رحيل الفيلسوف الفرنسي الكبير بول ريكور صاحب السؤالين الفتاكين: كيف؟ ولماذا؟

TT

مع انطفاء جمرة الحياة المتقدة في جسد بول ريكور، الفيلسوف الفرنسي، عن عمر مديد وخصب يناهز الـ 92 عاما، أمضاها بين الكتب، والفكر، وسط معمعة الإيديولوجيات المتعددة التي ألهبت القرن العشرين، من وجودية وبنيوية وغيرهما من المذاهب، تخسر فرنسا والعالم واحداً من أكثر فلاسفة القرن العشرين نبلا.

لم تحصر كتابات ريكور نفسها في الفلسفة المحض، وإنما دخلت في تفاصيل العصر، مما جعلها عصية على التصنيف. ويكفي ان يجيل المرء نظره في عناوين مؤلفاته الكثار، حتى يدرك رحابة النظر وامتداده في تركة هذا الفيلسوف. ومن بين أعماله البارزة «الزمن والسرد» و«قواعد الاستعارة» و«رمزية الشر» و«فرويد والفلسفة» و«الحرية والطبيعة». و«الاستعارة الحية».

رجل حوار بامتياز، لم ينغلق في نظرية واحدة مما أدى إلى تهميش فكره لفترة طويلة، في زمن اصطراع الإيديولوجيات المحموم. فهو كان يؤمن ان التحاور ينتج المعرفة الحقيقية، الحوار بين الأفكار والأديان، وليس الانغماس إلى حد العمى المعرفيّ والفكريّ في وجهة نظر واحدة. اذ الانحصار في وجهة نظر واحدة منجبة للعقم، ايا كانت خصوبة هذه الأفكار.

رجل التأويل بلا منازع، ينتقده البعض على التعرجات الفكرية التي لا تتبع خطا واحدا، الا انه كان يدرك ان الخط الواحد لا يمكن له ان يفهم الامور من كل جوانبها. وما هذا التعرج الا محاولة لالتقاط الخيط الناظم لكل تعارضات وتناقضات الحياة.

إنسان بروتستاني مؤمن. من هنا كان اهتمامه بالفلسفة الوجودية بشقها الموصول بالابعاد الدينية، وهذا ما دفعه الى بناء صداقة فكرية خصبة مع فيلسوف الوجودية المؤمنة غبريال مرسال. ولعل ظروف حياته هي التي دفعته الى ان يبحث عن الخلاص او العزاء في الإيمان. فهو عاش يتيما، اذ فقد والده في الحرب العالمية الأولى، وهو لم يتعدّ سن الفطام، ثم فقد أمه وهو لا يزال طفلا، فعاش يتما مزدوجا، كما رأى ان خلاص الانسان من امراض العنصرية التي انجبت الفاشية والنازية يكمن في الإيمان بالمسائل الاخلاقية. وظل ريكور رغم كل ما يعترض ممارسة الإيمان من فجوات أو تآويل قاسية أو ناتئة متمسكا بفضائل هذا الشعور الروحاني. وهو ما حدا بجان بول سارتر إلى اعتباره «كاهنا من اهتماماته الفلسفة الظاهراتية». ولا تخلو كلمة سارتر هذه من تنديد خفي، ماكر، بانتماء بول ريكور إلى المقلب الأخر من الوجودية، المقلب المؤمن.

وقع ريكور في قبضة القوات الالمانية عام 1939، خلال الحرب العالمية الثانية، وبقي في الاسر إلى عام 1945. تحول الاسر بالنسبة للرجل الى فرصة ذهبية، ان كان للاسر ان يكون ذهبيا، اذ استثمر هذه الفرصة للتعرف على الفلسفة الوجودية بنزعتها الإيمانية كما تجلت في كتابات كارل يسبرز (1883م ـ 1969م)، كما التفت الى التعمق في الفلسفة الظاهراتية كما تبدت في أعمال ادموند هوسرل (1859م ـ 1938م، فمن خلال ترجمته لأهم أعمال هوسرل، وكتابه عنه الموسوم «كارل يسبرز وفلسفة الوجود»، وهو من أوائل الكتب التي ألفها بول ريكور،)، لعب دوراً لا ينكر في إدخال الفلسفة الظاهراتية الى داخل الحدود الفرنسية.

ويعتبر بول ريكور ان فكره وليد ثلاثة تيارات فكرية هي: فلسفة الظاهراتية، والفلسفة الفكرية الفرنسية، والفلسفة التحليلية الاميركية. ومن الدال انه كان من المساهمين في إدخال ونشر اعمال الفيلسوف اوستين، صاحب النظرية اللغوية الشهيرة التي يلخصها كتابه: «عندما أقول فإنني افعل»، وهو كتاب ترك أثرا كبيرا في نمط من الدراسات اللغوية، عرف بنظرية «الأفعال الكلامية». ولا يزال يعتبر من أمهات الكتب في بابه.

انّ متتبع أعمال ريكور يدرك انه في كل ما كتب كان ينتمي إلى روحية «المدرسة الإنسية» التي برزت في عصر النهضة الفرنسية. وهذا الانتماء إلى المدرسة الإنسية هو الذي كان وراء مواقفه السياسية المنبعثة من ميوله الإنسانية الرحبة وشديدة النبل. وما يسجل له وقوفه وتنديده بحرب الجزائر وسياسة التعذيب التي كانت تنال من أجساد المقاومين، ما حدا بالدولة الفرنسية الى توقيفه فترة من الزمن. كما كان لريكور موقف صارم مندد بالضلال التوتاليتاري الذي قمع ثورة بودابست عام 1956، في وقت كان فيه عدد كبير من المفكرين والفلاسفة الفرنسيين يقفون موقف المتردد والمراوغ. كما وقف الى جانب شعب البوسنة.

على عمق انظاره الفلسفية، يقول ريكور ان مهمة الفيلسوف بكل بساطة هي المحافظة على استخدام سؤالين فتاكين بالجهل والغفلة، يعرفهما كل من وقع في فخ الاطفال، فالاطفال يمتازون بطرح سؤالين على الكبار وهما «كيف» و«لماذا». ويرى ان على الكبار ان يكونوا من انصار السؤالين ومن انصار البحث الدائم عن اجوبة لهما، لا الى تأجيلها او تعليقها او الهروب منها، كما يفعل اغلب الاحيان الكبار في مواجهة الصغار. فهو يرى ان باب الاسئلة مفتوح على مصراعيه، ولا شيء بمنأى عن مبضع الاسئلة، وتحريم الاسئلة مدخل الى متاه لا ينبت غير الأزمات.

من نظرياته الطريفة والحصيفة هو كلامه عن «الهوية السردية» حيث يرى ان الناس والمجتمعات تحدد قبل كل شيء عن طريق سردها لنفسها. فالحياة لا تكتسب وجودها الا من خلال طريقتها في سرد ذاتها. من هنا كان اهتمامه بالسرد التي تبدى في غير كتاب ولا سيما كتابه الضخم والفاتن «الزمن والسرد». امتدت اهتماماته الى ميادين أدبية كثيرة ايضا الا ان نظرته اليها كانت نظرة فلسفية، عميقة، ولا ريب في ان استثمارها سوف يولد فهما جديدا وعميقا لاشكالات كثيرة تخترق حياة الانسان. وهذا ما نلحظه في كتابه القيم «الاستعارة الحية»، حيث يجد ان دراسة مجازات الحياة ليس اقل غنى من دراسة حقائقها. كما ان ما ورد في كلامه عن «الاستعارة الحية» يتلاقى الى حد ما مع ما كتبه فيلسوف الخيال باشلار من حيث اعتباره ان الاستعارة هي انحراف خلاق للغة، ولكنه انحراف يكشف عن طبيعة خيال اللغة نفسها، مع ما يعنيه ذلك من سبر لأعماق الحضارة التي تجسدها هذه اللغة او تلك. ان التهميش الذي عانى منه في فترة البدايات سرعان ما انقلب الى نقيضه بدءا من تسعينات القرن الماضي، من قبل جيل الشباب، مما يعني ان افكاره وتساؤلاته الحصيفة سوف تكون رفيقا مخلصا للقرن الواحد والعشرين.

ولا ريب في ان صاحب كتاب «الذاكرة والتاريخ والنسيان» سوف يتذكره التاريخ، ولن يطويه النسيان أبدا.