ثلاثة أيام، حيث جاء مدعواً من قبل «مجموعة الجنوب للثقافة والتنمية»، وهي مجموعة أهلية قام عليها بعض الشباب المثقف منهم هبة رؤوف المدرس المساعد بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية بجامعة القاهرة، التي نسقت مع الروائي الظاهرة الأشهر قبل وصوله، وكانت مسؤولة برنامجه في القاهرة. والمفاجأة أن باولو كويليو جاء مصر على نفقته الخاصة. ويمكننا أن نتحدث طويلاً عن حياة باولو كويليو ومؤلفاته ونشاطاته، منذ بات كاتباً في الأربعين من عمره بعد كتابه الأول «حاج كومبوستيلا» وإلى الآن، لكن هذه المهمة قام بها الروائي العالمي بنفسه في الفعاليتين الأهم اللتين قام بهما; الأولى تمثلت في لقاء مفتوح بمبدعي مصر في إتحاد الكتاب، والثانية لقاء مع الشباب المصري عبر كلية الاقتصاد والعلوم السياسية بجامعة القاهرة من خلال برنامج حوار الحضارات. في الأولى قدمه على المنصة وترجم له من الإنجليزية الكاتب محمد سلماوي رئيس إتحاد الكتاب، في حضرة الروائي الكبير بهاء طاهر مترجم الرواية الأشهر لكويليو «الخيميائي» والتي صدرت تحت عنوان «ساحر الصحراء». ولم يفوت كويليو الفرصة ليعلق معترضاً في مداعبة لبهاء طاهر على تغيير عنوانه. وفي اللقاء الثاني قدم كويليو للحاضرين د. كمال المنوفي عميد كلية الاقتصاد والعلوم السياسية بجامعة القاهرة، والدكتورة نادية مصطفى رئيس برنامج حوار الحضارات بالكلية، التي أطالت مقدمتها عن كويليو صاحب البرنامج القصير لضيق وقته، مما أثار استهجان الشباب في القاعة، خاصة وان البعض جاء من محافظات مصر المختلفة للقاء كويليو، وكانت الترجمة عبر محترف من خلال السماعات. وفي المرتين أتى كويليو متشحاً بسواد كامل، بينما برزت على وجهه فرحة يصعب تجاهلها، فبدت عيناه كلؤلؤتين في وجه قط خبير لم يرهقه السفر في غابات الأساطير.

يقول «كويليو»: كان حلمي أن أزور مصر ثانية بعد أن كتبت «الخيميائي»، أردت ذلك منذ فترة، لكني كنت محكوماً بناشري اللبناني، إلى أن قابلت هبة رؤوف في سويسرا، وهذه هي المرة الأولى التي آتي فيها بلداً بنفسي لا عن طريق ناشري. اود أن أتحدث عما كتبته مصر في قلبي. جئت إليها أول مرة في عام 1978 بعد كتابي الأول، قابلت المصريين وعدت بعدها لأكتب «الخيميائي»، وقد انعكس هذا في المشهد الأخير من الرواية، حيث البطل يشاهد الإهرامات (هذا أنا) وكان معي صديق مصري كريم، اسمه حسن، ربما لن ألتقيه ثانية، لكنه يجسد الصفات المصرية. وفي طريقنا عبر الصحراء للإهرامات طلبت من حسن أن يصلي، وطلبت أيضاً أن يكون جزءاً من دعائه، أنني إن حدت عن الطريق أن أعود إلى الصراط المستقيم». وفي لقاء اتحاد الكتاب أشاد الكاتب محمد سلماوي رئيس الاتحاد بموقف كويليو الرافض للاحتلال الأميركي للعراق، وبدأت الأسئلة تتراشق على كويليو الذي كان منظماً للغاية، ومحدداً في وقته، وكان ينتهز الفرصة من آن لآخر لمداعبة ما، فبدا خفيف الدم، أو كما نقول في مصر، «ابن نكتة». كان السؤال الأول من بهاء طاهر حول تأثير الخلطة الثقافية في البرازيل على كويليو، وهل هي الدافع وراء البحث عن هويته، لكن كويليو أكد أن هذه الخلطة هي نفسها هويته، فهو يعتبر نفسه من إفريقيا وأوروبا وأميركا اللاتينية في نفس الوقت. أما سؤال الشاعر علاء عبد الهادي فتناول الأسلوب الروائي، وتحديداً حول تأثير مرحلة ما بعد الحداثة في أسلوب كويليو، مما جعل الأخير يصفه بالسؤال الفني للغاية، وأجاب «أنا أتأثر بالبشر. قرأت الكلاسيكيات وما كتبه المعاصرون، لكن حين أكون في القاهرة ولدي الخيار في أن أذهب إلى متحف أو مقهى سأذهب إلى المقهى، أعرف جيداً تراثكم العريق وما قدمتموه للعالم، ولكن بذهابي إلى المقهى سأقابل البشر. أنتم البشر الذين بنوا الإهرامات». وحينما سأله أحد الصحافيين عن كتابته للمقهورين، وأن هذا هو سبب وصول صوته لكل الناس، نفى كويليو ذلك تماماً، وأكد أنه لا يكتب للمقهورين، بل لأولئك الذين يسعون لكي لا يصبحوا مقهورين، يكتب لهؤلاء الذين يقدسون حريتهم. وحينما تحدث الروائي فؤاد قنديل عن رؤيته لما يهدف إليه كويليو، وهو البحث عن الجوهر الإنساني واستعادته من الضياع، عبر الاحتكاك بالبشر وعيش اللحظات المحتدمة، عاد كويليو إلى وسائل تعلم الإنسان، من الفن أم من البشر، فقال: «في الخيميائي لدي بطلان، أحدهما يأخذ خبرته من الحياة، والثاني يقرأ طوال الوقت. وأنا تعلمت من الطريقتين، وهذا لم يكن سهلاً. ذهبت ثلاث مرات لمصح عقلي لأنني كنت مختلفاً، وعائلتي لم تفهمني، وظنوني مجنوناً. وذهبت للسجن ثلاث مرات أيضاً أثناء الحكم الديكتاتوري في البرازيل، وكان يمكن أن أرى نفسي ضحية وأرثي لحالي، لكن اختياري أنه يمكنك التعلم من الكتب، لكن أيضاً، وهذا ما أفضله، أن تتعلم من الحياة. ولذلك، أذهب، أحياناً، للحد الأقصى في حياتي، ولدي ندبات كثيرة جداً، لكن كل ندبة هي نيشان، وهذه الندبات تقول لي كلما نظرت إليها، ربما تكون مصاباً بكل أخطاء الحياة، ولكن خطأ واحداً لم يصبك، أنك لست جباناً». وفي لقائه مع الشباب المصري، أكمل كويليو حديثه في هذه النقطة تفصيلياً، وعن نصيب كل إنسان من الفقد والخسارة. وإن كان كويليو قد سامح أمه وأباه على إيداعه المصح العقلي، أو ربما التمس لهما العذر، بل أكد انه يعلم جيداً ولا شك لديه أنهما قد فعلا ذلك بدافع الحب، فقد تعلم كويليو من المصح العقلي أن يحارب مبكراً. أما تجربة السجن فقد صرح كويليو بأنها تجربة أليمة، تلك التي يحاول الآخر أن يسيطر فيها عليك بسلطته، وأضاف: «لم أتعلم أي شيء في السجن، لم أكتسب أية خبرة، بل خبرتي كانت كراهية كاملة، لن أكتب عنها أبداً، السجن ينتهك الإنسان». وبدا كويليو أكثر حيوية لدى لقائه بالشباب، وإن لم يغير أسلوبه البسيط في الحوار الذي سار عليه في لقائه بالمبدعين في اتحاد الكتاب، وبينما كانت قاعة الاتحاد الرئيسية والتي تحتاج لتجديد لم تنله منذ سنوات، تتسع لحوالي مائة وخمسين فرداً، ضمت قاعة كلية الاقتصاد والعلوم السياسية ضعفي هذا العدد. وإن كان عدد الحضور في المرتين والذي ملأ القاعتين عن آخرهما، لا يتناسب وشهرة كويليو عالمياً وعربياً. وقد ضم لقاء كويليو بالاتحاد عدداً لا بأس به من كتاب وروائيين وشعراء وسينمائيين مصريين، استمعوا إلى كويليو، وإن لم يتسع الوقت لتوجيه سوى عدد محدود من الأسئلة. لكن اتجاه كويليو إلى رؤاه العامة خلال إجابته عن الأسئلة كان كفيلاً بتوضيح ما أراده. ومن المبدعين الذين حرصوا على حضور اللقاءين كانت الروائية هالة البدري، التي وجهت سؤالاً لكويليو حول اختياراته لحلول لمشكلات أبطاله، هذه الحلول التي تبدأ دائماً من البحث في دواخل النفس، فأفصح كويليو عن التالي: «حين تنتهي من مرحلة في حياتك، تجد باباً يفتح وعليك أن تواجه ما وراء هذا الباب. هذا الباب دوماً في ذهني. هناك عمودان أساسيان، الخوف والرغبة; الخوف مما ستواجهه حين تتخطى هذا الباب، والرغبة هي الحنين إلى ما تتركه خلفك. وكل رواياتي تنتهي حينما يفتح باب جديد، وهذا ما يحدث في حياتنا، بل ما نحتاجه دوماً في حياتنا، علينا أن نغلق تلك الأبواب بعد أن نفتحها لنواجه ما وراءها». ربما توضح فكرة كويليو السابقة مقولة له ذكرها في لقائه بالشباب: «اعتقد أنه في فترة من حياتي كنت أحاول أن أصل لإجابة على أسئلتي، وكنت بالفعل أحصل على إجابة، ومن ثم أعيد صياغة حياتي من جديد. لكنني غيرت حياتي، وتركت الأسئلة مكانها. أي أنني أعيش الأسئلة، بدلاً من محاولة الإجابة المستمرة». وإجابة عن سؤال عن أدوات الحكي الخاصة بالكاتب، وهل تكون رؤيته السابقة على الكتابة متكاملة بالنسبة للنص الذي يكون بصدده، أم قد تتخذ خطوطاً أخرى بعد البدء بعملية الكتابة، تطرق كويليو إلى بداياته الأولى، وتحدث منظوره ككاتب، ظل يقدم نفسه للجميع حتى بلغ الأربعين بوصفه كاتباً بدون أن يكتب كتاباً واحداً، فقد ظل يحلم طوال سنوات بكتابه الأول، هذا الكتاب الحلم، وأكد أن الحياة تكون صعبة على الجميع، وأن الشجعان وحدهم يحققون أحلامهم. وطوال هذه السنوات كان كويليو خائفاً من الفشل. وبعد قيامه بالحج من سنتياغو إلى كومبوستيلا، كمسيحي كاثوليكي، كتب كتابه الأول، وهنا فقط أصبح كاتباً بالفعل، وبعده شعر بضرورة الاستمرار، أي ضرورة التحدي، فقرر أن يكتب كتاباً كل عامين، وما بينهما يمارس حياته العادية. أقر بأنه يحب الحياة، بل طاقة الحياة، ويعشق السفر، فيمارس ما يشاء، وتكون لديه مئات بل آلاف الأفكار، لكن فكرة واحدة تتملكه، فيدفع نفسه في لحظة ما ليكتب، ومن هنا فهو يحفظ الكلمة الأولى من كل كتاب له.

وأتى في هذا المجال على ذكر مؤلفاته الإبداعية، وكذلك كتابه المثير 11 دقيقة، فقد أراد أن يكتب كتاباً عن الجنس، لأنه على قناعة بأن الجنس يلعب دوراً كبيراً في حياة الإنسان، لكنه لم يستطع أن يكتبه إلا بعد أن قابل مصادفة إحدى بنات الهوى في جنيف. وحينما أراد أن يكتب عن رحلة البحث عن الله، كتب عن حياته، فكانت الخيميائي. وقال: «لم تكن الكتب جاهزة، ولم تأت في نظام، طوال السنوات أردت أن أفهم نفسي، واكتشفت أنني يجب أن أكتب في روحي اولاً، ثم يكون الكتاب جاهزاً. كالطفل في رحم الأم، ثم تأتي لحظة الولادة. في حالتي كنت أحاول أن أكتب ثلاثة أو أربعة كتب، لم تكن جاهزة».

أما عن تأثير القاص والشاعر الأرجنتيني العالمي خورخي لويس بورخس في أعماله، فقد أكد كويليو أن بورخس أهم كاتب بالنسبة له، بل انه حاول مقابلته وكأنه يبحث عن أيقونة، مما دفعه للذهاب إلى بوينس أيرس فقط ليراه، وبالفعل ذهب إليه في مقهى، لكنه لم يتحدث إليه، وقال: «كنت خائفاً جداً، وقررت أن علي ألا أتكلم إليه، لأن الأيقونات مثله لا تتكلم. وذهبت أيضاً ذات يوم إلى نيويورك، فقط لأقابل جون لينون عضو فريق البيتلز، لكنه رفض مقابلتي، وقال إنه مشغول جداً».

وحديث كويليو عن مصر يؤكد حبه لها، لكن زيارته الأخيرة تلك، وعلى نفقته الخاصة، تعكس ذكاءً حاداً، فكويليو على علم بما تم من قرصنة لكتبه في ترجمتها العربية وضياع حقوقه منها، وإذا كان قد استطاع القضاء على أحد وجوه هذه القرصنة في لبنان عبر ناشره اللبناني، فقدومه إلى مصر، والذي يتزأمن مع صدور طبعة جديدة مغربية من رواية «الخيميائي»، بعد إذن كويليو المصرح به على الغلاف، يجعله يحكم القبضة على حقوق مؤلفاته في جزء كبير من العالم العربي. ففي اليوم الأخير من زيارته للقاهرة، احتفلت «دار الشروق» بالكاتب بعرض مؤلفاته، غير المقرصنة فقط، بكل اللغات بما فيها كتابه الأخير «زهير» بطبعته الإنجليزية التي منعت أخيرا في إيران.