للطفولة .. للنخيل .. للعصافير.. لزهرة ممنوع قطفها

صالح العزاز .. الطائر المحكي الذي جعلنا الصدى

TT

لست أدري ماذا كنت تقصد في مقالتك «نص حول تجربة الحب والخوف والامل» في «الشرق الاوسط» عدد 8548 تباريخ 2002/2/24، واي يوم من ايامك لم يكن بوتقة للحب والخوف والامل، فهل اكتشفت ذلك الآن؟ وهل انت إلا مزيج من ذلك كله؟

لما دخلت معرضك الفوتوغرافي عن الصحراء تحت شعار «بلا حدود» قلت لك يومها «انك الطفل الذي لا يكبر ابدا»، آه لو رجعنا كلنا اطفالا يا صالح، لأغلقنا كل السجون واغرقنا كل البوارج وحولنا الكل الى معارض وصور للاطفال.

يا سيدي عندما يوصف انسان بأنه طفل فهذا وسام لا يستحقه الا العظماء من الرجال، والله يعلم اني لا اراك إلا بتلك العين.

لقد كتبت في سجل الزائرين يومها: كأني بالمازني وقد اشار اليك في كتاب صندوق الدنيا فقال:

«ربَّ اشعث اغبر قد شبر فيافي الزمان لا يحمل سوى آماله وهي لوافح».

وما انت إلا ذلك الرجل يا صالح، وقد حملت صندوق الدنيا على ظهرك ليجلس اليه كل اطفالها، ويستمعون اليك وانت تحدثهم عن أعرابيتك العاشقة التي كنت تعطيها قشور البطيخ، بل والبطيخ بأكمله، وتصنعان عروة وعفراء القرن العشرين، وكيف كنتما تثقبان الوصاوص للعيون، وتحدث الاطفال عن الرجولة قبل ان تمسخ، وعن المآثر قبل ان تزور، وعن فرس عنترة الذي يبثه الشكوى قبل ان يسجن في حلبة السباق. وعن سيفه قبل ان يصبح حلية للراقصين او اكسسوارا في فيلم تاريخي سقيم نحار فيه بين تفاهة الحوار وضحالة الفكرة وسوء التوظيف وجهل المخرج، ويبقى ذلك السيف المسكين كمسرح روماني عتيق يشهد حفلا غنائيا لمطربة من الدرجة العاشرة.

وما زلت تحمل صندوقك فوق ظهرك، ولكنك الآن اصبحت تعرض فيه صورة صالح الانسان بدلا من السفيرة عزيزة والزير سالم والزناتي خليفة.

واصبح الذي يحدث الاطفال هو صالح «القطرس»، ذلك الطائر العظيم الذي يعود الى اطفاله ـ ونحن كلنا اطفالك ـ من رحلة صيد طويلة وهو خالي الوفاض فيكشف صدره لفراخه ويطعمها من لحمه ويتهاوى شهيدا، بينما تتسرب روحه العظيمة الى تلك الفراخ مشاريع طيور القطرس العظيمة، عندها ارى حروف مقالاتك وكأن في سواد مدادها اثرا من احمرار، لا يراه إلا من استطاع ان يحس في نفسه الانسان كما احسسته انت.

وشد ما اخشاه ان يكون ذلك كثوب الامبراطور السحري الذي لا يراه من الناس إلا من كان براء من كذبة او سرقة، ويتغنى الجميع بجمال الوانه وحسن صنعته، حتى اتى ذلك الطفل فكشف الكذبة كلها، لا ادري، فربما كان من جلسوا الى صندوق الدنيا الذي تحمله مع آمالك اللوافح، واستمع اليك وانت تقول ان الكاذب سيذهب الى النار، فقال للجميع ايها السادة كلكم كاذبون ولن استطيع معكم صبرا وصنع صندوق للدنيا، وربما يـأتي يوم ترى كل الاطفال وقد حملوا صناديقهم وآمالهم اللوافح. لك الله يا صالح.. ماذا تريد أن تصنع بنا؟؟

الكل يا سيدي يغني لنفسه، وانت كما قلب فيروز الطيب يا طيب القلب يا قلبي تحملني هم الأحبة ان غابوا وان حضروا حملوا جميعا مجموعات صورهم، منذ كانوا تلاميذ يغشون في الامتحانات الى ان اصبحوا اثرياء حروب، وسماسرة اسهم، وضباطا يزينون صدورهم بأوسمة بطولات الجري السريع في المعارك، واصحاب دكاكين يبيعون ثقافة ونظريات وسياسة وحداثة وما بعد الحداثة، ولو علموا ان السوق تريد لباعوا آخر طفل وغلفوه بآخر ورقة توت وكتبوا الفاتورة بدم آخر قديس، بينما انت تغني لاطفال العالم، وتصور نخيل العالم وترسم عصافير العالم، وتبكي كلما رأيت زهرة تقطف في هذا العالم.

قلت لك يوما: ان الدنيا قد امتحنتك بأسنتها فوجدتك فهرا قاسيا (الفهر حجر قاس جدا تشحذ عليه السيوف)، فأكلت زائفك وأكلت زائفها واخرجت جوهرك وصقلت جوهرها. ورحم الله أبا الطيب حين قال:

فلله وقت ذوب الغش ناره فلم يبق إلا صارم او ضبارم فأصبحت الانسان الحقيقة، ونظرت الى الدنيا فقرأت الحقيقة، وكان ذلك جواز مرورك الى كل قلب.

واتفق على ذلك من احبك ومن تمنى لك الاذى، ومن لم يصدق فليقرأ ما يكتب عنك في ساحات الانترنت وعلى صفحات الجرائد وفي عيون الناس ولهفتهم عليك في كل مجلس. وقديما قالوا:

ألسنة الخلق أقلام الحق.

ولم يكن فيهم على حد علمي من يطمع منك بمال او جاه او بما يلهث وراءه الناعقون والراقصون على آلام الآخرين فأنت لا خيل عندك تهديها ولا مال.

فكل شيء يمكن ان نشتريه من العطّار إلا الحب.

اعطيته للجميع، وكنت طائره المحكي، فاسمح لي أن اكون الصدى.