عبد الله عبد الجبار.. الفتى المكي تلاميذه وزراء وسفراء.. وبقي معلما

ظلّ وحيدا عازفا عن الزواج 91 عاما و«فاطمة» الأقرب إلى قلبه

TT

أنا كافر في عين من فهم الضمير والدين والحق القويم والنبل والشرف العظيم كيما يُريد ويشتهي مقلوبة الأوضاع كاللص الكبير هذه المقطوعة الشعرية لصالح المساعد؛ كانت قد وردت في كتاب الفتى المكي المعنون بـ«التيارات الأدبية الحديثة في قلب الجزيرة العربية» الصادر عام 1959، محاولا استعادة ذلك الحماس الذي اعتلى صدره، وصدر الشبيبة في ذلك العهد ممن سعوا لتطوير الوطن، إلا أن العادات والتقاليد والظروف السائدة حينها، كانت أكبر المعوقات التي أوصدت أبواب حركة التحديث.

لكن الأحلام أخذت تصهل بجموح خلال 91 عاما من عمر الفتى المكي؛ لم تكن مجردة من ثياب الأمل، فهي مسافات زمنية بعيدة في عمره حد جذور نبتة الصبار التي ترتشف من أعماق الأرض ماءها، فكان بها النهارات الصادحة، والليالي الهادئة التي ملأتها نوارس الضوء، يتأملها مليا بصمت حينما يقف بين صخور الكورنيش الممتد غرب «جدة» المدينة العذراء الغاوية، ليعكف ظهره، ويجلس مستكينا معها، هادئا كعادته، مادا عينيه نحو مد البحر، الذي أحبه كثيرا، فينتفض خلاله الماء بقطراته، لتلامس أطراف ثوبه، وكل موجة تنجرف أمامه للحظة، تأخذ معها نفسا من صدره، وورقة خضراء من أوراق عمره.

لقد كان جامحا حد ارتفاع السحب التي ظللت يوم ولادته قبل العهد السعودي عام 1918؛ سقف بيت عائلته المكية «آل عبد الجبار» التي سكنت حارة «سوق الليل» المجاورة للحرم المكي، وفي شعب علي: شعب بني هاشم، كانت خطواته الأولى قد تنفست ذاكرة النبوة، كما أوضح صديقه الأديب فاروق بنجر، حيث يقف أمام دار مولد النبي عليه السلام (مكتبة مكة المكرمة)، وبقية آثار ذلك العهد، حاملا معه السؤال عن ذلك النور الذي هطل من السماء يوم بدأت حياة «محمد» تمطر الماء عذبا في حياة الإنسان، ويجري الصغير هنا وهناك، مطلقا بصره وقلبه في كل الاتجاهات، ومعه أسئلته، المعطرة بقداسة المكان.

وعلى يد الفقيهة جواهر بنت عبد الهادي الفقيه، تفتحت عينا الفتى، وهو في الخامسة من عمره على صوتها الحنون في كُتّابها، حيث تعلم القراءة والكتابة وحفظ القرآن ومبادئ الحساب برفقة زملائه وزميلاته من الفتيات، يجلسون معا دون ريبة، وكل منهم ممسك بمصحفه، يرددون معا حروف الهجاء التي تنطقها «ماما جواهر» أمامهم، لتكون بعد ذلك صوتا يصهل داخله من أجل المرأة وحقوقها التي هُضمت ووئدت باسم العادات والتقاليد وشعارات مزيفة باسم الدين، ويدخل في معارك حامية مع بعض من صادروا حقوقها في التعليم والعمل، وكيف لا، وقد كانت المرأة أول من علمه كيف يفكر ويكتب!.

وآثرت عائلته أن يكمل تعليمه فانضم إلى صفوف المدرسة الفخرية التحضيرية، ومن ثم التحق بمدرسة الفلاح في مكة، لتحلق به الأحلام الشغوفة بالعلم بعدها إلى «القاهرة» حيث ينضم إلى طلاب البعثة السعودية الثانية في مصر عام 1936، ويكون ضمن طلبة كلية دار العلوم «جامعة فؤاد الأول» ويحصل منها على شهادة الليسانس في اللغة العربية والدراسات الإسلامية عام 1940، كما أوضح فاروق بنجر ويقول «يعد من ضمن العشرة الأوائل الذين حملوا الشهادة الجامعية في المملكة».

وهناك على صوت «أم كلثوم» كوكب الشرق تستيقظ مسامعه معها للأحلام، وتملؤه أملا، حيث يتجمع هو وبعض أصدقائه في منزله أو منزل أحدهم كابن عمه الدكتور أحمد عبد الجبار، ليستمتعوا بصوتها الحميم الذي لا يوقفهم عنه سوى الاستراحات بين وصلة وأخرى، وبحسب قول ابن عمه «كثيرا ما اجتمعنا لنستمع لكبار الفنانين عبر الإذاعة في شقتي بالقاهرة، وليس ذلك فقط، فقد أحب عبد الله كرة القدم، وكان أهلاويا متعصبا».

ويقول الناقد حسين بافقيه أحد تلامذته المحبين له والمتواصلين معه «لقد عاد إلى مكة شابا، كله حماس للتحديث، وكان يعلم أن العلم هو مفتاح الرقي والحضارة، فكان مربيا حقيقيا، في المعهد العلمي السعودي، وكذلك مدرسة تحضير البعثات بمكة لسنوات، حتى أصبح مديرا للمعهد عام 1947».

ويتابع «إنه من القلائل الذين أخلصوا للتعليم ويفتخر أن جيلا كبيرا من المسؤولين ورجالات الدولة السعودية هم من طلابه، ومنهم الدكتور عبد العزيز الخويطر وزير الدولة، والشيخ إبراهيم العنقري المستشار السابق للملك فهد، والشيخ أحمد زكي يماني، وعابد خزندار، وغيرهم».

لقد كان عبد الله مغرما بالعلم والتعليم، واحترم نفسه كثيرا حينما أدرك حقيقة خطواته، فلم تغره المناصب العليا في الدولة، خاصة وأنه كان جامعيا ويجيد اللغة الإنجليزية في مجتمع كان لا يحظى أبناؤه حتى بشهادة الابتدائية حينها، وأصبح تلامذته وزراء وسفراء ومسؤولي دولة؛ بينما ظلّ هو ذلك المعلم، الذي علمهم كيف يفكرون بما تناوله معهم منطق وفلسفة وأدب وتاريخ، ويقول بافقيه «الأستاذ لم ينجب أبناء لأنه لم يتزوج، ومع ذلك فإن كل تلامذته يشهدون له بأبوته التي شغفوا بحنانها«.

لكنه ما فتئ أن اشتاق للعلم، والشعور بأن شهادته الجامعية التي تميز بها حينها ليست كافية، فقرر العودة إلى مصر مرة أخرى لمواصلة دراسته العليا، فما أن وصل هناك، حتى جاءته رسالة من مسؤولي الدولة السعودية تفيد بتخييره بين مواصلة الدراسة أو تولي منصب مدير البعثات السعودية عام 1950، فآثر إكمال رغبته في رعاية الأجيال القادمة، وتولى المنصب، وتمّ تعيينه المراقب الأول على البعثات السعودية في مصر، ومن خلال عمله هذا كما يقول بافقيه «رعى الكثير من الطلبة، وكثير منهم شهدوا بأنه لولا أستاذهم لما أكملوا تعليمهم».

ولكن حدثا كان مفرحا له، وملأ قلبه بشعور الأبوة التي لم يهتم بتحقيقها، حيث رأت طفلة أخته الوحيدة النور في شقته بالجيزة المطلة على النيل، فولدت في بيته لتكون الصغرى من أبناء أخته، واختار لها «فاطمة» ليكون اسمها، وتكون بعدها هي الأقرب إليه حتى الآن، وكما تقول فاطمة نفسها «دائما ما أشعر بأبوته لي، ولأبنائي، وكأنهم أحفاده، بل هو دائما ما حرص على أن أكمل رسالتي في خدمة الأدب السعودي، حتى حصلت على الماجستير وما يزال يحرضني لإكمال الدكتوراه في ذات المجال».

ولكن يظل السؤال حائرا حول عزوفه عن الزواج، ليمضي 90 سنة وحيدا، سوى الكتب والبحر والسبتية (صالون الأسبوعي) وأخته الوحيدة وأبنائها، فهل كان اسم ابنة أخته يحمل الذاكرة على التنبؤ بامرأة كانت في حياته، وظل الأستاذ وفيا لها؟ تقول فاطمة نفسها «لم يصرح خالي بشيء عن ذلك، بل دائما ما كانت والدتي تطلق نكاتها وتمازحه حتى بعدما كبر»، هل أبحث لك عن عروسة يا عبد الله ليجيبها ضاحكا «لقد تزوجتها منذ زمن، هي جميلة، ألا تعلمين أني تزوجت العلم»، هذا ما كان يقوله دائما لكل من يسأله عن سبب عزوفه عن الزواج.

وعن أسراره تقول فاطمة «لا يخبر بها أحدا، لكني سأسعى إلى ذلك حتما، فهو سؤال محرض»، وهو ذات الأمر بالنسبة لابن عمه وصديقه أحمد عبد الجبار، الذي يقول «لم يخطر في بالنا أن نسأله عن ذلك».

ولم يكن العلم وهموم المنصب الجديد شغله الشاغل فحسب، فقد زادته الحياة القاهرية تطلعا بما تميز به من رهافة الحس وقدرة أدبية ونقدية نتيجة قراءاته المتعددة باللغتين العربية والإنجليزية، وكذلك الألمانية والفرنسية، فانخرط بالاشتغال الثقافي والأدبي بمصر، وعين وكيلا لرابطة الأدب الحديث في مصر، رغم أنه سعودي وليس مصريا.

وفي عام 1955 أصدر ثلاثة أعمال رئيسة من إبداعاته هي «تمثيلية العم سحتوت» التي تم تمثيلها عبر الإذاعة، تحكي قصة رجل بخيل من مكة، وقصة عنونها «أمي» وهي كما يقول عنها بافقيه «غاية في التأثير العاطفي»، وكذلك مسرحية «الشياطين الخرس» والتي قصد منها تصوير بعض الشخوص ممن كانوا محل ثقة الدولة، إلا أنهم سكتوا عن الحق الذي تم ائتمانهم عليه، من أجل مصالحهم الشخصية، فكان سكوتهم عائقا أمام الرؤى التطويرية.

وانخراطه في الحياة الثقافية بعد تقاعده المبكر من البعثات السعودية في مصر، التي عاش بها ما يقارب 20 عاما، قد رسمت معالمها شهرة بين المثقفين والأدباء المصريين، خاصة أنه كان قد اتخذ له صالونا في شقته بالجيزة مفتوحا للمثقفين والأدباء، والتحق بمعهد الدراسات العربية العالية التابع لجامعة الدول العربية، ليكمل رسالته التربوية، وألقى بها مجموعة من المحاضرات على طلابه العرب، وهذه المحاضرات هي التي جمعها وأصدرها في كتابه الشهير «التيارات» بحسب قول بافقيه.

ويقول با فقيه «إنه لا يقل في أهميته عن المدرسة التي ينتمي إليها محمد مندور ولويس عوض وغيرهما ممن اهتموا بتيار النقد الواقعي في تلك الفترة، ولكن للأسف أننا في العالم العربي مصابون بثنائية المركز والهامش، فإن تعتيما كبيرا مورس على الأستاذ وكتابه في مصر».

ليس ذلك فحسب، بل كان مؤمنا بالقومية العربية التي كانت تتصاعد أوتارها تلك الفترة، حتى إنه قال في كتابه التيارات «وادعو للوحدة الكبرى، فهي سبيل العرب جميعا للحرية،، وهي المصنع القومي الذي يصنع فيه الثوار والأحرار، وهي الوسيلة التي ندك بها حصون اليهود ونجليهم عن ديارنا إلى الأبد»، كان حماسه هذا يتصاعد يوما بعد يوم، إلى أن حلت نكسة 1967، وتلبدت سماء مصر التي كان يعيش بها، بالغيوم السوداء، والشك والريبة من أي شكل من أشكال التجمعات الثقافية، فكان أحد ضحاياها حينما تمّ اعتقاله مع مجموعة من أصدقائه بتهمة تدبير انقلاب سياسي، فقط لأن لديه صالونا ثقافيا كبيرا، يجتمع فيه مثقفون ومفكرون لهم مواقفهم الفكرية والسياسية.

وحول ذلك يقول بنجر «لقد أمضى في المعتقل 10 أشهر تقريبا، دون تهمة واضحة، لكنه بعد تحققهم من براءته خرج، وقدم له جمال عبد الناصر خطاب اعتذار»، لكن الاعتقال لم يكن سهلا على إنسان امتاز برهافة الحس، خاصة أنه كان متأملا من عبد الناصر تحقيق حماسته التي طالما دافع عنها «القومية العربية»، فامتلكه اليأس وأصابته خيبة الأمل، ولم تكن الأجواء في الأردن مناسبة لأفكاره السابقة لمجتمعه الذي امتاز بالمحافظة خاصة أن كتابه «التيارات» كان جريئا في طرحه الثقافي والسياسي والاجتماعي كما يرى حسين با فقيه.

وطلب منه بعض المقربين من السلطة الأردنية حينها المغادرة إلى الأردن، لكنه رفض، ورغم رغبة المسؤولين في السعودية برجوعه إلى الوطن والاستفادة من خبراته، إلا أنه قرر الذهاب إلى قلب بريطانيا «لندن» وفيها عاش متنازلا عن حياة الرفاهية التي تمتع بها في مصر، حيث كانت أوضاعه الاقتصادية متواضعة.

وكما يقول بافقيه «الأستاذ كان أبيا وعزيز نفس، ورغم أنه كان بإمكانه تولى مناصب عليا، إلا أن الاعتقال أصابه بخيبة أمل في التيارات السياسية بمصر، فما كان منه سوى الذهاب إلى لندن والعيش بها معتمدا على عمله كمدرس، وعاش في بيت متواضع جدا، وحول منزله البسيط إلى مدرسة خاصة، يعلم فيها أبناء الجاليات العربية تعاليم الدين والأدب واللغة العربية»، إلا أن هذه المدرسة المتواضعة كانت مشروعا تكفل به الملك فهد فيما بعد، عندما قام بزيارته للندن، وتمّ اختياره كمؤسس لأول مدرسة عربية في لندن وفي أوروبا كلها تابعة للسفارة السعودية هناك، وأصبح مديرا لها، وهي الآن المعروفة بأكاديمية الملك فهد.

وبعد مضي سنوات طويلة في لندن، غلب الفتى المكي الحنين إلى مكة، فعاد إلى المملكة عام 1978، ليتم تعيينه مستشارا لجامعة الملك عبد العزيز، التي كانت في بداية عهدها حتى أنها لم تتوفر بها مكتبة للطلاب، فتبرع بمكتبته الضخمة بكل كتبها لطلاب الجامعة بحسب قول فاروق بنجر، لكن الفتى المكي بعد مضي عام على عمله في الجامعة، ارتأى أن يتفرغ للثقافة والفكر والكتابة في بعض الصحف، فحول منزله إلى مزار من قبل تلامذته وأصدقائه ومحبيه وأسس صالونه الثقافي الذي كان يسميه بالثلوثية، ثم تحول إلى «السبتية» وهو يوم مفتوح للجميع لا يغلق فيه بابه.

ولطالما عاش الأديب الكبير وحيدا، داخل فيلته في مدينة جدة التي اشتراها بالأقساط حتى انتهى من أقساطها قريبا، وكما تقول فاطمة «بيته كله كتب، وكل الحجر مليئة بها حتى الطابق الثاني، وحجرة الطعام وحجرة نومه»، وتتابع «أحيانا أسأله ألا تحن لأن تكون أبا؟ فيقول يا فاطمة، كيف تقولين ذلك ألست أبا لسبعة كتب، هي أبنائي، وأمارس أبوتي معها»، إلا أنه في السنة الأخيرة انتقل للعيش مع أخته، التي هي الآن في آخر الثمانينات وابنتها فاطمة في مكة، هذا الانتقال كان محزنا له، لأنه ترك بيته وتقول «دائما ما يطلب منا أن نرجعه إلى بيته في جدة، لكي يحيي السبتية التي توقفت منذ عام بسبب انتقاله إلينا».

وهكذا كانت حياة الفتى المكي مليئة بالأحداث والفكر وخدمة الوطن، فجاء تكريمه من قبل الدولة أخيرا، ليكون شخصية العام في مهرجان الجنادرية 21، بعد أن بلغ 91 عاما، يفكر في حركة التحديث الاجتماعي والتعليمي، وكما تقول فاطمة «دائما ما يردد كلماته (المشروع... المشروع)، قاصدا به الاهتمام باللغات الإنجليزية والألمانية والفرنسية، التي ينبغي على جيل اليوم تعلمها «هكذا لا يزال عبد الله مهموما بحركة التحديث والتعليم».