مجلس الحرب والحب في الجنادرية 21 تفوح منه قصص الضحك والمغامرات والأساطير

TT

بعد أن جلس القرفصاء في صدر المجلس وتوسد متكئا من القماش الشعبي القديم كان إلى يساره، فيما يده الثانية تداعب شعر لحيته التي غطاها البياض تماماً، بدأ سعيد الغامدي وهو مسن في الخامسة والستين من العمر بسرد الأساطير التي توارثها عن أجداده، وبعض القصص والتجارب التي عايشها بنفسه، يقول أبوناصر وهو ابنه الأكبر الذي يعيش معه والده في الرياض: «في الحقيقة أشعر بشيء من الارتياح لوجودي هنا اليوم، وكأني في منطقتي الباحة من حيث المكان الذي نحن فيه الآن، ومن ناحية الزوار الذين يمثلون أجيالا عمرية مختلفة، والمعروضات التي تفوح منها روائح الماضي العطرة».

مجلس الباحة في مقر إمارة منطقة الباحة على أرض الجنادرية بدا كأنه مجلس لأحد أبناء أو شيوخ المنطقة، الذي عادة ما يجتمعون به لإعلان حالة الحرب على قبيلة أخرى، أو اتفاقية للصلح والحب بين قبيلتين أو بين المتناحرين من أبنائها، وبدا واضحاً مع برودة الطقس التي شابهت الأجواء الباردة التي تشهدها منطقة الباحة هذه الأيام موقع الموقد الذي يتوسط المجلس ويمده بالدفء، بالإضافة لقيام الرجال بتحضير قهوتهم على روائح الحطب والجمر الملتهب، بدلاً من إرهاق نسائهم بتحضيرها وانصرافهن لشؤون منزلية أخرى كالنظافة والترتيب وخلافه، وكنوع من التكافل بين الرجال والنساء في زمن أصبح من الماضي.

ومقابل وجه أبوناصر جلس ياسر وبندر من أبناء المنطقة وعبد الله من أهالي منطقة القصيم، للاستماع إلى ما يقوله ذلك المسن وهم يبادلونه التفاعل الوجداني، من خلال حركة أجفانهم وشفاههم التي يلوونها مع كل حركة مخيفة، فيما تعود إلى طبيعتها عند انتهاء أبي ناصر من ذكر المقاطع المخيفة في قصته، وأحياناً ترتفع أصوات أولئك الأطفال الذين لم يتجاوزوا الحادية عشرة من عمرهم بالضحك والقهقهة، بسبب المواقف الطريفة والمضحكة التي يتعرض لها العم أبوناصر لتدفئة أجواء المجلس الذي كان يشكو من برودة الطقس بتلك الضحكات البريئة، وأحياناً يباغته أحدهم بسؤال محير عله يحرج ذلك المسن الذي لم تنطل عليه تلك الحيل الطفولية.

أما أحمد علي الذي قدم للجنادرية لمشاهدة جزء من التراث الذي أصبح يحن له، بعد أن أجبره عمله لمفارقة تلك الأجواء الأسرية القديمة في مسقط رأسه، والتي لا تزال معظم القرى في منطقة الباحة تحافظ عليها، خصوصاً من كبار السن، يقول أحمد: «منذ ما يقارب 30 عاماً وأنا أعمل هنا في الرياض، وأقوم بالسفر إلى منطقة الباحة في كل عام مرة أو مرتين على أكثر تقدير لزيارة الأهل والأصدقاء، وأنا مقل في الزيارات لمنطقتي نظراً لطول المسافة بين المدينتين، وخلال تلك الزيارات ننعم بأجواء حميمة من الألفة والمحبة مع الأهل والأقارب، وفي الحقيقة منذ أن بدأت الجنادرية فعالياتها، وأنا أشعر بأن الإجازة تضاعفت بحيث نقوم بممارسة شيء من الماضي برائحته الزكية، بدون أن نتكبد عناء السفر وإن تغير الزمان والمكان».

ويعود أبو ناصر للإمساك بطرفي الحديث بقوله: «ليست كل القصص التي نقوم بذكرها خيالية، فهناك الخيالي منها والحكايات الجدية التي فرضتها علينا صعوبة الزمان في وقت مضى، فالحياة سابقاً لم تكن كما عليه الآن من جميع النواحي، ففي الوقت الذي نتمتع به اليوم بوجود الكهرباء في منازلنا، إلا أنه في الماضي كانت أعيننا تنزف دمعاً جراء استنشاق دخان الحطب الذي نستخدمه للتدفئة والإنارة، أو بسبب الغازات المنبعثة من الفانوس المعلق داخل منازلنا (ويشير إلى فانوس معلق أمامه)، وأعتقد أنه من المفروض على أجيالنا القادمة أن تشاهد وجه المقارنة بين حياتنا في السابق وحياتهم اليوم من جميع النواحي».